هل أفرغ الفقهاء الشعائر الدينية من بعدها الروحي والاجتماعي؟

هل أفرغ الفقهاء الشعائر الدينية من بعدها الروحي والاجتماعي؟

هل أفرغ الفقهاء الشعائر الدينية من بعدها الروحي والاجتماعي؟


05/09/2023

تمثل الطقوس ركيزة أساسية في كل الأديان، وهو ما نجده في الإسلام من خلال الفقه الإسلامي الذي يركز على تعليم الناس كيف يسلكون سلوك الإيمان من خلال الشعائر المعروفة، لكن دون التطرق لحيثيات الإيمان أو البعد الروحي لدلالات تلك الشعائر، ولا الآثار الاجتماعية لها، ومن هنا تحولت إلى عادات يومية يمارسها الفرد، أو طقوس سنوية فاقدة للمعنى وغير مؤثرة في حياته ولا حياة المجتمع، حتى أصبحنا نرى من لا يجد حرجاً في أن يصلي ثم يأخذ رشوة لأداء خدمة لفرد آخر هي من صميم عمله، وكذا لا يجد التاجر الذي يغش في تجارته بضمير مرتاح ما دام يؤدي "واجباته" التعبدية بالصلاة والحج لكي يكفّر الله تعالى له ذنوبه.

ومن ثم يعاني المجتمع المسلم من فصامية واضحة بين ادعاء التديّن وأداء الفروض والطقوس من ناحية، وبين ممارسة كل التجاوزات الشخصية والاجتماعية، وتحول الإيمان والتديّن إلى نمط من السلوك الشكلي الخالص في حياة الأفراد لا أثر إيجابياً له في حياة الفرد والمجتمع.

ولقد أصبحنا بسبب هذه التركة الفكرية الثقيلة نمارس الإيمان شكلاً دون مضمون، ومبنىً دون معنى، وصورة دون حياة، فنظهر بخلاف ما نضمر، ونتكلم بخلاف ما نعتقد؛ مع أنّ أصل الإيمان أن يكون نابعاً من القلب قبل أن يتجلى في السلوك، ولكننا نعطي الأولوية لطقس الإيمان دون معناه، ولهذا أصبح التدين مفرغاً من المعنوية، أنهك أرواحنا، واستنزف قلوبنا، ولم يعد له تأثيره الفعال في حياة الفرد والمجتمع الروحية والأخلاقية، ومن هنا اهتم العديد من المصلحين والمجددين بأهمية كشف حقيقة ودلالات الطقوس والشعائر في حياة الفرد والجماعة، وما لها من دلالات في إثراء الحياة الروحية في علاقة الإنسان بالله تعالى، وفي دورها في التربية الأخلاقية للإنسان.

يرى الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894-1966) أنّ العبادات الإسلامية لها مقاصد دنيوية وأنّها في ذاتها لا تستوجب فوزاً بثواب ولا نجاة من عقاب، وإنّما الثواب على العمل فضل من الله تعالى؛ لأنّ العمل المشروع لمصلحة العبد ولا فائدة تعود منه على الله تعالى؛ لأنّه غني عنّا وعن أعمالنا، وإنما أراد الله تعالى من الثواب عليه أن يرغبنا فيه؛ لأننا نساق بالأجر على الأعمال النافعة لنا أكثر مما نساق إليها من أنفسنا وهو كرم منه تعالى لا يشبهه كرم مخلوق.

الفقه يتجنب التركيز على حيثيات الإيمان أو البعد الروحي لدلالات الشعائر الدينية

على الرغم من أنّ الصلاة هي صلة العبد بربه فإنّ لها أبعاداً اجتماعية أخرى، فيقول عبد المتعال الصعيدي إنّ إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن ثم فهي تهذب النفس، وتنشر المحبة بين الناس فلا يبغي أحدهما على الآخر، ويرى الصعيدي أنّ الصلة لم تشرع إلا لتجمع بين قلوب المسلمين على الألفة والمحبة والأخوة والتعاون والنظام، ولهذا كان الحض على صلاة الجماعة أمراً مهما.
وينوه الشيخ الصعيدي إلى أنّ الصلاة قد اقترنت في الإسلام بالزكاة والتي تجعل للفقراء حقوقاً في مال الأغنياء، فإذا كان الإسلام قد أباح للأغنياء الحق في التملك، والحق في التمتع بالثروة، فإنّ الزكاة قد فرضت عليهم لرعاية الفقراء والتكفل بهم، وذلك حتى يعيش المجتمع في تراحم وتعاطف، ولا يحقد من لا يجد حاجته على من تتوافر له حاجته، ومن ثم كانت الزكاة عبادة من أهم عبادات الإسلام التي تسعى إلى تحقيق الأخوّة والتكافل.

وللصعيدي رأيه في الصيام فهو الرياضة الروحية للنفس على احتمال الجوع والبعد عن الشهوة، ويراد منه تربية المسلم نفسياً وجسمياً ليكون إنساناً ذا حزم وعزم وقوة، ويصبر على مكاره الحياة من جوع ونحوه إذا صادفته في حرب وغيره، ويرفض الصعيدي تقديس الجوع لدى الصوفية إلى الحد الذي لا يحتمله الجسم.    
أما الشيخ أمين الخولي فيرى في الصيام أهمية كبيرة في ربط العبادة بحياة الأمة حتى تصير عاملاً فعالاً في إنعاش الحياة، وتلافي ظواهر النقص في نواحيها المختلفة من صحية وعملية، على نحو ما تفعل الأمم الشاعرة بحق أفرادها في الحياة الكريمة، و"لهذا أشعر أنّ الهدف الاجتماعي لحل التدبير التعبدي في رمضان أنّه موسم خير يقام سنوياً لعلاج مشكلة الفوارق وتذليل مصاعبها".

يرى الصعيدي أنّ الحج في الإسلام رياضة أدبية مثل الصلاة والصوم وفيه شبه من الزكاة

ورفض الخولي توجه الصوفية نحو تشجيع مسألة الجوع، وتلمس الآثار لفضله؛ لأنّ الروح الحيوية التي امتاز بها الإسلام وقررها في كتابه الكريم لا تهتم كثيراً لما أطال به الصوفية من اعتبار الجوع سيد الأعمال، وأنّه أفضل عبادة أو مخ العبادة، وأنّ ترحيبهم بما ينتهي إليه الجوع من الضعف حتى عن أداء العبادة المفروضة كالصلاة ليس مما يتفق كثيراً مع هذه الروح الجادة النشيطة التي يحرص عليها الإسلام، وإنّما هي روح دخيلة على الإسلام.

وفيما يخص الحج يرى الصعيدي أنّه رياضة أدبية مثل؛ الصلاة والصوم، وفيه شبه من الزكاة؛ لأن فيه شيئاً من إنفاق المال في سبيل الله تعالى مثلها، وقد سبق أن الزكاة رياضة أدبية على فضيلة الجود بالمال فيما يجب بذله لنفع الناس، فيكون الحج بما فيه من ذلك الشبه بالصلاة والصوم من جهة، وبما فيه من شبه للزكاة من جهة أخرى جامعاً لكل المعاني الأدبية السامية في العبادات الثلاث، ويزيد عليها معاني أدبية أخرى.

ومن هنا يمكن القول إنّ المجدّدين لم يهتموا بمجرد العلاقة الرأسية بين الله تعالى والإنسان، وأنّ هذه العلاقة ينبغي أن تنعكس على العلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان في حركة المجتمع، ومسار الدنيا، وضرورة الكشف عن مدى تأثير العلاقة الروحية الرأسية في التعاطف والتعاون والمحبة وسيادة الأخلاق الحميدة بين الإنسان والإنسان، وأن يكون لذلك تأثير إيجابي في تحسين أحوال المجتمع، وأن تلعب القوة الروحية للشعائر دوراً فعالاً، ومن ثم لا بد أن نعيد قراءة إنتاج المجدّدين من أمثال؛ محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي وأمين الخولي حول قراءتهم المهمة للشعائر والطقوس التعبدية في الإسلام.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية