ما نعشقه بالكتب نخشاه بالواقع.. آثار مختلفة للقراءة

ما نعشقه بالكتب نخشاه بالواقع.. آثار مختلفة للقراءة


08/10/2018

عهد فاضل

باتت القراءة، في الحضارة الإنسانية الحديثة، واحدة من أهم القيم الدالة على تطور الأفراد والمجتمعات، بل أصبحت حكم قيمة، يتم من خلاله تمييز شعب من شعب، وشخص من شخص.

ولأن القراءة، ببساطة، هي اليد التي تفتح باب المعرفة واكتساب الخبرات الذهنية، فهي النشاط الوحيد الذي يمكن من خلاله، اكتساب المعرفة الذهنية. على غير ما كان في الأمم القديمة، عندما كانت المعرفة أنواعاً من الحكمة الشفوية، وكانت الكتب وقتذاك، وقفاً على مريدين من نوع خاص، اكتسبوا في بعض الثقافات، صفات السحر والشعوذة أو الشرّ، نظراً إلى صعوبة تداول الكتاب نفسه، ثم صعوبة تحليل محتواه، ونوعيته.

إلاّ أن القراءة، بعد عصر الطباعة وانتشارها في أقاليم الأرض، باتت حدثاً اجتماعياً روتينياً، يمكن من خلاله للجميع القراءة والاطلاع واكتساب الخبرات. فأصبحت الثقافة، شأناً عاماً، والمعرفة نشاطاً اجتماعياً.

لكن القراءة، ذاتها، ليست هدفاً مجرداً من مضمون الاكتساب، بل هي مرتبطة بالاكتساب والتعرف، حصراً. ولا تترك القراءة، ذات الأثر، عند القراء، وكذلك فإن اختلاف المحتوى، ينتج اختلافاً بالأثر، فقراءة كتاب شعري، تنتج ذهنياً وروحيا، غير ما تنتجه قراءة رواية، أو كتاب في الاقتصاد أو الفلسفة. وكثيراً ما تكون متعتنا في كتاب، غير متطابقة مع ما نعيشه في الواقع، وما يمكن أن نتقبله ونتسامح معه، في فكرة، لا يكون كذلك، لو كنّا نختبره في سلوك شخصي. هنا القراءة تصبح تصورات ذاتية لا مشروطة، تطلق للعقل والخيال العنان، إلا أنها تبقي القارئ مكانه، لا يبرحه.

لو ناديتَ أصمَّ فلن يسمعك إلا أنه يفعل ذلك في الشعر!
قراءة الشعر، أوّل ما تتركه من أثر مرتبط بالخيال. إذ يساهم المكتوب الشعري، على تفعيل آلية التخيل في الذهن، فيتنقل في المكان والزمان، ثم يربط بين ما لا يترابط عادة في الواقع. كذلك تؤثر قراءة الشعر، على مفهوم الصورة، إذ كثيرا ما يستطيع الشعر توليد الصور في المتلقي، فضلاً من آثار "الطرب" التي يمكن أن تحدثها، فيما إذا كان المقروء الشعري، يحمل جرساً صوتيا معنياً.

وتحرر قراءة الشعر، من مبدأ تطابق الأحجام والصفات. فالقوي، يصبح، في الشعر، أسداً أو سيلاً. أما المرأة الجميلة فتكون ملاكاً. ويصبح الأطفال، عطوراً أو أنغاماً، ويصبح الكريم بحراً. هنا تترك قراءة الشعر، مساحة للخيال، كي يقوم بتغيير الأحجام والمواصفات، فيعيد تشكيل الواقع، دون أن يضطرب وجدان المتلقي، ذلك أن إعادة التشكيل هذه، تمت برضاه وبموافقته، وبلذته الخاصة أيضاً.

قراءة الشعر ضرورة رياضية للتدريب على تغيير المواصفات والأحجام، بدون أن يكون للعقل موقف رادع، ذلك أنه يتقبّلها باعتبارها من الممكنات غير مستحيلة الحدوث، مع أنها لا تتطابق مع ما خزّنه من تعريفات وصور ومعايير. وإلا كيف يمكن الاستمتاع وتقبّل هذا البيت للمتنبي: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ!). فالعقل يقول إن الأصم لا يسمع، فكيف له سماع ما يقوله المتنبي؟ إلا أن العقل ذاته يقول أيضا: هذه مبالغة القصد منها مدح الشاعر نفسه ومنحها صفات فوق المعقول. فيتقبّل العقل، هذه الحقيقة اللاعقلية!

هكذا، يفتح الشعر باباً جديداً للحقيقة، هل هي ما نعرفه فقط بالحجم والصفة، أم أن للحقيقة أشكالاً مختلفة؟ في القراءة الشعرية تكثر الأشكال المختلفة، ولا تعود مجرد تعريف واحد للشيء. ليصبح الشعر، ضرورة فنية تكتشف فيها الذات، ما تعجز عن فعله، في محتوى آخر. لأنك لو ناديتَ أصمَّ في الواقع، فلن يرد عليك، كونه لم يسمعك أصلاً. فماذا سنفعل وقتذاك، ببيت المتنبي؟ هل نرمي به من النافذة؟ كلاّ. بل نتمتع بإمكانية حصول ما لا يحصل، بالمبالغة. في الشعر تمكن الحركة من المعقول إلى اللامعقول، دون أن ينبس العقل ببنت شفة!

ماذا لو هربت منك خطيبتك أمام المدعوّين؟ ماذا ستفعل؟
يترك الشعر في النشاط الذهني والروحي، ما يختلف عما تتركه الرواية، مثلاً. ففي قراءة الرواية، يتم تحفيز آلية الكشف عن اللامرئي في الحياة الاجتماعية، والجانب الخفي من شخصيتنا، نحن القراء، عبر ردود الأفعال وفهم الآخر. حيث تحرّض الرواية على رؤية الجزء الذي لا نراه عادة في شخصيتنا، نحن، وفي شخصية الآخر، أيضاً. وما يمكن أن نراه، غرورا، عند أحد ما، يتبين أنه مجرد سلوك لشخص خجول، لا أكثر. مثلاً. هنا الراوية قد تضخّ قيم التسامح عند القارئ، ليكون أكثر صبراً وروية في تقدير موقف الآخرين. لأننا نحن عندما نفعل الشيء، في الواقع، نكون محكومين بمصلحتنا ورؤيتنا الذاتية، أما عندما نراه في الرواية، فنستطيع التخلص من "المصلحة" وندخل في التقييم العادل. وهذا هو سرّ تعاطفنا، مثلاً، مع الأشرار في الروايات، حيث تمكّن الرواية من التعامل مع الخفي في الشخصية، بشمولية. فتسقط الرواية مبدأ القانون والمساءلة، ليحل مكانها الرحمة أو الفهم أو التفهّم أو تقدير الموقف.

في الرواية، يدخل القارئ في المقارنة. فالشخصية المقروءة من لحم ودم، وقد تكون نحن في لحظة ما، ولا نعلم ماذا كنا سنفعل لو كنّا مكانها. في رواية (الأبله) للروائي الروسي ديستويفسكي، تقوم امرأة بالهرب من خطيبها، إلى أحضان عشيق سابق، فيما ينظر (الأبله) إلى المشهد، بألم واستغراب، أمام جميع المدعوين، وبكل حرج العالم. ماذا لو كنتَ مكانه؟ ماذا كنت ستفعل؟

ونعيد أولوياتنا ونضطرب، بقراءة جملة على لسان شخصية، تدفعنا للتفكير والفحص، لغرابتها وعدم اتفاقها مع ما نعرفه. إذ إن (الأبله) المشار إليه، وعلى الرغم من أنه يجسّد صورة الرجل الأكثر نقاءً، فتواجهه من تدعى (آجلايا) إذ تقول له عبارة لا ينساها القارئ: "أنتَ ظالمٌ لأنكَ لا تقول إلا الحقيقة!). ماذا نفعل أمام مثل هذا التقييم؟ ولا شك سنضطرب قليلا، إلا أننا سنحاول في المستقبل، احترام ضعف الأشخاص واعتباره جزءاً بشرياً لا يجب إخضاعه للنقد والتعنيف والتقييم الجائر. الرواية تنقذنا أحياناً، من وهْم أننا الأفضل، وإذ بنا الأكثر ظلماً. على الأقل كما قالت آجلايا للأبله.

هل تستطيع تعيين خصمك حارساً لك؟!
في رواية (موبي ديك) أو الحوت الأبيض، للروائي والشاعر الأميركي هيرمان ميلفل، تندفع إلى المقارنة، وإلى فعل التمني. إذ يقوم (آخاب) بطل العمل المستبد الحالم وقبطان السفينة، باختيار خصمه هو، لحمايته! وهذا لا يحصل: من منّا يختار خصماً له، ليكون حارسه في لحظة خطرة؟ نتساءل جميعاً، مبهورين أمام الآباء المؤسسين للثقافة الديمقراطية الأميركية العظيمة، و"نتمنى" المقدرة على فعل الشيء ذاته، وقبلها: نقارن! نتعجّب ونتوجّع.

مع جيمس جويس، في رواية (صورة الفنان في شبابه) فعلينا أن نتأكد أننا مكشوفون أمام بعضنا البعض. وتظاهرنا بالكلام عن الآخرين، قد يكون إخفاء لكلامنا عن أنفسنا. مبكٍ وموجع أن تتحدث عن الآخر، ليتبين أنك كنت تتحدث عن نفسك. هذا نراه مع (ستيفن ديدالوس) السائل رفيقه عن قدرته على مغادرة إيرلندة، مكررا السؤال عليه. ليفاجئه رفيقه بسؤال يقطع أنفاس القارئ: أنتَ عمّن تتحدث؟

لقد تبين أن ديدالوس، هو الراغب بمغادرة إيرلندا، وهو المصمم على المواجهة والفقد. إلا أنه كان يتوجه بالأسئلة لرفيقه المريد السفر من إيرلندة، كما لو أنه يسأل نفسه. إلا أنه كشفه وسأله: أنت، عمّن تتحدث؟! قشعريرة تنتابك لا تقدر سوى الرواية البارعة على صنعها.

الفلسفة تغيّر طريقة تفكيرنا لا أفكارنا نفسها بالضرورة
في كتاب فلسفي، يتغيّر أثر القراءة كليا، إذ يصبح أكثر صعوبة وترميزاً وتعقيداً. كون الموضوع المقروء، هو عبارة عن مجموعة مفاهيم مجردة، أو هو نوع من التصنيف الذهني للمعرفة، بحيث تتحول أدوات تتداخل في ما بينها، لإنتاج فكرة أو مبدأ أو رؤية أو في النتيجة: فلسفة.

وكون الفلسفة مهتمة أصلاً، بالأساسيات، أي موضوع الحياة والموت، الأنا والآخر، الوجود والعدم، والهوية واللاهوية، فإن قراءتها تفعّل جانب التحليل والمحاكمة، وتعتبر نوعاً من المواجهة ما بين معرفة المرء ومعرفة غيره، ما بين "فلسفته" هو وفلسفة سواه، وما إذا كانت المعرفة حدسية أو أفكارا فطرية أم أنها ذات طبيعة عقلية، وسوى ذلك.

إلا أن الفلسفة المشار إليها، هي الفلسفة التقليدية العامة، لا الفلسفة التحليلية، خاصة مع أوائل القرن الماضي، حيث غلبة التحليل على التفكير الفلسفي، وأصبحت الفلسفة مهارة لغوية وأسلوبية تنشط فيها اللغة المستعملة، في المقام الأول. وهنا تصبح قراءة هذه الفلسفة، تحدياً مفتوحاً للربط ما بين المدلولات التي تنتهي في الغالب متشعبة غامضة متأثرة بالمنطق الرياضي، أعلن بعدها أو بسببها "موت" الفلسفة، كونها لم تعد إعادة إنتاج لفهم العالم، بل لفهم اللغة، أو مهارات ذهنية تحليلية خالصة. ومن هنا بدأنا نرى غلبة وصف مفكّر على وصف فيلسوف، خاصة عندما بدأ التحليل يختص بقضية محددة، غير شاملة، كما كانت تفترض الفلسفات التقليدية.

إلا أن من أهم آثار قراءة المحتوى الفلسفي، هو تغيير طريقة التفكير، أو نظام التفكير. حيث تؤثر القراءة الفلسفية على مبدأ المحاكمة وتزيد من فاعليتها، أولا، أما ثانيا وهو الأهم، فإن قراءة الفلسفة تغيّر أو تعيد تشكيل نظام التفكير، فتقل فيه العقائد الثابتة والبديهيات، وتكبر فيه المحاكمة العقلية. وهنا قد لا تتدخل الفلسفة بفكرة المفكّر، بل بطريقة تفكيره وأدواته التي استعملها للوصول إلى اعتقاده أو رؤيته.

وتتغير مضامين القراءات، فمنها التاريخي والعلمي والنقدي. ولكل منها أثره الخاص. إلا أنه ليس من الضرورة أن تكون القراءات أو الفلسفات، إشارة مؤكدة إلى إنسانيتها. فالعبرة، أخيراً في السلوك البشري. خاصة أن عدداً من المفكرين والفلاسفة، كانوا عوناً لقاتل أو طاغية. لذلك القراءة، في النهاية، ليست مجرد متعة عابرة. هي نظام معرفي وسلوكي متكامل، في آن واحد معاً.

عن "العربية.نت"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية