مظفر النواب شاعر العراق الغاضب يثير الجدل حياً وميتاً

مظفر النواب شاعر العراق الغاضب يثير الجدل حياً وميتاً


22/05/2022

إبراهيم الجبين

رغم صمته الإجباري خلال السنوات الماضية، والذي فرضه عليه مرضه، فحوّله إلى تمثال حي عاجز عن القيام بما كان يفعله طيلة سنوات عمره، لم يسلم الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب من سهام النقد والتشكيك والطعن حتى حين فارق جسده الحياة. فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات التي تناقلت قصائده مبدية الحزن على رحيله حيناً، وفي أحيان أخرى تلقي اللوم عليه على مواقف نسبت إليه منها ما تم استحضاره من الماضي، قبل أن تتغير المعطيات الحالية وتصل إلى ما وصلت إليه من شروخات طائفية مزقت شخصية قارئ الأدب العربي وجعلته غير قادر على التعاطي معها كمنتج إبداعي بعيداً عمّا يجري على أرض الواقع. والكثير مما تم تناقله قصص وأساطير مختلقة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فمن افتراء قصائد قيل إنها للنواب بعد مماته، ومحاكمته عليها، كما كان يحصل في حياته، سواء كانت تلك القصائد سياسية أو حتى غنائية عاطفية.

والأكيد بين هذا وذاك، أن النواب لم يكن طيفاً عابراً حاله حال الكثيرين ممّن مروا في المناخ الأدبي العربي عبر العصور، لقد حرص ابن ”شريعة النواب“ على أن يحفر أثره على صخر من الصعب أن يمحوه الجدل ومن المستبعد أن يطويه النسيان.

”شريعة النواب“ مكان عريق رددت اسمه الحناجر، ومن لم يسمع بـ ”بشريعة النواب يسبح حبيبي، وبجاه خضر الياس هو نصيبي“. ومن لم يطرب لذكرها في أغنية المطرب العراقي الراحل يوسف عمر ”رابط ماريده يا بابا ماريده الميرابط، يا البلام جدمن جدمن يا بابا جدمن يالبلام، بشريعة النواب أنا ماريده النوب“.

قصر النواب، حيث عاشت عائلة تنتمي إلى الطائفة الإسماعيلية عادت من سفر بعيد قاده أسلافها إليه حين كانوا ممثلين للسلطان العثماني على أقاليم الهند، لتعود بعد مقاومتها للاحتلال البريطاني وتستقر أخيراً في بغداد.

كان جده الأعلى محمد علي خان النواب الذي توفي عام 1871 في بغداد صاحب ثروة هائلة امتدت على مساحات شاسعة، وضمت البساتين والبيوت التي عرفها العراقيون مثلما عرفوا أبناء الأسرة ممن اشتهرت أسماؤهم مثل أحمد آغا ونادر آغا النواب وغيرهما، عرف الناس قصصهم وحكاياتهم وتهامسوا عن خوانم منهم مثل ثريا خانم وصفية خانم وكل هؤلاء كانوا جزءاً أصيلاً من وجه بغداد المتمدن، بما حملوا من اهتمامات وميول ونشاط تجاري وشغف بالفنون والآداب.

بيئة تخلق مبدعاً

وسط المدينة العريقة، وفيما كانت تمرّ المواكب الحسينية كان مظفر الطفل يطلّ من شرفات القصر، ويرسم بعيني ذاكرته التي سيفتك بها المرض أخيراً، صورة لنسوة متلفعات بالسواد، سيكتب عنهن كثيراً فيما بعد ويروي كيف فهم الشعر العربي القديم من خلال المشاهدة، حين فسّرت له العباءات السود والعيون التي تسترق النظر إلى المواكب من كوى القصر أبيات عمر بن أبي ربيعة ”وَكُنَّ إِذا أَبصرنَني أَو سَمعنني، سَعينَ فَرقَّعنَ الكُوى بالمَحاجِرِ، فَإِن جَمحَت عَني نَواظرُ أعيُنٍ، رَمينَ بَأَحداقِ المها وَالجآذرِ، فَإِنِّيَ مِن قَومٍ كَريمٍ نِجارُهُم، لِأَقدامهم صيغَت رؤوسُ المنابرِ“. ولم يكن ثمة مكانٌ للطائفية آنذاك لا في العراق ولا في غيره من فضاء العالم العربي. كان المنبر للأدب الرفيع وحده.

أما هو فقد صاغ لنفسه رأس المنبر منذ ذلك الحين، وعرف أن حياته ستمتزج حوادثها كما لو كانت ألواناً كتلك التي تولّع بها في ساعات الرسم والعزلة، وهو ما مضى عليه بين طَيَرَانَيْنِ، الأول في اللغة والثاني في الرسم.

كتب الكثيرون عن رحلة النواب المثيرة والإشكالية، وسيكتب الكثيرون، وستبقى الحاجة ملحة باستمرار للنظر في هذا الشاعر الذي ارتبط اسمه بالعراق وارتبط اسم العراق به، حنيناً وشوقاً وغضباً وتشكيلاً وزخرفة. وكل ذلك نشأ معه وتطوّر انطلاقاً من ذلك البيت وتلك المدينة وتحت ظلال جد كان يلقنه في ظهيرات بغداد اللاهبة قصائد الشعر العربي القديم في هيئة بقي مظفر يشبهها بهيئة شاعر الهند الكبير رابند رانات طاغور.

أول بيت كتبه كان في سن مبكرة، لم يكن يدرك أنه يمتلك تلك الموهبة، درس في مدارس بغداد وشغلته مناظرها، وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة بغداد، وكان مستغرباً منه أن يتجه فكرياً نحو الماركسية، لأنه ينتمي إلى أسرة أرستقراطية بعيدة كل البعد عن معاناة الفقراء والكادحين. غير أنه آمن بالتغيير ولم يكن من باب له سوى الرفض الجذري للواقع، وهو ما كانت تمثله الحركة الشيوعية آنذاك التي عاداها الجميع، النظام الملكي والقوميون العرب والمجتمع، ولم تجد لنفسها متنفساً سوى في وسطين متنافرين، النخب والقواعد الشعبية المسحوقة.

عاش في السجن السياسي على طريقته، يدوّن ما يسمعه من ترانيم المساجين من غير السياسيين، العتالة والعمال البسطاء ومن يحفظون الشعر الشعبي العتيق، وأسهم في تنظيم المسرحيات وإعداد الاستعراضات مع مجموعة من الرفاق ستقودهم خطاهم إلى العالم لاحقاً وسيكون لكل منهم شأن كبير في مجاله، وكل ذلك قبل أن يقرّر مع مجموعة منهم حفر نفق سجن الحلة الشهير والهرب إلى الحرية، فراراً من أحكام الإعدام.

هرب من العراق في طريقه إلى روسيا، فكان في استقباله عناصر السافاك الإيرانيون الذين أنزلوا بها أقسى ممارسات التعذيب وأكثرها وحشية، وسلموه مجدداً إلى السلطات العراقية.

مرحلة التخفي والتواري عن أنظار السلطة حوّلها النواب إلى عالم شاسع زاخر بالتجارب، من العلاقة مع تراب العراق وأنهاره وأعشابه، إلى العلاقة مع سكّانه ومشاربهم المختلفة، لهجاتهم وأهازيجهم، معاناتهم مع الإقطاعيين التي استعار منها صوراً سيكتب عنها لاحقاً وتتحول إلى أيقونات في الذاكرة العراقية كما في قصة ”حجام البريس“ أو ”سعود“ الذي نقله النواب من ضحية كان سيتم تجاهلها إلى أسطورة شعبية.

دفتر المطر

 كانت قصيدته ”للريل وحمد“ أكثر من نقلة نوعية ليس فقط على مستوى القصيدة المكتوبة بالعامية، بل أيضاً حين لحنها طالب القره غولي وغناها ياس خضر، فعبرت بالأغنية العراقية إلى مزاج جديد، مزاج يضع الشاعر في موقع درامي داخل قصيدته فيتقمص الشخصيات الأخرى، وفي تلك القصيدة كانت الأنا الشعرية تعود إلى امرأة تعبر على متن قطار، فتنهمر مع عبورها في منطقة معينة كل الصور والذكريات والمشاعر التي أحبها الناس وتأثروا بها.

احتفلت الأوسط الأدبية العراقية بالنواب كشاعر بالمحكية، وأعجبه أنه لم يتوقف عن القصائد البغدادية الخفيفة لكنه استعار اللهجات من بقية المناطق العراقية لا سيما الجنوب، ما ساعد قصيدته على الانتشار أكثر.

غير أنه في لحظة معينة، وبعد أن تطورت لغته وأخيلته، قرّر الكتابة بالفصحى، فكانت ”قراءة في دفتر المطر“ أواخر الستينات من محاولاته الأولى:

”ولماذا استأجرتم لغة أخرى

وأبحتم وجه مدينتنا لليل

وتركتم في الهجر حروفي

كأصابع أيتام في الشباك

كزوايا فم طفل يبكي

من أقصى الحزن أتيت

لأغلق أبواب بيوت المهزومين

وأبشّر الإنسان بالإنسان“.

تلتها ملحمته الشهيرة ”وتريات ليلية“ وفيها انتقل النواب من شخصية عاشق رقيق منكسر إلى غاضب متفجر يكسّر الأفكار ومفردات اللغة ويستحضر التاريخ وإشكالاته إلى الراهن ومتاهاته.

رفض النواب لجميع الأنظمة العربية، يبرز جلياً في النقد اللاذع لها عبر قصائده، ولم تكن اللغة الجارحة، التي كان لسانه في الحياة نقياً منها، إلا وسيلة استعملها لينطق بما في نفوس الناس

وكان تغيير كبير قد طرأ عليه آنذاك، أنه اختار المنفى عن العراق بإرادته بعد لقاء جمعه مع نائب رئيس الجمهورية آنذاك صدام حسين، الرجل الذي بقي النواب معارضاً له ولسياساته في ما سيلي من مراحل زمنية، غير أنه رفض إسقاطه بالاستعانة بالاحتلال الأميركي واعتبر أن الغزو الأميركي للعراق ضياعٌ نهائي للبلاد.

لقد كانت لحظة سقوط بغداد شديدة القسوة على روح النواب، اعتبر أن مذاقها يختلف عن كل ما سبق من معاناة، وتلك لحظة نقلته مجدداً إلى برزخ لن يعود منه.

أعلن رفضه لجميع الأنظمة العربية، وكال لها النقد اللاذع عبر قصائده، ولم تكن اللغة الجارحة، التي كان لسانه في الحياة نقياً منها، إلا وسيلة استعملها لينطق بما في نفوس الناس:

”كنتُ على الناقة مغمورا بنجوم الليل الأبدية

أستقبلُ روح الصحراء

يا هذا البدويّ الضالع بالهجرات

تزوّد قبل الربع الخالي

بقطرة ماء“.

لم يتزود بقطرة الماء تلك، ولم يُصغِ إلى نصيحته الذاتية، فقطع مع الجميع، وكانت قضاياه هي قضايا الأمة العربية والعالم، لا وطنه وحسب، وحين هاجم الجميع، عرف أنه يغلق على نفسه الدائرة ليصبح محظوراً لدى الحكومات العربية وممنوعاً من دخول البلدان العربية، ولكن أيضاً مطلوباً ومحبباً في الشارع العربي وفي أوساط البسطاء، يتم تداول قصائده في النشرات السرية وفي أشرطة الكاسيت، وتعلّق نصوص قصائده إلى جانب صورة الثائر الأممي تشي غيفارا.

شبح غريب

كان يدرك أن هذا المسار يصنع حكايته ويحوّله إلى أيقونة من طراز خاص، مع ما عليه أن يدفع من أثمان، سيبقى يشكو منها في قصائده، لكن شكواه تلك كانت متعالية ساخرة، متهكّمة ممن يظنون أنهم بوسعهم منع صوته. وكان هذا يغريه أكثر فيواصل كسر المحرمات أكثر.

رحل إلى القاهرة فلم يجد فيها ملاذاً، وإلى بيروت التي عاش فيها جزءاً من الثورة الفلسطينية، وواحداً من مقاتليها، وصوتاً من أصواتها، وقاتل في ظفار وفي أرتيريا، وصادق الملاحقين السياسيين من مختلف الجنسيات، استضافته طرابلس الغرب، لكنه انتقل إلى دمشق لينتشر طيفه في كل مكان من تضاريسها، وهو الذي تعلّق بها وبأهلها ومناطقها المعتمة. فكتب عنها وعنهم ما لم يكتبه في أي مدينة أخرى:

”دمشقُ عدتُ بلا حزني ولا فرحي

يقودني شبح مضنى إلى شبح

ضيّعت منكِ طريقا كنتُ أعرفه

سكرانَ مغمضة عيني من الطفح

أصابحُ الليل مصلوباً على جسد

لم أدر أي خفايا حسنه قدحي

أسى حريرٍ شآميّ يداعبه

إبريقُ خمرٍ عراقيّ شجٍ نضحِ

أصابحُ الليل مصلوباً على أمل

أن لا أموت غريبا ميتة الشبح“.

لكنه مات غريباً ميتة الشبحِ. بعد أن فضّل حياة مختلفة عن حياة الشعراء المعاصرين، لم يكترث بإصدار دواوين متلاحقة بين العام والآخر، وكان كتابه المشترك شعراً ورسماً مع الفنان العراقي ضياء العزاوي إنجيلاً شعرياً بين الأيدي.

تتالت قصائده التجديدية التي قدمها كبار المغنين العراقيين، رياض أحمد، سعدون جابر، فؤاد سالم، سامي كمال، وآخرون كثر أرادوا أن يشاركوه نبرته، ويستلهموا حسه العالي. وفي المسرح كانت تجربته البديعة مع المخرج والممثل العراقي باسم قهار في مسرحية ”العربانة“. وفي الأداء قدّم مع الخبير العراقي المخضرم سعدي الحديثي سلسلة من الأمسيات الشعرية والغنائية حول العالم، عرض فيها جديده مع قديم الفنون العراقية التي حرص على ألاّ يبتعد عنها العراقيون في منافيهم.

رفض العطايا التي كانت تعرض عليه، ولم يرغب بأن تنتج عنه الأفلام الوثائقية، وكان يقول إن حياته لا تستحق، لا تعرف هل يتحتم التواضع في قراراته تلك أم النفور من الضوء، حتى حين جاء إلى دمشق المخرج العراقي القدير فيصل الياسري وعرض عليه إنتاج مسلسل عن حياته، اعتذر عن قبول الفكرة.

وفي ذروة سطوة حافظ الأسد في الثمانينات وجهت إليه دعوة لزيارة القصر الجمهوري ولقاء الأسد، غير أن النواب اعتذر عن قبول الدعوة، كي لا يحسب عليه أنه وضع يده في يد نظام فرّ من شبيهه في العراق.

كانت طريقه القصيرة من بيته في شارع الباكستان بدمشق إلى مقهى الهافانا القريب تمر على باعة الصحف وكتب الرصيف، وكان يفاجأ بطبعات لأعماله الكاملة لم يسمع عنها من قبل ولم يستأذنه أحد بنشرها.

حين عاد إلى العراق، أراد أن يلبي رغبة العراقيين، وبعد أن أعلن الاحتلال الأميركي عن شروعه في الانسحاب، فقد كان يرفض زيارة العراق وهو تحت الاحتلال، ولم يرد البقاء في ظلّ ما اعتبره حكومة مناقضة للحلم الذي طالما طارده، دولة مدنية ديمقراطية لكل مكوناتها، لا دولة محاصصة طائفية. ففضل البقاء في الشارقة نائياً عن كل شيء، بينه وبين العالم جدار ”الباركنسون“ الذي انهار يوم الجمعة برحيله.

صوت النواب هو صوت العراقيين اليوم، هم أنفسهم الذين طردوا المسؤولين الذي حاولوا المشاركة في جنازته، فرفعوا ضدهم الهتافات الساخطة، وفي مقدمتها إيران “برا برا” و“مظفّر للشعب مو للحرامية” مرفقة برشقهم بالحجارة ما اضطر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى مغادرة التشييع وترك النعش للعراقيين مكانه الطبيعي والأول والأخير بعد أن أوصى النواب أن يدفن إلى جوار أمّه في مرقدها.

وبعيداً عن مواقفه السياسية التي قد يتفق معه البعض فيها أو يختلف، يبقى مظفر النواب صوفياً من مقام كبار الشعراء الذين مروا بتاريخ الأدب العربي، وليس أدل على ذلك من قصيدته ”المساورة أمام الباب الثاني“ التي يقول في مقطع منها:

”نخلةٌ في الزاب

كان يأتي العمر يقضي صبوة فيها

ويصغي للأقاصيص التي من آخر الدنيا

هنا يفضي بها الأعراب

هبّ عصف الريح واه يوماه يوم

وانتهى كل الذي قد كان من دنيا

ومن عمر ومن أحباب

هاهنا ينهال في صمت رماد الموت

يخفي ملعب الأتراب“.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية