من قصص ملكات العرب قبل الإسلام: ماوية التنوخية... قائدة الثورة على الرومان

من قصص ملكات العرب قبل الإسلام: ماوية التنوخية... قائدة الثورة على الرومان

من قصص ملكات العرب قبل الإسلام: ماوية التنوخية... قائدة الثورة على الرومان


27/02/2024

تتجه التصوّرات السائدة في الثقافة العربية الراهنة إلى تكريس صورة سوداوية قاتمة عن حالة المرأة في عهود ما قبل الإسلام، عبر الإصرار والتركيز على ممارسات محددة ظهرت لدى بعض العرب، من قبيل تعدد الزوجات ووأد البنات. إلّا أنّ استذكار سيرة بعض الملكات العربيات في تلك العهود كفيل بمراجعة هذه  التصوّرات وتبديد جانب كبير من مضمونها.

تصدّت ماوية للإمبراطور معلنةً رفضها لقرار تعيين لوقا الأريوسي، ومؤكدةً على استقلال القرار العربي

ملكة وزعيمة "السرسين"

عُرفت الملكة "ماوية" في مصادر وكتب التاريخ الرومانية بأنها ملكة "السرسين"، أو الـ "ساركانيوس"، بحسب المصادر المكتوبة بالإغريقية، وهو الاسم الذي أطلقته المصادر الإغريقية واللاتينية على العرب المقيمين في بلاد الشام، سواء أكانوا من سكان المدن أم كانوا من البدو الرحّل المتنقلين حولها.

وكان هذا الاسم يُطلق بالتحديد على تحالف التنوخيين، وهم تحالف من قبيلة "تنوخ" التي هاجرت من اليمن واستقرّت في مناطق سوريا والأردن وغربيّ العراق وشمال الجزيرة العربية، منذ القرن الأول قبل الميلاد، إثر الانهيار الذي تعرّض له سد مأرب في القرن الثاني قبل الميلاد. ولاحقاً كان من التنوخيين الملوك المناذرة الذين حكموا في العراق، في الفترة ما بين القرنين 4ـ7 الميلاديين، وكان منهم كذلك الغساسنة الذين حكموا جنوب بلاد الشام، ما بين القرنين 3 ـ 7.   

القبائل العربية تعتنق المسيحية

بحدود القرن الرابع الميلادي حدث التحوّل الأهم للقبائل العربية المنتشرة في بلاد الشام خاصّة، وذلك مع توجهها نحو اعتناق المسيحية، وهو ما حدث تحديداً بعد فترة حكم الإمبراطور قسطنطين (306-337م)، الذي جعل المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، بعد أن كان اتباعها مضطهدين ويمارسونها بالخفاء. وهكذا، أخذت المسيحية تنتشر بين القبائل العربية، وحدث ذلك بفعل انتشار الرهبان بينها، وبفعل التواصل التجاري المستمر بين المدن والبوادي، وفي ظلّ مطامع بالتقرب من مقرّ الحكم في القسطنطينية. 

تصوير كنسي للملكة ماوية... حيث اعتبرت بمثابة راهبة وقديسة، خصوصاً بعد تنحيها عن الحكم

محاولة للاستقلال العربي

في تلك الفترة التي أخذت فيها المسيحية بالانتشار بين العرب، ولدت الملكة ماوية عام 345م، وتزوّجت من ملك العرب وزعيم تحالف تنوخ، الملقب بـ "الهواري"، قبل أن يتوفى عام 375م، فاستلمت ماوية موقع  الحكم من بعده لعدم وجود وريث له.

بالتزامن مع تولي ماوية الحكم كان أسقف مضارب العرب "تيموثاوس" قد توفي، وعقب وفاته أصدر الإمبراطور الروماني "فالنس" قراراً بتعيين أسقف للعرب هو "لوقا الأريوسي"، من أساقفة مذهب الأريوسيين، الذين كانوا أتباعاً مباشرين للقسطنطينية، وهو ما اعتبره العرب بمثابة محاولة لفرض الهيمنة الدينية والسياسية المباشرة عليهم، إذ كانوا قد قرّروا تعيين أسقف عربي يُدعى موسى. وهنا، تصدّت ماوية للإمبراطور الروماني معلنةً رفضها لقرار تعيين لوقا الأريوسي، ومؤكدةً بذلك على استقلال القرار والإرادة العربية. 

اقرأ أيضاً: اليطوريون: قصة مملكة عربية في بلاد الشام قبل الإسلام

وكانت سُمعة لوقا الأريوسي سيئة لدى قبائل العرب؛ من جهة بسبب ارتباطه المباشر بالقسطنطينية، ومن جهة أخرى بسبب ما عُرف عنه من جبروت خلال فترة توليه الأسقفية في مصر، إذ كان يُجبر أهل مصر على تبنّي مذهب الدولة، المذهب الأريوسي، كما كان قد نفى أساقفتها المعارضين له من مصر إلى بلاد الشام.

ويَرد في تاريخ ميخائيل السرياني، المعروف بـ "ميخائيل  الكبير": (في عام 373م وما بعدها انتخب الأساقفة الأرثوذكس ناسكاً معروفاً بمكرماته يُدعى موسى لمنطقة مملكة ماوية أميرة العرب). ويورد المؤرخ الروماني روفينوس أنّ (الثورة بقيادة ماوية كانت بسبب رفض الإمبراطور تعيين الناسك موسى الذي أرادته ماوية أسقفاً لشعبها).

اندلاع الثورة... واستعادة سيرة زنوبيا من جديد

إزاء الرفض والتحدي الذي رفعته ماوية، قرّر الإمبراطور فالنس التصعيد والاتجاه نحو الصدام، فأمر بنفي موسى مع عدد من الأساقفة العرب وطردهم إلى الإسكندرية، وبدأ بحشد جنوده لقتال التنوخيين بغرض تأديبهم وإجبارهم على التبعية لحكمه. 

قرّرت ماوية اعتماد أسلوب وتكتيكات حرب العصابات في مواجهتها مع القوّات الرومانية

وأمام التهديد والحشد العسكري الروماني، رأت ماوية أنّ المواجهة العسكرية المباشرة بالصورة التقليدية، جيش مقابل جيش، لن تكون في صالح التنوخيين. فقرّرت اعتماد أسلوب وتكتيكات جديدة، وتراجعت وجيشها بعيداً عن مدن خناصر وحلب، والانسحاب باتجاه الجنوب والشرق، إلى البادية، ومن هناك فتحت جبهة ممتدة من أقصى شمال سوريا وحتى مصر جنوباً، وبدأت بتوجيه الضربات إلى المدن والحاميات الرومانية، واستمرّت على ذلك طوال مدّة 3 أعوام، ما بين عاميْ 375م و379م، متبعةً ما بات يُعرف اليوم بـ "حرب العصابات" وتكتيكات "اضرب واهرب"، مستنزفةً القوّات الرومانية دون خوض مواجهة مباشرة معها.

ويرد أفضل وصف لثورة ماوية هذه عند المؤرخ روفينوس، يقول: (أشعلت ماوية ملكة القبائل العربية نار حرب شعواء بفلسطين ودمشق ومنطقة الثغور العربية، خرّبت فيها القلاع واجتاحت المدن والقرى والأرياف. لقد أضعفت بهذا القتال الدائم القوات الرومانية، وأهلكت الكثير منها واضطرت الباقين إلى الهرب). أمّا المؤرخ سوزومين، فيذكر في تاريخه: (في ذلك الزمان مات ملك العرب، فنقض العرب اتفاقياتهم مع الرومان، وقد حكمت زوجته ماوية العرب، واجتاحت جيوشها مدن فينيقية وفلسطين حتى مناطق مصر). 

صورة الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس على عملات مصكوكة في عهده، الذي شهد انفضاض التحالف بين التنوخيين والرومان

في ربيع العام 378م، ونتيجة الضربات المستمرّة واستنزاف قواته، قرّر فالنس الانسحاب من سوريا، وبذلك انهزم الجيش الروماني أمام ضربات ماوية وجيشها العربي التنوخي. وطلب الرومان الصُلح، فكان لهم ذلك، على أن يُعيّن الأسقف موسى أسقفاً للعرب في بلاد الشام. وامتدّت سيطرة المملكة التنوخية إثر ذلك من حلب شمالاً حتى خليج العقبة جنوباً.

هذه الثورة العربية، التي قادتها ماوية من البادية السورية، أعادت إلى أذهان الرومان سيرة الملكة زنوبيا ملكة تدمر التي قادت عصياناً واسعاً على الحكم الروماني، وسيطرت على معظم سوريا قبل ذلك بقرن من الزمان.

فترة بسيطة من الوفاق والسلام

تمّ عقد الاتفاق بين العرب والرومان، وجرى تعيين الأسقف موسى، ليكون بذلك أوّل أسقف عربي يُعيّن على العرب، ما عنى إرساء أولى دعائم إنشاء كنيسة عربية مستقلة، وهو ما كان يعني في حسابات تلك المرحلة تحقيق قدر كبير من الاستقلال السياسي العربي أيضاً عن الحكم الروماني. 

اقرأ ايضاً: شيرين خانكان تشتبك مع المحظور الديني: المرأة مستقبل الإسلام

ونجحت ماوية في استعادة الامتيازات التي حظي بها الحلف التنوخي من قبل في عهد حكم الإمبراطور يوليان (361-363م). ولتوطيد دعائم الاتفاق قامت ماوية بتزويج ابنتها الأميرة تشاسيدات إلى قائد في الجيش الروماني يُدعى "فيكتور". وبحسب ما جاء في المعاهدة بين العرب والرومان، فإنّ العرب التزموا بإرسال قوّات للمحاربة إلى جانب الرومان ضدّ القوط في شبه جزيرة البلقان، وهكذا جلبت ماوية السلام لشعبها، إلّا أنه لم يدم طويلاً.

الثورة من جديد

قُتل الإمبراطور فالنس على يد القوط في إحدى معاركه معهم في البلقان، وخلفه على عرش القسطنطينية الإمبراطور ثيودوسيوس الأوّل (379-395م)، الذي كان قد جاء من إسبانيا، ولم يكن ملمّاً بأحوال الشرق. وبعد إعادة ترتيب أروقة البلاط واختيار موظفين جدد، لم يقع الاختيار على أيّ عربي ضمن الطاقم الجديد، ووقع الانحياز من قبل ثيودوسيوس إلى القوط، فاختار منهم العدد الأكبر لإشغال الوظائف الإدارية والعسكرية، وذلك بعد توقيع معاهدة معهم. حدث ذلك بسبب من تأثير كبار رجال الدولة الرومان، الذين كانوا يضمرون الحقد للعرب وقائدتهم ماوية بسبب ما ألحقوه من هزيمة بالجيش الإمبراطوري، فكان لهم التأثير على ثيودوسيوس ودفعه باتجاه الانقلاب على المعاهدة مع العرب. وهو ما تأكدّ في عام 381م، عندما عُقد المجمّع المسكوني في القسطنطينية، ولم يُدع أيّ أسقف عربي إليه.

الثورة العربية التي قادتها ماوية من البادية السورية أعادت إلى أذهان الرومان سيرة زنوبيا ملكة تدمر

ومع إنقاص العائدات المالية المقرّرة للعرب في الاتفاق مع الرومان، تيقنت ماوية من خيانة الإمبراطور الجديد ونقضه لما بينهم من عهد. وفي عام 383م قرّرت قيادة ثورة جديدة، إلّا أنّ الظروف والمعطيات كانت قد تبدّلت خلال الفترة ما بين الثورتين، إذ كانت القسطنطينية قد عقدت هدنة مع الفرس، وكان الصراع مع القوط في البلقان قد توقف إثر عقد معاهدة سلام معهم أيضاً. 

نتيجةً لذلك، تمكّن الرومان من التفرّغ هذه المرّة للتنوخيين، وأرسلوا عدداً أكبر من الجيوش إلى سوريا، وبذلك وجّهوا ضربة قاسية لهم، ما أدى إلى إخماد الثورة سريعاً، وتفريق شملهم.

إعادة ترتيب التحالفات

انتهت بذلك علاقة التحالف والوفاق الروماني التنوخي، وقرّر قسم من التنوخيين العودة إلى أراضي الدولة الفارسية، التي كانوا قد أتوا منها قبل ذلك بنحو قرن إثر خلافات مع الملك الفارسي  شابور الأول (240-270م)، وقد انضمّوا إلى أبناء عمومتهم في مملكة المناذرة. أمّا الرومان، فقد عقدوا معاهدة حماية مشتركة مع قبيلة عربية أخرى في البادية السورية هم "بنو صالح"، الذين أصبحوا المعاهدين للقسطنطينية في القرن الخامس الميلادي. وكان الرومان حريصين في تحالفهم معهم على عدم تكرار سيرة زنوبيا وماوية من قبل، فظلّت رقعة نفوذ بني صالح محدودة. وكان الرومان يحرصون على عقد التحالفات مع القبائل العربية في مناطق البادية، وذلك بغرض تأمين الحماية من أيّ غزوات محتملة للبدو، وكذلك من أجل الاستفادة من أبناء القبائل الحليفة وتجنيدهم وإرسالهم إلى جبهات القتال في حروبهم مع الفرس أو البرابرة، من القوط، والآفار، والهون، وغيرهم.

أمّا ماوية، فيرد اسمها في نقش مكتوب باليونانية يعود إلى عام 425م، عُثر عليه على مقربة من مدينة خناصر، في ريف حلب الجنوبي، شمال سوريا، ويرد فيه أنها قد قامت ببناء صرح مُخَصّص للقديس توما، ما يوحي بأنها كانت قد تفرّغت لأمور العبادة وابتعدت عن شؤون السياسية بعد زوال ملكها، وأنها ظلّت كذلك حتى وفاتها هناك، في خناصر. 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية