ما دلالات إفراد الجمحي طبقة خاصة بالشعراء اليهود في العصر الجاهلي؟

ما دلالات إفراد الجمحي طبقة خاصة بالشعراء اليهود في العصر الجاهلي؟


06/02/2020

من حق ابن سلّام الجمحي الاستئثار بلقب "الناقد الأجرأ" في النقد العربي القديم، لكثرة ما أطلقه من أحكام نقدية حاسمة، ولبعض ما ابتدعه من تصنيفات غير مسبوقة في كتابه الأشهر "طبقات فحول الشعراء"؛ فهو أول من أكّد واقعة النحل والانتحال في الشعر الجاهلي على نطاق واسع، وهو أول من اتّهم حمّاد الرّاوية بالكذب والتدليس دون لف أو دوران، وهو أوّل من قطع بأنّ كثيراً من قصائد حسّان بن ثابت ليست له ولكنها حُملت عليه، وهو أوّل من وجّه سهام النقد لما ورد في سيرة ابن اسحق من أشعار عن عاد وثمود وأكّد أنّها وغيرها من الأشعار لا يؤخذ منها؛ لأنّ ناقلها لا علم له بالشعر! ولا ريب في أنّ هذه الأحكام الصادمة، ما كانت لتحظى بالقبول في الحد الأدنى، لولا أنّ مُطلقها كان يتبوّأ مكانة علمية عالية، صعّبت إمكانية النيل من مصداقيته الراسخة.

اقرأ أيضاً: لماذا حرمنا ابن قتيبة من نظرية في الشعر العربي؟!
إنّ أبرز ملمح من ملامح جرأته على صعيد التصنيف، يتمثّل في اتجاهه لإفراد الشعراء اليهود في العصر الجاهلي بطبقة خاصة بهم، خلافاً لما جرت عليه عادة مؤلّفي كتب أصول الشعر الجاهلي - فالمفضل الضبي مثلاً أغفل ذكرهم تماماً- فضلاً عن كتب الطبقات والأخبار! وقد جاء ذكر الشعراء اليهود في معرض حديث ابن سلّام عن شعراء القرى، فعدّد الثمانية الأشهر منهم وهم: السّموأل بن عادياء والربيع بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وشريح بن عمران وشعبة بن الغريض وأبو قيس بن رفاعة وأبو الذيّال ودرهم بن يزيد! قلنا الأشهر لأن بعض المصادر الدينية والأدبية مثل؛ سيرة ابن هشام وكتاب الأغاني للأصفهاني، قد عدّدت أيضاً من أسماء شعراء اليهود: أوس بن دنيّ والسمّاك والغريض بن السّموأل.

إفراد الجمحي طبقة خاصة بالشعراء اليهود يؤكد تسامح وتماسك البيئة الثقافية العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول

ورغم الأهمية الاستثنائية للدلالات التي يمكن أن يشتمل عليها هذا الإفراد، إلا أنّ همّة معظم الباحثين اتّجهت غالباً إلى الاستطراد في الحديث عن السّموأل بن عادياء، بوصفه أشهر الشعراء اليهود في العصر الجاهلي دون منازع، لكثرة ما نُسب إليه من شعر يفيض بالمعاني الدينية، ولارتباط اسمه بأشهر مثل عربي قيل في الوفاء "أوفى من السّموأل"! أما بخصوص ما نُسب إليه من شعر كثير، فهناك ما يشبه الإجماع بين الباحثين على أنّ هذا الشعر منحول ملفّق؛ لأنه لا يعدو كونه نظماً لمعاني العديد من الآيات القرآنية الكريمة، إلى درجة أنّ من نظم هذا الشعر ونسبه إلى السّموأل لم يجشِّم نفسه عناء التخفّف من الألفاظ القرآنية، فجاءَت حرفية في غير موضع، ومن المستغرب أن يقدم الأصمعي تحديداً على رواية تائية السّموأل التي تعدّ نموذجاً لهذا النظم المكشوف. ومن جهة ثانية فإنّ هناك عدداً من القصائد التي نسبت له وتبيّن لاحقاً أنّها لشعراء آخرين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر اللّاميّة العتيدة:
إذا المرء لم يَدْنَس من اللّؤم عِرْضُه فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ

اقرأ أيضاً: حمّاد الرّاوية وخلف الأحمر المملوكان اللّذان عاثا في الشعر العربي فساداً
التي تبيّن لاحقاً، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنّها للشاعر الإسلامي عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي!
وأما بخصوص ارتباط اسمه بأشهر مثل عربي قيل في الوفاء، ومع ضرورة التذكير بأنّ كتب الأمثال المعدودة تقرن هذا الوفاء به وبغيره من رجالات العرب في العصر الجاهلي (انظر على سبيل المثال: "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري)، فإنّ معظم الباحثين يميلون إلى الاعتقاد بأسطورية الحكاية التي انبثق منها هذا المثل، وملخّصها أنّ امرأ القيس أودع أسلحته أمانة عند السّموأل، فطمع بها أحد زعماء الغساسنة وحاصر حصنه وطالبه بها، فأبى أن يسلّمها له، فما كان من الزعيم الغسّاني إلا أن قبض على ابن للسّموأل صدف أنه كان خارج الحصن، وهدّده بقتله إن لم يسلمه أسلحة امرئ القيس، فأصرّ السّموأل على موقفه حتى لا يقال إنه قد خَفَر عهده لامرئ القيس، وقتل الزعيم الغسّاني ابنه، فقيل: "أوفى من السّموأل"!

اقرأ أيضاً: المعلّقات بين المقدّس والمدنّس
أقول: إنّ معظم الباحثين مالوا إلى الاعتقاد بأسطورية هذه الحكاية لأسباب تتعلّق بامرئ القيس وليس بالسّموأل، نظراً لكثرة الحكايات الأسطورية التي تحف بسيرة أمير الشعر العربي وعلامات الاستفهام التي تكتنف معظم قصائده، إلى درجة أنّ الدكتور طه حسين، شكّك بوجوده جملة وتفصيلاً! وللحق فإنّ الناقد الثقافي الرصين، لا يسعه تجاهل المفارقة الصاخبة التي يمكن أن تترتب على هذا المثل في الثقافة العربية، سواء صحّت الحكاية التي انبثق منها أم لم تصح؛ لأنه يربط معاني الوفاء والتضحية والأمانة والشجاعة بزعيم وشاعر جاهلي يهودي، مع أنّ المرجعيات الدينية والثقافية الإسلامية لا تدّخر وسعاً لربط اليهود واليهودي بالغدر والخيانة ونقض العهود والجبن والأنانية والكذب!

يشي هذا الإفراد بأنّ البيئة الثقافية العربية الإسلامية تجاوزت مواقف التشدّد والخوف من اليهود بعد أن استقرت أركان الخلافة وترسّخت

وأياً كان الأمر، فإنّ من حق ابن سلّام أن نعود إلى كتابه مجدّداً لاستنباط الدّلالات التي اشتمل عليها إفراده للشعراء اليهود في العصر الجاهلي بطبقة مستقلة، ومن هذه الاستنباطات:
أولاً: يوكّد هذا الإفراد، تسامح وتماسك البيئة الثقافية العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول، الذي شهد بلوغ الخلافة ذروة قوّتها وكونيتها وثقتها واعتدادها بنفسها.
ثانيًا: يشي هذا الإفراد بأنّ البيئة الثقافية العربية الإسلامية، قد تجاوزت مواقف التشدّد والحذر والخوف من اليهود وغيرهم، بعد أن استقرت أركان الخلافة وترسّخت.
ثالثًا: يستجيب هذا الإفراد لواقع وحقيقة اندماج اليهود في الحياة العامة، واتجاه نخبتهم إلى الإسهام في الحركة الثقافية والعلمية والفكرية في العصر العباسي، بوصفهم مواطنين يدينون بالولاء للدولة والحضارة العربية الإسلامية.
رابعًا: مما سهّل على ابن سلّام الجمحي الإقدام على هذا الإفراد، أنّ بعض المصادر الأدبية الموثوقة، لم يجد أصحابها غضاضة في إيراد أسماء وقصائد الشعراء اليهود.
على أنّ هذه الاستنباطات وغيرها، لن تمنعنا من إشراع التساؤل التالي: من هم الرواة الذين اضطلعوا بمهمة نظم العديد من القصائد ثم نسبوها للشعراء اليهود؟ ولمصلحة من أُجري هذا التلفيق؟ ولماذا تقبّلها علماء كبار مثل الأصمعي ووثّقوها في مصادرهم؟!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية