من "إسلام آباد" إلى "القاهرة":حلم الخلافة الذي أحرقنا... دعوة الى المراجعة!

من "إسلام آباد" إلى "القاهرة":حلم الخلافة الذي أحرقنا... دعوة الى المراجعة!


27/06/2021

يوسف بدر

شهد العالم العربي انتقالات وتحولات مفاجئة ومتسارعة منذ وقوع ثورات الربيع العربي. وكان الملمح الأكبر فيها، هو صعود الإسلامويين إلى السلطة، بعد سنوات طويلة لعبوا فيها دور المعارضة، وقاموا فيها أيضاً بتعبئة العقل العربي بما يخدم أجندتهk من خلال احتلالهم منابر الدعوة؛ إلى درجة تبشيرهم بالمدينة الفاضلة المفقودة، وترسيخ مفهوم غياب الدولة العادلة، طالما ليس على رأسها واحد من الإسلامويين، وطالما الشريعة ليست دستورها.

كان العالم العربي وما زال يعيش في إزدواجية تفكير، بين الماضي الذي يحلم به، والحاضر الذي يهرب منه ويعاني فيه، والمستقبل الذي لا يعرف عنه شيئاً؛ لأن الإسلامويين لا يعرفون إلا الحديث عن الماضي، ولذلك تفشل دولتهم؛ فلا مستقبل لأمة، غدها هو أمسها.

هذا الشلل الذي أصاب العقل العربي ليس عارضاً بل بات مرضاً عضالاً؛ لدرجة أن جانباً كبيراً منه (من الإسلامويين أو غيرهم)، لا يرى أن هناك دولة شرعية إلا دولة "الخلافة"؛ وهو ما يدفعنا للبحث عن تفكيك هذا العقل؛ لفهم الأفكار التي أصابته بالجمود والرجعية.

وتتعزز ضرورة هذا التفكيك، لأن المواطن العربي، وبعد سنوات من متابعة الإسلامويين؛ بدأ يشعر بالتناقض والتقلب في المواقف والتغير في الخطاب لدى الجماعات الإسلاموية؛ وهو ما جعله يدرك أنها جماعات ذات خطاب مصلحي/براغماتي؛ فهي لا تبشر من أجل المصلحة والعدالة لجميع الناس؛ بل من أجل جماعتها ومصالحها الخاصة، وكأنها كانت تبحث عن مدينة فاضلة على مقاس شعب الله المختار. وأقرب المشاهد الدالة على ذلك؛ هي شهادة الداعية المصري محمد حسين يعقوب أمام المحكمة المصرية، التي مارس فيها التقية والتورية، حين شعر بأن التصريح بأفكاره سيقوده إلى تهمة دعوة الشباب الى التطرف والإرهاب. 

لقد أضل الإسلامويون الشباب وأرسلوهم للجهاد من أجل أهداف رسمتها أجهزة الاستخبارات ومصالح الدول الكبرى. وفي النهاية تبرأوا مما يدعون إليه، وهو فعل الشيطان. ولقد كان الاستبداد والفساد السياسي والاجتماعي سبباً لأن يتمكن هؤلاء الإسلامويون من السيطرة على الشباب باسم مفاهيم "الجهاد" و"الشريعة" و"الخلافة". 

حلم الخلافة

بعد أن الغى البرلمان التركي السلطنة العثمانية في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1922 - وهي كانت تمثل الخلافة السنّية في العالم الإسلامي - ظهر العديد من الجماعات الإسلاموية، التي تأسست دعوتها وأهدافها على العودة إلى نظام "الخلافة" في الحكم. 

وكانت هذه دعوة كاذبة؛ لأسباب عدة، منها أن السلطنة العثمانية ما هي إلا دولة عملت لمصلحة العرق والأمة التركية، واستغلت شعار "الخلافة" لجعل العرب ينصاعون إلى حكمها. 

كما أن كل أمة في العالم الإسلامي كانت تصنع لنفسها خلافة تخدم مصالحها وأبعادها القومية؛ فالتاريخ لم يشهد فقط إلا الخلافة العثمانية، فضلاً عن وجود صراعات وحروب دارت باستمرار بين هذه الخلافات، وهو ما يؤكد أن هذا النظام هو سبب للصراع بين العرب والمسلمين أنفسهم؛ فطوال الوقت كان الخليفة قلقاً على شرعيته الدينية، وبالتالي لم تكن هذه الخلافات إلا ملكيات ولعبة عروش. 

إلى جانب أن نظام الخلافة بصورته التاريخية هو نظام كرس الدم الملكي والإلهي، وهو ما يتعارض مع بناء الدولة المدنية الحديثة، وتطبيقه في العصر الحديث يعني بناء دولة رجعية.

ولكن، إلى يومنا، ما زالت أحزاب الإسلامويين، هدفها هو حلم الخلافة، ومنها من يعلن ذلك صراحة، مثل "حزب التحرير" الذي اشتدت دعوته الى قيام الخلافة بعد قيام ثورات الربيع العربي، ومنها من يضمر هذه الدعوة في أدبياته مثل بعض الجماعات السلفية وجماعات الإسلام السياسي، مثل جماعة "الإخوان المسلمين" التي تسعى الى قيام الدولة الإسلامية.

لقد أوصل الإسلامويون مسألة الخلافة إلى درجة الفريضة الأولى، والأمر الإلهي الواجب إنفاذه، والطريق الى دولة الله الغائبة. وكرسوا الأدبيات لزرع هذه الأفكار بين الشباب؛ فاستخدموا مسائل مثل "الحاكمية الإلهية" و"الشريعة الإسلامية" و"الجهاد" و"الدعوة"، أداة لترويض عقول الشباب للمضي في سبيل قيام الخلافة.

واعتبروا أن التفسير لكل مصائب العالم الإسلامي والعربي، هو إنتهاء عصر الخلافة، وأن لا سبيل لنهضة هذا العالم إلا بالعودة لنظام الخلافة.

الخلافة خنجر في الظهر 

لطالما، تكرر جماعات الإسلامويين أن دعوتها الى الخلافة هي لخلاص العالم العربي والإسلامي من التدخلات الأجنبية والأهداف الاستعمارية، ومن أجل نهضة هذا العالم. ولكن ما كشفته الوثائق والدراسات التاريخية فضح هذه الجماعات، فهي ظهرت في لحظة تاريخية أرادتها القوى الاستعمارية لتكبيل عالمنا في أزماته ومآسيه. ومن هذه الوثائق كتاب "التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين/ Secret Affairs: Britain's Collusion with Radical Islam"، تأليف: الصحافي والمؤرخ البريطاني مارك كورتيس. 

لقد لعبت الجماعات الإسلاموية دور "الجندل" في النهر؛ حيث عطلت "حركة النهضة" الفكرية وحاربتها وطاردت روادها؛ وهو ما أدى إلى تأخر بناء الدولة الحديثة والمدنية في عالمنا العربي. فهي طوال الوقت تصرخ على المنابر وتحذر من نظام الحكم ومناهج التعليم ومن الأهداف الاستعمارية والأهداف الغربية لمحو القرآن واللغة العربية؛ بينما في الواقع تقوم هذه الجماعات بالدور المناط بها القيام به منذ نشأتها؛ فهي تشل حركة المجتمع العربي وتجعله يقبع في الماضي ويحن إلى عصر الأسلاف، ولا يتطلع إلا إلى هدم كل ما جاء بعد هذا العصر، وهو ما شهدناه مع تنظيم "داعش" في سوريا، وقيامه بهدم كل أشكال الحضارة والمدنية في المناطق التي سيطر عليها هناك. 

والشواهد كثيرة طوال تاريخ العصر الحديث؛ فلقد حارب الإسلامويون كل رواد التنوير وكفروهم؛ خشية من انفلات المجتمع من قبضتهم وانهيار حلمهم من أجل قيام دولة الخلافة.

الخلافة القومية

 يبرر الإسلامويون دعوتهم الى الخلافة الدينية، بأنها مظلة أكبر وأرحب من قوميات اللغة والعرق، التي يعتبرونها من دعوات الجاهلية؛ وهذه مسألة كاذبة؛ فأشكال الخلافة عبر التاريخ وتعدد ظهورها في آن؛ كان لأسباب قومية. ويكفي ما ذاقه العرب من حكم العثمانيين باسم الخلافة الدينية.

وإذا أتينا إلى مسألة الخلافة ونموذج "جمهورية باكستان الإسلامية"؛ نجدها تمثل نموذج الدولة الفاشلة بسبب هيمنة الجماعات الإسلاموية على المجتمع ومفاصل الدولة هناك. والبداية كانت مع حلم الباكستانيين في الاستقلال عن الهند، وأن يصبح إقليم السند التاريخي دولةً ذات حكم إسلامي.

وفي علاقة ديالكتيكية؛ لجأت هذه الدولة الجديدة إلى اتخاذ الدين قومية لها؛ حتى تكون مختلفة عن الدولة الهندية التي تشبهها في الثقافة واللغة والعرق، ولكنها تختلف معها في مسألة الدين. فكان الاهتمام بمسألة الخلافة والدين لأسباب تتعلق بأهداف قومية، وليس لأهداف رسالة عالمية سامية. ولذلك كانت "حركة الخلافة" التي تشكلت في الهند في الفترة ما بين 1919 – 1924، والتي قادها الشقيقان محمد علي وشوكت علي؛ تهدف إلى حماية الخلافة العثمانية من أجل المصالح القومية للهنود المسلمين؛ إذ إن سقوط الخلافة الإسلامية في اسطنبول كان سيضعف من موقفهم في الهند أمام الاستعمار البريطاني

وإذا نظرنا إلى الجماعة الإسلامية، التي هي من أكبر الجماعات في باكستان، والتي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941؛ نجد أن غايتها هي قيام الدولة الإسلامية في إطار نظرية جامعة عالمية، وهو ما يقود إلى مفهوم الخلافة العالمية. 

ولكن واقع الأمر في باكستان أن هذه الجماعات وغيرها لم تورث المجتمع والدولة الباكستانية إلا الصراعات الدينية والسياسية والتطرف والسقوط في مستنقع الرجعية والتخلف. وشهدت الدولة هناك ما شاهدناه في عالمنا العربي من انفصام بين النخبة المثقفة والجماهير التي يسيطر عليها الخطاب الديني، وباتت هذه الجماهير تعيش في إزدواجية فكرية بين العالم الذي يُخيله لها الإسلامويون، المبني على أكاذيب الماضي، وبين واقع العالم المرير الذي يعيشونه؛ ليصبح الفرد هناك مشلولاً ينتظر من يخلصه من واقعه؛ ولا يجد مخلصاً له إلا رجل الدين ومن شابهه.

وإذا نظرنا إلى جماعة "الإخوان المسلمين" التي هي من أكبر الجماعات الإسلاموية في مصر، وإن كانت في المرحلة الحالية تكمن كالنار في الرماد؛ نجد أن هذه الجماعة تشبه الجماعة الإسلامية في باكستان؛ فحلم الخلافة والدولة الإسلامية العالمية هو هدفها وغايتها، منذ سقوط الخلافة العثمانية. وكلاهما تشتركان في الأفكار والنهج؛ حتى أن "الإخوان المسلمين" في مصر والعالم العربي، تأثروا كثيراً بأدبيات مؤسس هذه الجماعة (أبو الأعلى المودودي)، وتربوا على مؤلفاته ومنها: "الخلافة والمُلك" و"في فهم القرآن" و"مبادئ الإسلام" و"الجهاد في الإسلام".

وكلا الجماعتين في باكستان ومصر، أثبتتا بعد ثورات الربيع العربي، أنهما تعملان ضد الدولة الوطنية؛ وأن دولة مثل تركيا المبنية على أبعاد القومية الطورانية، تستغل مسألة الخلافة لجعل هذه الجماعات خنجراً في ظهر شعوبها وطابوراً خامساً في خدمة الاستخبارات التركية.

فتركيا ما زالت تحلم بالهيمنة على العالم الإسلامي باسم خدعة الخلافة، وترسخ الأدبيات لتحقيق هذا الحلم الاستعماري. ومن ذلك، اتفاقها مع باكستان في كانون الثاني (يناير) 2021، على إنتاج مشترك لمسلسل تلفزيوني يروي مسيرة "تورك لالا" (الأخ التركي الكبير) ودوره في حركة "الخلافة" الإسلامية بين سنتي 1919 و1924 في شبه القارة الهندية. إلى جانب نشرها لمسلسلات مثل "قيامة أرطغرل" لإحياء فكرة "الخلافة" في عقول العرب والمسلمين؛ من أجل نهب بلادهم والاستحواذ عليها لأهداف قومية وتوسيعة؛ كما شاهدنا توسعها في سوريا والعراق وليبيا والسودان ومصر وباكستان وأفغانستان؛ من خلال طابورها الخامس (جماعات الخلافة، التي منها جماعة الإخوان المسلمين).

الخلاصة

 أن الجماعات الإسلاموية تتخذ من مسألة الخلافة والشريعة ذريعة لهدم الأنظمة في الدول العربية والإسلامية.

 أن الدول التي أعلنت أن نظامها قائم على أسس الشريعة؛ هي دول فاشلة؛ لأنها قامت على أسس حكم طائفة أو جماعة؛ وليس على أسس قيم الإسلام العالمية وعدالتها التي لا تحتاج إلى جماعة استبداية. والشواهد كثيرة، في دول مثل باكستان والسودان وإيران وأفغانستان.

 أن الجماعات الإسلاموية، وعلى رأسها جماعات الإسلام السياسي؛ هي جماعات ظهرت في لحظة تاريخية، كرد فعل على سقوط الخلافة العثمانية، ومازالت تحلم هذه الجماعات باحتلال مكانها.

 إن الجماعات الإسلاموية التي دعت الى الخلافة؛ هي في الحقيقة كانت تقوم بدور في خدمة السيد الاستعماري؛ حيث عطلت وأفشلت قيام أو نهوض الدولة الوطنية؛ وهو ما كانت تخشى منه القوى الاستعمارية. ونموذج ذلك الجماعة الإسلامية في باكستان؛ حيث اعتقد المفكّر الجزائري مالك بن نبي، في كتابه في "مهب المعركة" أن دعوة الإسلاميين الى قيام دولة الخلافة كان من أجل استمرار الصراع وانشقاق جبهات الكفاح ضد الاضطهاد الاستعماري. 

وكذلك الأمر بالنسبة الى مصر؛ فـ"الإخوان" عندما لم يتمكنوا من الحصول على الحكم بعد ثورة 23 تموز (يوليو)1952؛ قاموا بمحاربة الدولة القومية التي أسسها الرئيس جمال عبد الناصر، وتحالفوا مع أعدائه ومنهم الانكليز. واستمروا في انكار الدولة المدنية الحديثة حتى يومنا هذا؛ باسم الدفاع عن الخلافة والشريعة؛ بينما حقيقة الأمر؛ لأنهم ليسوا على رأس الدولة بعد.

إن الإسلامويين أنفسهم، وبتهديداتهم بنسف الدولة المدنية، ساهموا في ترسيخ السلطة العسكرية والدولة البوليسية والاستبداية في العالم العربي، وكانوا مبرراً لأفعالها وسياستها؛ فقد حاربوا كل محاولات التحديث؛ باسم حماية الشريعة والخوف من التبعية الأجنبية.

 إن التناقضات تنسف الصورة المثالية والمقدسة؛ فالإسلامويون انقلبوا على أفكارهم حينما وصلوا إلى السلطة، وهو ما جعل المواطن العربي يعيد التساؤل حول مفهوم الخلافة، ويبحث عن إجابة بعيداً من ما طرحه الإسلامويون. 

 إن الدعوة الى الخلافة هي دعوة مخادعة، الهدف منها اخضاع الناس باسم الدين؛ لأن الخلافة لن تكون سوى حكم استبدادي باسم الدم الملكي أو الحق الإلهي. ولنا في النموذج الإيراني عبرة - وإن كان شيعياً -؛ حيث تمت هندسة المؤسسات وحق الشورى والرأي لمصلحة استمرار "المرشد الأعلى" في الحكم إلى الأبد، ورسم الفقهاء ورجال الدين هالة مقدسة حوله في أذهان الناس. 

 إذا قامت الخلافة في أكثر من دولة في آن، فالبحث سيكون آنذاك عن الخليفة الشرعي صاحب الحق الإلهي، وسيواجه العالم العربي والإسلامي تكرار مآسٍ شاهدها في الماضي؛ حيث ظلت الخلافة العثمانية تشعر طوال الوقت بعدم شرعيتها؛ لأن دم السلطان العثماني ليس قريشياً؛ فنشرت "المذهب الحنفي" أينما كانت؛ لأنه لم يشترط فى الخلافة انتساب الخليفة الى قريش، على عكس باقي الأئمة. إلى جانب محاصراتها للدولة العباسية من أجل المصاهرة والحصول على الدم القريشي.

وفي العصر الحديث، نجد أن هذا الصراع قام بين تنظيم "القاعدة" وبين تنظيم "داعش"؛ فزعماء "القاعدة" سموا أنفسهم بالأمراء وابتعدوا عن مناقشة أمر الخلافة وشرعيتها؛ لأن نسبهم لا ينتهي إلى الدم القريشي. بينما زعماء "داعش" انفصلوا عن "القاعدة"، وسموا قائدهم بالخليفة؛ لأن نسبه يعود إلى الحسين بن علي. 

في هذا الكلام المطول لا نتحدث عن أساطير وحكايات من ألف ليلة وليلة؛ بل نتحدث عن واقع مرير وأسود نعيشه؛ فبمجرد ظهور البغدادي خليفة "داعش"، وجدنا الآلاف من الشباب العرب والمسلمين يبايعونه ويشدون الِرحال للجهاد معه من أجل هدم كل أشكال الحضارة وتصفير الدولة المدنية؛ باسم الشريعة ودولة الله. وهو أمر يستوجب المراجعة في المفاهيم الدينية التي فسرها ووضعها الإسلامويون لخدمة أهدافهم.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية