من يحطم أصنام العصر الجديد؟

من يحطم أصنام العصر الجديد؟


10/07/2018

آزر، صانع أصنام الصابئة الكلدانيين، ومقدم قرابينها، والآخذ بناصية الناس إليها خاضعين مذعنين، أبو إبراهيم الذي علّق الفأس برأس كبيرها، بعد أن أعملها فيها وحطّمها، مؤذناً بذلك بولادة الفكرة الحضارية التي إليها تنتسب قيم الحرية والعدالة وكرامة الإنسان.

إنّها أول مهمّة لتحرير الأفكار من أعناق الأحجار، والإجابة العملية عن سؤال أبيه: (أراغب أنت عن آلهتي؟) ولعلّ التاريخ، هذا الموغل في الكشف، والواصل بين الزمنين (زمن أصنام آزر، وزمن الصنمية الحديثة)، يعيد السؤال ذاته المبدوء بالهمزة الاستفهامية، التي يقول عنها النحويون إنّ لا محل لها من الإعراب، ويضعها المعنى الدلالي في محل استنكار فعل الرغبة عن هذه الآلهة التي صنعها آزر بيديه، وعلى عين القوم، وأشربوها في قلوبهم.

ما نعانيه اليوم من مشكلات وتحديات وتهديدات هو بفعل هذا التصنيم أو التوثين إذ حمل الوثن على اعتبار أنّه مقدس

إنّها الآلهة الجديدة، الوثنية المستعادة، والاستصنام السلطوي والديني في آن معاً.

وكأنّ ما نعانيه اليوم من مشكلات وتحديات وتهديدات، هو بفعل هذا التصنيم أو التوثين، إذا ما حمل الوثن على اعتبار أنّه مقدس، بلا صورة أو هيئة، والصنم ما وجد على صورة أو هيئة، وعلى أية حال فإنّ هذه الحالة الثنائية للصنمية والوثنية ما تزال طقوسها تملأ أركاننا وأنحاءنا، وتؤثث وعينا بالآلهة المقدسة المصنوعة من الأفكار المتصلبة المشربة بشراسة لا تقبل الترويض، فحين قال أبو إبراهيم لإبراهيم: أراغب أنت عن آلهتي؟ كان قد استحكم في وعي الأول الوثن الفكري العنيد.

اقرأ أيضاً: من الإكراه إلى الحرية.. نحو عقل منفتح وقلب لا تحده حدود

هذه مجرد محاولة للخروج من التباس التوثين المستحكم في العقول والمتلبس في الأفكار والأوراق الصفراء، فأولئك الذين حملوا عبء الرجم بالحجارة عن أبي إبراهيم، حين قال: (لئن لم تنته لأرجمنك)، هم ممارسون عمليون للتوثين، ويعكسون خصائص سلطة الفساد في السياسة والاعتقاد، التي صنعت لنا الأصنام والأوثان، وكانت من إنتاج ثقافة وثنية متجددة على الدوام، وكما قال الحسن البصري: "لكلّ أمة وثن"، ووثن هذا الحاضر الفكر المتصلب تحت جبة أو عمامة حظها من الوعي حظ شاة في أرض رعي جرداء.

الذين حملوا عبء الرجم بالحجارة عن أبي إبراهيم حين قال: لئن لم تنته لأرجمنك، هم ممارسون عمليون للتوثين

كيف يمكننا أن نعيد إنتاج وعينا وثقافتنا بعيداً عن هذا التوثين والاستصنام؟ وكيف لهؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم حراس المعبد أن يستدركوا ما أشربوا في قلوبهم من تبعية وانقياد وتقليد أعمى مربك؟

أجاد العرب في الرد على أصحاب الأصنام، وألفوا وصنفوا الكتب والأوراق والرسائل، يقول هنا "الألوسي": "ولأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ كتاب "الأصنام"، وقد أبدع فيه"، وألف أبو زيد البلخي كتاب "الرد على عبدة الأصنام"، ولأبي عبد الحسين الخالع "آراء العرب وأديانها"، والذي وصل، بحسب ما يرجحه بعض الباحثين، كتاب "الأصنام" لابن الكلبي" فقط، وحين لم تصل كتب الرد على الأصنام، كانت كثير من الأصنام، قد وصلت وتركت خلفها في كهوف التاريخ الردود والنقود التي تفضح زيف الزمن الصنمي.

بين الصنم القديم والجديد مسافة مليئة بالأفكارالتي أنتجت غول الدين المنفلت من عقال الفكر الديني السليم

بين الصنم القديم والوثن الجديد، مسافة مليئة بالأفكار المتفجرة التي أنتجت "غول" الدين المنفلت من عقال الفكر الديني السليم والإسلام القويم، آخذاً هذا بالتنقل في الرؤوس، التي تلقت الدين بالعاطفة النيئة التي لم ينضجها وعي، ولم يختبرها إدراك أو تعلم، فتشكلت فيها صنميات جديدة ووثنيات محدثة، روجت في العقول وشكلت ما يمكن وصفه بـ "لعنة التراث"، وليس كلّ التراث، كي لا يحمل علينا الحاملون، الوهم والتجديف وربما الردة والطعن في الدين؛ إذ ليس كلّ التراث زور، كما أنه ليس كله يقين، وليس التراث هو الدين عينه، وفي الأخير؛ مما في الأول، مما لا يليق به الكثير، وقد قال الرسول الكريم، عليه السلام، بحسب متن الحديث عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)، وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً)؛ إذ يحدث أن يضع أحد في الدين مما ليس منه، وأن يعمل أحد عملاً الدين منه براء.

اقرأ أيضاً: "نحن أعداؤنا".. قصة اليقين الذي يشبه الخرافة

الذين حولوا التراث إلى وثن أو لعنة، أدخلوا الناس والمجتمعات في "لعنة الحداثة" كرهاً، فصرنا بين لعنتين أحلاهما مرّ، فمن يحمل، إذاً، فأس إبراهيم القديم، ومن يكسر أصنام العصر الجديد؟ ومن يُبرّئ الدين من لوثات الصنميين الجدد من أفراد وجماعات تستأثر بالدين وتحتكر الحقيقة واليقين؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية