هكذا فكّك فؤاد زكريا فكر الإسلام السياسي

هكذا فكّك فؤاد زكريا فكر الإسلام السياسي

هكذا فكّك فؤاد زكريا فكر الإسلام السياسي


16/12/2023

حاول المفكر المصري فؤاد زكريا (1927-2010) أن يقيم حواراً فعالاً مع توجهات الإسلام السياسي في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتحديد الأسباب التي أدّت إلى تنامي وتصاعد حدّة تواجده في تلك الفترة، وفي سعيه إلى تفكيك فكره، أرجع انتشاره إلى "واقع التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي"، وانتشار الإسلام الطقوسي الذي يهتم بالمظهر، والفصل بين الرجل والمرأة، والتحريمات، والمخاوف الجنسية، بغضّ النظر عن المضمون السلوكي والاجتماعي الكامن وراءه.

مرتكزات الإسلام السياسي

يرى فؤاد زكريا أنّ ثقافة هذه الجماعات التراثية الجامدة، وعجزها عن توظيف التراث بشكل مستنير، أدّت إلى تعطيل ملكات العقل والنقد لديهم، ما جعل بعضها تسلك سلوكاً متطرفاً، استخدمت فيه العصا وقبضة اليد، أكثر مما استخدمت العقل والمنطق، وهو ما أدّى إلى إثارة القلاقل في العالم العربي.

اقرأ أيضاً: فؤاد زكريا مؤذّن العقل في مالطا التعصب

كما يرى فؤاد زكريا: أنّ "العنف ليس ظاهرة طارئة على هذه الجماعات المتطرفة، وإنما هو شيء ينتمي إلى تركيبها ذاته، وهو جزء لا يتجزأ من تكوينها النفسي والذهني، وهو وسيلتها الوحيدة لتحقيق أهدافها".

ويحاول زكريا أن يناقش المرتكزات التي تقوم عليها دعوة الإسلام السياسي، للجمع بين الدين والسياسة؛ فيقول إنّ هذه الدعوة يستند فيها الداعون إلى الجمع بين الدين والدنيا، ومن ثم بين العقيدة والسياسة، على مبدأ صلاحية النصّ الديني لكلّ زمان ومكان، وهذا المبدأ ذاته يولّد تناقضاً أساسياً؛ هو أنّ الدنيا متطورة والنصّ ثابت، والمخرج الوحيد من هذا التناقض هو الاقتصار على تأكيد الجوانب العامة فقط في النصوص الدينية، وترك التفاصيل لاجتهادات كلّ عصر، وفي إطار هذه الكليات العامة يظهر النصّ الديني في حاجة دائمة إلى البشر؛ كي يصبح حقيقة واقعة، ويطبق في مجال إنسانيّ ملموس، وهكذا يبدو من الضروري وجود توسط بشريّ من نوع ما، بين النصّ والواقع، وفي عملية التوسّط؛ تظهر التحيزات، ويتجلّى مدى الصراع على ملكية حقيقة الدين.

تجاهل متطلبات التطور

يذهب اعتقاد فؤاد زكريا إلى أنّ شمول أية عقيدة سينكمش مع حدوث تطور في المجتمع، ومن ثم؛ يبدو أنّ طموح أية عقيدة دينية يتجه إلى شمول كافة مرافق حياة الإنسان، وأنّ انكماش هذا الطموح، أو التزامه حدوداً أكثر حكمة وتعقلاً، هو أقرب إلى إدراك متطلبات التطور الإنساني الحرّ؛ ففي البداية يكون الاتجاه إلى الشمول هو السائد، وبقدر ما يتحقق من تطور وتقدم في المجتمع يتراجع هذا الشمول، وتفرض متغيرات الحياة نفسها؛ أي إنّ الاجتماع البشريّ في تطوّره، قد يخلق قوانينه الخاصة.

يذهب اعتقاد فؤاد زكريا إلى أنّ شمول أية عقيدة سينكمش مع حدوث تطور في المجتمع

وينظر فؤاد زكريا إلى دعوة الإسلام السياسي للجمع بين الدين والدولة؛ بأنّها رؤية لاتاريخية، تؤدّي إلى اغتراب الإنسان عن الزمان والمكان الذي يعيش فيهما؛ فالإسلام السياسي ينظر إلى التاريخ نظرة دائرية ارتدادية، ترى أنّ المستقبل لا يتحقق إلا بالماضي المجيد، في حين أنّ النظرة التقدمية للتاريخ والزمن تركّز على كون التاريخ يسير في خطّ مستقيم، ولهذا كان من الضروري مراعاة المستجدات التي تحدث في المجتمع، والتعايش مع هذه المستجدات بأطروحات مستقبلية، لا أطروحات ماضوية ارتدادية، ولهذا يقول فؤاد زكريا: إنّ دعوة الإسلام السياسي للجمع بين الدين والدولة، يسود فيها نوع من الشمولية المتزمتة، التي تجمد التاريخ عند مرحلة واحدة من مراحله، وتصمّ آذانها عن هدير الإنجازات الباهرة، التي تتلاحق يوماً بعد يوم، في العصر الذي يعيش فيه، وتعتمد حركات الإسلام السياسي على رسم صورة للماضي، مشتقة من النصوص، دون تقديم اجتهاد حقيقي، أو برنامج عمل متكامل، تراعي فيه التطور الذي يحدث في حركة التاريخ، ومصالح البشر المتغيرة في الاجتماع.

جدل الشريعة والتاريخ

وهناك بعض من دعاة الإسلام السياسي يرون أنّ مرجعية القانون هي التي تحدّد صبغة الدولة وهويتها؛ فإذا قلنا لهم إنّ مبادئ الحكم الإسلامي قد انتهكت عبر التاريخ الإسلامي، وأهمها مبدأ الشورى؛ حيث قامت الخلافة على الشوكة والقهر والتغلب، يردّون بالقول إنّ المهمّ هو تطبيق الشريعة، بصرف النظر عن شكل الحكم، سواء كان ملكياً أم جمهورياً.

اقرأ أيضاً: هل أنهى حزب العدالة والتنمية مرحلة الإسلام السياسي بالمغرب؟

ويرى فؤاد زكريا؛ أنّ دعاة الإسلام السياسي، لو استطاعوا السيطرة، سيتخذون من تطبيق الشريعة وسيلة لإدانة كلّ مظاهر الحياة البشرية؛ من فنون وآداب، وقد خدمت بعض نماذج تطبيق الشريعة المعاصرة مخاوف فؤاد زكريا، خاصة تجربة السودان، ولهذا نجده يقول: إنّ التجارب المعاصرة في تطبيق الشريعة كانت كلّها فاشلة؛ بل أسفرت، في آخر الأمر، عن نظم في الحكم مضادة لما تدعو إليه جميع الشرائع السماوية.

اقرأ أيضاً: الشعبوية ويمين الإسلام السياسي

وبالتالي؛ إذا كان دعاة الإسلام السياسي يدعون إلى أنّ الإسلام دين ودولة، فإنّهم يتجاهلون حركة التاريخ حين يتغافلون عن النماذج الفاشلة لتطبيق الشريعة في حياتنا المعاصرة، وكذا يتجاهلون تطبيق الشريعة على مدار التاريخ الإسلامي، وهم يستشهدون بعهد الخلفاء الراشدين، وبعمر بن الخطاب، رضي الله عنه،  بوجه خاص، وهذا دليل على أنّهم لم يجدوا ما يستشهدون به طوال التاريخ التالي، الذي ظلّ الحكم فيه يمارس باسم تطبيق الشريعة، في حين أنّ التطبيق الذي دام ما يقرب من ثلاثة عشر قرناً، كان في الواقع نكراناً لأصول الشريعة، وخروجاً عنها.

اقرأ أيضاً: علاقة الإسلام السياسي بسايكس بيكو

لذلك فإنّ دعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأً فادحاً حين يركزون جهودهم على الإسلام، كما ورد في الكتاب والسنّة (الإسلام النظري)، متجاهلين الإسلام كما تجسّد في التاريخ (الإسلام التاريخي والحضاري)؛ حين يكتفون بالإسلام كنصوص، ويغفلون الإسلام كواقع، ويزداد هذا الخطأ فداحة إذا أدركنا أنّ محور دعوتهم هو مشكلات الحكم والسياسة، وتطبيق أحكام الشريعة، وكلّها مشكلات ذات طابع عملي، لا يكفي فيها الرجوع إلى النصوص، إنما ينبغي أن يكمله، على الدوام، الاسترشاد بتجربة الواقع.

العنف ليس ظاهرة طارئة لدى الجماعات المتطرفة وإنما هو شيء ينتمي إلى تركيبها ذاته

ولا شكّ في أنّ أزمة الإسلام السياسي في الهوة الواسعة بين قيم الإسلام السامية، كما وردت في الكتاب والسنّة، وممارسات الحكم الواقعية؛ فالممارسات الواقعية تجسّد العديد من صور الفشل في تطبيق هذه القيم.

ويرى فؤاد زكريا؛ أنّ عملية الحكم بشرية، حتى إن كانت الأحكام التي ترجع إليها إلهيّة، ومن ثمّ يحمل فؤاد زكريا على فكرة الحاكمية؛ التي تتبنّاها شرائح من الإسلام السياسي، ويرى أنّ تعبير "الحاكمية لله" تعبير متناقض؛ لأنّ البشر هم دائماً الذين يحكمون، وهم الذين يحولون أيّة شريعة إلهية إلى تجربة بشرية، تصيب وتخطئ؛ من خلال ممارستهم للحكم.

اقرأ أيضاً: 5 اغتيالات دموية نفذتها جماعات الإسلام السياسي

ومن ناحية أخرى؛ فإنّ فكرة الحاكمية لله تؤدّي إلى تكريس الاستبداد في الحكم؛ لأنّ الحاكم فيه يزعم أنّه ناطق بلسان الوحي الإلهي، ومن ثمّ؛ فإنّ أفدح أنواع الخطأ هو ما يرتكبه حاكم يتصوّر أنّ أهواءه ومصالحه الضيقة، إنما هي تجسيد للإرادة الإلهية، ويوهم الناس بأنّ كلّ ما يفعله مستلهَم من وحي الشريعة التي يحكم بمقتضاها، وقد أثبتت التجارب المريرة التي خاضها عالمنا الإسلامي، في تاريخه القريب والبعيد؛ أنّ أمثال هؤلاء الحكام كانوا في معظم الأحيان الأكثر دموية، والأشدّ استخفافاً بمصائر البشر.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية