هزيمة العثمانية الجديدة وتصدّع الوهم الإمبراطوري

هزيمة العثمانية الجديدة وتصدّع الوهم الإمبراطوري


08/09/2020

ترجمة: محمد الدخاخني

من الصّعب العثور على أيديولوجيا "جديدة" منفصلة تماماً عن نسختها الأصلية أكثر من العثمانية الجديدة، النظرة السياسية المرتبطة بالإسلامويين الحاكمين في تركيا، والمدفوعة بإعادة تخيّل مليئة بالتّستوستيرون لماضٍ إمبراطوريّ مجيد.

في الواقع؛ إنّ العثمانية الجديدة للرّئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، العدالة والتّنمية، ليست فقط غير مرتبطة فكريّاً، لكنّها أيضاً تتعارض تماماً مع مبادئ العثمانيين الأصليين، أنصار التعددية والدستورية والبرلمانية في القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الإمبراطورية العثمانية.

اقرأ أيضاً: كيف انتهت محاولة علي بك الكبير الاستقلال بالبلاد العربية عن الحكم العثماني؟

هناك، بالطّبع، تفسير بسيط لذلك؛ فمصطلح "العثمانيّة الجديدة" لم يبتكره الدعاة المعاصرون للعثمانية، أو الإسلامويون السياسيون، لكن، كما يُفترض، ابتكره الصّحفيون، أو باحثو العلاقات الخارجية من المهتمّين بالجغرافيا السياسية لتركيا أكثر من تاريخها.

ونظراً لأنّ المصطلح لفت الانتباه إلى الطموحات الإمبريالية للسياسة الخارجية لحزب العدالة والتّنمية، فقد رفضته شخصيات حكومية بارزة علانية، بما في ذلك أردوغان، ورئيس خارجيته، ورئيس وزرائه السّابق، أحمد داود أوغلو، الذي يُنسب إليه الفضل باعتباره مهندس تلك السياسة.

في كتابه الرائع "تيّارات"، الذي يتتبّع المسار الفكريّ للأيديولوجيات السياسية في تركيا الحديثة، كتب تانيل بورا: "فقدت العثمانية مصداقيتها، آخر مرة في حروب البلقان"

مهما كان الأمر، ما يزال من الصّعب تفويت سخرية مشاهدة التعليقات على "انتصار العثمانية الجديدة"، في 24 تمّوز (يوليو)، عند أن تُوِّج أردوغان "الفاتح الثّاني لإسطنبول"؛ حيث قاد صلاة الجمعة في مسجد آيا صوفيا الكبير المُحوَّل حديثاً، وكان التّاريخ المختار مليئاً بالرمزية الانتقاميّة على نحو مُضاعَف، فقد لوحظ على نطاق واسع؛ أنّ 24 تمّوز (يوليو) يوافق الذّكرى السنوية لمعاهدة لوزان، الاتفاقية التأسيسية للجمهورية العلمانية التي بموجبها حُوِّل آيا صوفيا إلى متحف؛ الحدث التاريخي الذي تعهّدت أجيال من الإسلامويين السياسيين بمعاجلته.

وقليلون من الناس لاحظوا أنّ ذلك وافق، أيضاً، الذّكرى السنوية للثورة الدستورية العثمانية، عام 1908، التي كانت بمثابة انتصار قصير الأمد للعثمانية على الحكم المطلق للسلطان عبد الحميد الثاني، البطل التراجيدي لإسلامويي تركيا.

مفهوم شامل للمواطنة

كان الأنصار الأصليون للعثمانيّة عبارة عن مجموعة متنوّعة من الناس؛ فهناك الأقوياء من بيروقراطيي حقبة التّنظيمات، الذين لم يكونوا مدفوعين إلى حدّ كبير بهدف ديمقراطي، لكن بالضّرورة العملية لإنقاذ الإمبراطورية من التّفكّك واستعادة سلطة الدولة، والمنتقدين الوطنيّين "الشباب العثمانيين" للاستبداد الحميديّ، والأعضاء الثوريين للجنة الاتحاد والترقي، إضافة إلى العثمانيين ذوي العقلية الليبرالية من جميع الملل، من المسلمين واليونانيين والأرمن واليهود، الّذين كانوا يتوقون إلى مستقبل كوزموبوليتاني في ظلّ ملكيّة دستوريّة.

اقرأ أيضاً: هكذا فكّك المؤرخ ابن إياس أوهام الخلافة العثمانية

وقد مثّلت العثمانية، في جوهرها، إيماناً بضرورة إنشاء مفهوم شامل للمواطنة، قائم على المساواة أمام القانون (العلمانيّ)، بغضّ النّظر عن العرق أو الدين، ووجهة نظر تعددية للمجتمع؛ حيث تتّحد الهويّات المتنوعة تحت هويّة عثمانية مدنية مشتركة (العثمانليليك).

وإذا أردنا البحث عن نسخة "جديدة" من العثمانية، تعكس هذه التطلّعات في تركيا الحديثة، فلن نجدها في الإمبريالية الجديدة لأردوغان، لكن في المسار الفكريّ الليبرالي اليساري الذي ظهر في التسعينيّات، ودعا إلى إعادة تعريف المواطنة على أساس انتماء مشترك إلى تركيا (التّركييليك)، من شأنه أن يسمح بالتّعبير عن الهويّات الفرعيّة المتنوعة.

اقرأ أيضاً: العثمانيون وهدم فكرة الحضارة الإسلامية

بعبارة أخرى؛ عوضاً عن دمج المجموعات العرقيّة ذات الأغلبيّة المسلمة في "نزعة تركيّة" موحّدة، واستبعاد غير المسلمين، كما سعت الجمهورية التركية منذ تأسيسها، اقترحت "التّركييليك" تعبيرات متعدّدة الطّبقات عن الهويّة، مثل: "ترك تركيا"، أو "كرد تركيا"، أو "أرمن تركيا".

وشأنهم شأن الأنصار الأصليين للعثمانية، كان العثمانيون الجدد في تركيا على اتّصال وثيق بالأفكار والأزياء والمؤسّسات الغربيّة، وفي حين ألهمت النّزعة الدستورية للثورة الأمريكية والنزعة المساواتية للثورة الفرنسية المجموعة الأولى في القرن التاسع عشر، فقد كانت المبادئ الديمقراطية الليبرالية للاتحاد الأوروبي هي التي أثّرت في المجموعة الأخيرة، في مطلع القرن الحادي والعشرين.

اقرأ أيضاً: أحمد باشا الجزار... بطل مقاوم أم حاكم عثماني باطش؟

اعتقد أنصار العثمانية أنّ السبيل الوحيد للحفاظ على سلامة الإمبراطورية يكمن في إعادة تعريف العلاقة بين مجتمعاتها المتنوعة، واعتقد أنصار التّعددية في تركيا؛ أنّ السبيل الوحيد لتحقيق السّلام في تركيا يكمن في التأمّل الصادق في الخسارة الكارثية لهذا التنوّع، أثناء الانتقال من الإمبراطورية إلى الدول القومية.

ومن غير المستغرب أنّ كلا الفكرتين واجهتا معارضةً شرسةً من أتباع الأيديولوجيّات المتنافسة؛ أي الإسلامويّة والقوميّة التركيّة.

صعود التّفاؤل وسقوطه

أيّد باشاوات التنظيمات، والمفكّرون العثمانيون الشّباب، صعود عبد الحميد الثّاني إلى العرش، عام 1876، بشرط إعلان الدستور الأول للإمبراطورية وتكوين برلمان، وقد ثبت أنّ هذا التّحالف لم يدم طويلاً؛ حيث علّق عبد الحميد كلا المؤسّستين مع إعلان حالة الطّوارئ خلال الحرب الرّوسيّة التّركيّة، 1877-1878.

ومع استمرار السّلطان في استعادة المَلكية المطلقة وبناء دولة بوليسية، والسّعي لتحقيق سياسة خارجية قائمة على الوحدة الإسلاميّة، أعاد العثمانيّون الشّباب تنظيم أنفسهم على شكل حركة معارضة سريّة، وفي المنفى الأوروبيّ.

في صيف عام 2013؛ انتفض جيل شابّ من الليبراليّين والقوميين والثوريّين ضدّ حكم أردوغان الأتوقراطي المتزايد، وضدّ فرضه مشروع هندسة اجتماعية، سنيّ تركي

انتهى عهد عبد الحميد، الذي امتدّ لثلاثة عقود عندما انتفض جيل جديد من الليبراليّين والقوميّين والثّوريّين، بقيادة ضبّاط تركيا الفتاة، ضدّ السّلطان وأعاد البرلمان والدّستور، عام 1908، وقادت هذه "الحقبة الدّستورية الثانية" إلى فترة من التّفاؤل والحريّات الاستثنائية، التي قوّضتها الخسائر المدمّرة لحروب البلقان، وانقضت بسبب انقلاب عام 1913، عندما استولى الجناح الرّاديكالي لحركة تركيا الفتاة على السّلطة وقاد الإمبراطورية إلى الخراب النهائيّ، سعياً لتحقيق طموحات قومية تركية في الحرب العالميّة الأولى.

اقرأ أيضاً: الدولة العثمانية.. فلنذكر الإيجابيات

وشأنهم شأن العثمانيّين الشّباب؛ دعم المثقفون اليساريون الليبراليّون في تركيا صعود حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على أمل أن يفكّك الإسلامويّون قبضة الجيش التّركي على مؤسّسات الدولة، ويدفعون البلاد نحو الاتّحاد الأوروبي، وشأن أسلافهم العثمانيين، تخلّى عنهم حلفاؤهم الأوروبيون، وتجاهلهم الإسلامويّون، بمجرّد أن عزّز الأخيرون قبضتهم على السّلطة.

وفي صيف عام 2013؛ انتفض جيل شابّ من الليبراليّين والقوميين والثوريّين ضدّ حكم أردوغان الأتوقراطي المتزايد، وضدّ فرضه مشروع هندسة اجتماعية، سنيّ تركي، وسعيه لتحقيق نظام رئاسيّ تنفيذي، وبدا أنّ هذا السّعي قد شُلّ عندما فقد حزب العدالة والتّنمية أغلبيته البرلمانية، في حزيران (يونيو) 2015، ويرجع الفضل في ذلك، إلى حدّ كبير، إلى النّجاح الانتخابيّ لحزب الشعوب الديمقراطي، الذي دعا إلى رؤية متجددة للتركيّة وأحد زعمائه الكارزمائيّين، صلاح الدّين دميرتاش، الذي حظيت معارضته النّشطة لأردوغان، بدعم العديد من الأتراك والأكراد.

صفقة فاوستية

أُغلِقت نافذة استعادة الديمقراطية، التي كانت قد فُتحت بانتخابات حزيران (يونيو)، مع اندلاع أعمال العنف بين الحكومة التركيّة وحزب العمال الكردستاني، في خضم الحرب السوريّة المردكلة، وإعادة الانتخابات، في تشرين الثّاني (نوفمبر)، والّتي أعادت السّيطرة على المجلس التّشريعي إلى حزب العدالة والتنمية، وأغلِقَت النّافذة تماماً بإعلان حالة الطّوارئ وعمليّات التّطهير، التي أعقبت محاولة الانقلاب، في تمّوز (يوليو) 2016.

اقرأ أيضاً: الوهم العثماني المستجد

وعندما رأى أردوغان نفسه في موضع عبد الحميد، وإن كان حريصاً على تجنّب مصير الأخير، أبرم صفقة فاوستية مع القومييّن المتطرّفين في تركيا، لتأمين قبضته على السّلطة ووضع المسمار في نعش الديمقراطية البرلمانية في البلاد.

ومنذ ذلك الحين، وُصف أنصار التعددية الديمقراطية، من دميرتاش إلى المدافع عن حقوق الإنسان والمبادر بالأعمال الخيرية، عثمان قولة، بأنّهم خونة وإرهابيّون، وتعرّضوا للمضايقة والتّرهيب، وسُجنوا، أو أُجبروا على النّفي.

اقرأ أيضاً: ما فعله الاحتلال العثماني بلبنان

في نهاية المطاف؛ فشل كلا تعبيرَي التعددية؛ لأنّهما لم يتمكّنا من الحفاظ على الدعم الشعبيّ خارج حدود الدّوائر الناشطة والفكرية التي أيّدتهما. وأصبح يُنظر إلى العثمانليليك والتّركييليك على أنّهما بِنايات غير ملائمة أو أصلية، فرضها رجال ونساء بشكل مصطنع، وسخر منهم نقّادهم؛ لسذاجتهم وابتعادهم عن الواقع في أحسن الأحوال، وبوصفهم متعاونين في أسوأ الأحوال.

بالنّسبة إلى العديد من مسلمي الإمبراطورية العثمانية وأتراك تركيا، مثّلت هذه الرّؤى التعدّديّة فقدان مكانة عليا ضمنية في العقود الاجتماعية للإمبراطوريّة والجمهورية، كما أنّهم لم يتمكّنوا من إقناع مسيحيي الإمبراطورية، وأكراد الجمهورية، الذين كانوا بالفعل ملتزمين بقضية القومية والسعي إلى الاستقلال.

وبسبب انعدام الثّقة بين المجتمعات الّتي سعوا إلى توحيدها، وافتقارهم إلى عدوّ دائم، يتجاوز الرّجال الأقوياء الذين يتحكّمون في السّلطة، للتّعبئة ضدّه، لم يتمكّن التعدّديون من منافسة الجاذبية الجماهيرية للإسلاموية والقوميات المتصارعة للإمبراطورية العثمانية وتركيا؛ الأيديولوجيات العاطفية التي أكّدت على التّجانس داخل المجموع والعداء خارج المجموع، والتي ظهرت في أوقات القلق الوجودي والراديكالية التي حفّزتها الحروب وأزمات اللاجئين.

أثر واهن

في كتابه الرائع "تيّارات"، الذي يتتبّع المسار الفكريّ للأيديولوجيات السياسية في تركيا الحديثة، كتب تانيل بورا: "فقدت العثمانية مصداقيتها، آخر مرة في حروب البلقان، لكنّها مع ذلك تركت أثراً، باعتبارها مصدر فهم غير متمركز حول الإثنيّة للوطنيّة... وهو أثر مهزوم وضعيف".

اقرأ أيضاً: كيف مثّل اشتراك العثمانيين بالحرب العالمية الأولى كارثة على العرب؟

التقط العثمانيّون الجدد "الحقيقيّون" في تركيا هذا الأثر الواهن، وحملوه إلى القرن الحادي والعشرين، وبالرّغم من إضعافهم وهزيمتهم، أيضاً، فإنّ الرّؤية العنيدة لتركيا متسامحة وديمقراطية وصادقة بشأن ماضيها المضطّرب، وفي سلام مع نفسها الحالية، لم تُهزم بعد.

وبالنّسبة إلى أولئك الذين يشعرون بالإحباط بسبب الضّربات العثمانية الجديدة للسّلطان، لكنّهم لا يشعرون بالحماس المفرط تجاه المؤهّلات القوميّة لكتلة المعارضة التي تواجهه، فإنّ ذلك الإصرار يظلّ وحده بصيص الأمل والعزاء.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

كارابكير أكويونلو، "أوبن ديموكراسي"، 5 آب (أغسطس) 2020


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية