مظفر النواب... آن للعمر بين الفنادق أن يستريح

مظفر النواب... آن للعمر بين الفنادق أن يستريح


21/05/2022

اشتق الشاعر المتمرد مظفر النواب لنفسه أسلوباً مميزاً في نظم قصائده، التي انحاز فيها لقضايا الفقراء والبسطاء والعدل ومناهضة الاستغلال والاستعمار وأنظمة الحكم السائدة، فتعرّض للسجن والملاحقة لفترة طويلة داخل وطنه، واضطر لاحقاً للعيش منفياً في غربته التي ناهزت نصف قرن تقريباً، قبل رحيله عن عالمنا يوم أمس الجمعة 20 أيار (مايو)، في مستشفى الجامعة بالشارقة بعد صراع مع المرض.

حسن ناظم وزير الثقافة والسياحة والآثار نعى مظفر النواب،  في بيان جاء فيه: إنّ النواب توفي إثر "مرض عضال"، دون مزيد من التفاصيل عن مرضه.

ووصف بيان وزارة الثقافة النواب بأنّه "من أهم الأصوات الشعرية العراقية"، وأضاف البيان أنّه "تميز بغزارة إنتاجه مع إجادة واضحة ومقدرة فذة على تطويع اللغة وامتلاكه لمخزون جمالي لا ينضب، ممّا مكّنه من كتابة الشعر بأشكاله كافة".

واعتبرت الوزارة أنّ رحيل النواب "يمثل خسارة كبيرة للأدب العراقي لما كان يمثله كنموذج للشاعر الملتزم، كما أنّ قصائده رفدت المشهد الشعري العراقي بنتاجٍ زاخر تميز بالفرادة والعذوبة"، وقالت: إنّ "منجزه سيظل ماثلاً في ذاكرة الأجيال"، مضيفة أنّها تعتزم "إعادة طباعة كتبه ودواوينه لتشكّل منهلاً للقراء والمهتمين".

حياة صعبة

وُلد مظفر النواب في العاصمة العراقية بغداد عام 1934، وهو سليل عائلة "النواب" التي كانت تحكم إحدى الولايات الهندية الشمالية قبل احتلال بريطانيا للهند.

قاومت العائلة الاحتلال البريطاني، فاستاء الحاكم الإنجليزي من موقف العائلة المعارض والمعادي للاحتلال، فعرض الحاكم على العائلة النفي السياسي، فاختارت العراق.

كانت أسرة النواب ثرية أرستقراطية تتذوق الفنون والموسيقى، وكان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقصد الشعراء والفنانين والساسة، وفق ما أورده موقع الـ "بي بي سي".

وُلد مظفر النواب في العاصمة العراقية بغداد عام 1934

وفي أثناء دراسة مظفر في الصف الثالث الابتدائي اكتشف أستاذه موهبته الفطرية في نظم الشعر، وفي المرحلة الإعدادية أصبح ينشر قصائده في المجلات الحائطية التي تُحرر في المدرسة من قبل الطلاب.

تابع دراسته في كلية الآداب ببغداد في ظروف اقتصادية صعبة، بعد أن تعرّض والده الثري إلى هزة مالية عنيفة أفقدته ثروته بما في ذلك قصره الجميل.

أكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرساً، لكنّه طرد لأسباب سياسية عام 1955، وظلّ عاطلاً عن العمل مدة (3) أعوام، في وقت صعب على أسرته التي كانت تعاني من ضائقة مالية.

 

قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة يؤدي إلى خارج أسوار السجن، فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة مدوية في أرجاء العراق والدول العربية المجاورة

التحق بالحزب الشيوعي العراقي وهو ما يزال في الكليّة، وتعرّض للتعذيب على يد الحكومة العراقية آنذاك.

بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958 تمّ تعيينه مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، فأتاحت له تلك الوظيفة فرصة تشجيع ودعم الموهوبين من موسيقيين وفنانين تشكيليين.

في أعقاب الانقلاب الذي أطاح بحكم عبد الكريم قاسم عام 1963 تعرّض الشيوعيون واليساريون لحملات اعتقال واسعة فاضطر مظفر لمغادرة العراق، فهرب الى إيران في طريقه إلى الاتحاد السوفييتي السابق.

الهروب من السجن

ألقت المخابرات الإيرانية القبض عليه، فتعرّض للتعذيب قبل أن يتمّ تسليمه إلى السلطات العراقية.

حكمت عليه محكمة عسكرية عراقية بالإعدام، إلا أنّه تمّ تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد.

وُضع مع غيره من اليساريين في السجن الصحراوي المعروف باسم "نقرة السلمان" القريب من الحدود السعودية- العراقية، حيث أمضى عدة أعوام، ونقل بعدها إلى سجن الحلة الواقع جنوب بغداد.

التحق بالحزب الشيوعي العراقي وهو ما يزال في الكليّة

قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة يؤدي إلى خارج أسوار السجن، فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة مدوية في أرجاء العراق والدول العربية المجاورة.

وبعد هروبه من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها (6) أشهر، ثم توجه إلى منطقة "الأهوار" في جنوب العراق، وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي عام.

في عام 1969 صدر عفو عن المعارضين، فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية.

أبرز دواوينه في الشعر الشعبي "الريل وحمد"، في حين كان آخر بيت شعري له على فراش المرض "متعبُ منّي ولا أقوى على حملي"

ثم شهد العراق موجة اعتقالات جديدة، وكان من بين من تعرّض للاعتقال مظفر النواب، وقد أطلق سراحه بعد فترة قصيرة.

غادر بعدها إلى بيروت في البداية، ومنها إلى دمشق، ثم تنقل بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر به المقام في دمشق.

وعاد النواب إلى العراق لأول مرة عام 2011، لكنّه ظل ينتقل بين بغداد ودمشق وبيروت.

الشاعر الثوري

عُرف النواب بثورية شعره الحافل بالرموز الثورية العربية والعالمية، المُحرّضة ضد الأنظمة القمعية والفساد السياسي والظلم. 

كما أنّ لغته الشعرية وصفت بالقاسية، وكان يستخدم فيها الألفاظ النابية من حين إلى آخر،  واستخدم في كتاباته الأولى لهجة جنوب العراق، لأنّه كان يعتقد أنّ تلك المنطقة أكثر ثورية، ومع ذلك فشل استخدام تلك اللهجة في جذب جمهور كبير، وتحوّل في النهاية إلى اللغة الكلاسيكية في أعماله اللاحقة.

ومظفر النواب، الشيوعي والقومي والوطني والحزين والحالم والثائر والمتصوف والمسكون بالأوجاع الأزلية والجاد الساخر المتفائل الحزين، تمتاز قصائده بأنّها سلسة وثرية في الوقت نفسه، يؤثثها بالبنادق والألغام والزهور والأنهار وعبق الأمهات والحنين لرائحة الوطن، ونجد النواب يقسم في قصيدة نهنهني الليل أن يظلّ مخلصاً للثورة قائلاً:

قسماً بالخبز وبالماء والرطب

قسماً بتراب أبي

لن أتأخر عن سيف يشهر ضد القمع

كتب النواب عن كل شيء إلا عن ذاته، وحين يكتب عن ذاته فإنّه يكتب عن الأوجاع الجماعية بحيث تذوب الذات في الموضوع بجدلية غير مبتذلة، وإنّما صادقة، تجربته الشعرية تمسكت بالبوصلة منذ النص الشعري الأول حتى نصوصه الشعرية الأخيرة، وذاته الشعرية صلبة في مواقفها، خصبة لم تنحرف ولم تته في بيداء الهزائم والانكسارات، ولم تستسلم أمام العواصف العاتية،  وفق ما أوردته مجلة "شجون عربية".

أعماله

لفت النواب الأنظار إليه منذ عام 1969 بقصيدته "قراءة في دفتر المطر"، وقد عرفه الجمهور العربي من خلال ملحمته الشعرية "وتريات ليلية" التي كتبها خلال 1972-1975، وظهر فيها ملتزماً بقضايا العرب القومية والسياسية والاجتماعية، وأصبح تغنّيه بها سمة ظاهرة في شعره.

اشتهر منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والموغل في نقد الأنظمة العربية الحاكمة نقداً لاذعاً يصل أحياناً مستوى "الوقاحة"، حتى لقبّه بعضهم بـ"الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي".

ورغم الحصار الذي تعرّضت له أشعار النواب إلا أنّها وجدت طريقها إلى قلب ووجدان المواطن العربي وحفظها عن ظهر قلب، لأنّها ثائرة ومستفزة وصادقة وحزينة ناطقة بلسان عشرات الملايين من الجماهير العربية الموجوعة والمتعبة، وهو القائل: 

وآه من العمر بين الفنادق

لا يستريح

أرحني قليلاً فإنّي بدهري جريح

اشتهر النواب بقصائده المسجلة بصوته على أشرطة (كاسيتات) خلال أمسياته الشعرية نظراً لطريقته الخاصة في إلقاء أشعاره، بحيث تتحول أبيات قصائده إلى ما يشبه المسرحية.

رغم الحصار الذي تعرّضت له أشعار النواب إلا أنّها وجدت طريقها إلى قلب ووجدان المواطن العربي

وهو يرى أنّ شعره أكثر بكثير ممّا ألقاه على المسارح وسُجل في الأشرطة، ويتحدث عن ضياع عشرات القصائد الطويلة بسبب عدم تدوينها ولفقدها في حادثة غرق باخرة ليبية كانت تحمل مكتبته وأشعاره، وفق ما أورده موقع "إيلاف".

ومن أشهر قصائد النواب: القدس عروس عروبتكم، وتريات ليلية، الرحلات القصية، المسلخ الدولي وباب الأبجدية، بحار البحارين، قراءة في دفتر المطر، الاتهام، بيان سياسي، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري، وغيرها الكثير.

أول طبعة كاملة باللغة العربية لأعماله صدرت في العام 1996 عن دار قنبر في لندن، وأبرز دواوينه في الشعر الشعبي "الريل وحمد"، في حين كان آخر بيت شعري له على فراش المرض "متعبُ منّي ولا أقوى على حملي".

 

وصل جثمان مظفر النواب صباح اليوم السبت إلى مطار بغداد، حيث استقبل بحضور سياسي كبير، وعلى وقع موسيقى الشرف وبأجواء من الحزن.

وعلى الرغم من أنّه من جيل سابق، لكنّ قصائده انتشرت على نحو كبير خلال الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة التي هزّت العراق في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وتناقلها الشباب تعبيراً عن رفضهم للواقع السياسي وأملهم في التغيير.

يُذكر أنّ مظفر النواب، الذي أمضى معظم أعوام عمره في المنافي، قد توفي في مستشفى الجامعة بالإمارات عن عمر ناهز (88) عاماً، ووصل جثمانه صباح اليوم السبت إلى مطار بغداد، حيث استقبل بحضور سياسي كبير، وعلى وقع موسيقى الشرف وبأجواء من الحزن.

وتقديراً لما يحمله من قيمة بالنسبة إلى العراقيين، نُقل جثمان الشاعر بالطائرة الرئاسية إلى مطار بغداد الدولي، حيث أقيمت له مراسم رسمية بحضور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.

ومن هناك، نُقل إلى مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث تجمّع المئات من الأشخاص من أجيال مختلفة بانتظار وصول جثمان النواب، قبل أن يوارى الثرى في النجف.

وقال الناطق باسم اتحاد الأدباء عمر السراي: إنّ هذا "الاستقبال الكبير لا يعني الأدباء فقط بل يعني المواطنين، فهو شاعر شعبي، وليس شاعر نخبة".

توفي في مستشفى الجامعة بالإمارات عن عمر ناهز (88) عاماً

ونعى النواب الكثير من الشعراء والأدباء العراقيين والعرب، بينهم الشاعر الأردني غازي الذيبة، الذي قال في منشور على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "رحل التروبادور العاشق مظفر النواب، لكنّ صوته ما يزال يصدح في براري الأمّة المنهكة، رحل ولم يتوقف نبض روحه عن التحريض ضد القمع والاستبداد والاحتلال والنفاق والكذب والزور".

وأضاف: "ظلّ استثنائياً في تجربته الشعرية والحياتية، لم يعش شاعر عربي حياة كالتي عاشها، تنقل بين منفى ومنفى، ومألمة وأخرى، وغادر عالمنا في منفاه... خارج وطنه، رحل بعيداً عن نخل العراق وماء العراق وحزن العراق، لكنّه ظل يحمل العراق في قلبه، ويسافر به أينما حل. لم يكتفِ مظفر بما ناله من شعبية، ليحضر في الوجدان الجمعي العربي منذ انطلقت أجنحة قصائده الأولى، ومنذ رأى فرجة ضوء بعد خروجه من المعتقل في العراق، ليفرّ إلى منافيه، دون أن يجتمع بوطنه، بل صدح صوته للعراق وفلسطين وكلّ شبر عربي، غير آبه بما سيكون عليه حاله من طرد ونفي وملاحقة".

وختم بالقول: برحيله، تفقد العربية أحد أعظم شعرائها المخلصين للشعر والثورة في التاريخ العربي."

وقد ودّعه العراقيون والعرب بتداول صوره وقصائده على مواقع التواصل الاجتماعي منذ إعلان خبر وفاته.

من جنازة الشاعر الراحل مظفر النواب

مواضيع ذات صلة:

العراق يودع شاعره مظفر النواب بجنازة رسمية وشعبية مهيبة.. صور

الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد يرحل قابضاً على قلم وبندقية

رحيل الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة: "ماتَ سحر القصيدة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية