هل الإسلام حقاً أحد مكوّنات أوروبا؟

هل الإسلام حقاً أحد مكوّنات أوروبا؟

هل الإسلام حقاً أحد مكوّنات أوروبا؟


19/02/2024

ترجمة: علي نوار

لا شكّ في أنّنا بحاجة لكتاب يتحلّى بالقدر الكافي من الشجاعة لطرح تساؤل مهمّ "من هو الأوروبي؟"، السؤال الذي يفرض نفسه بجلاء على الساحة السياسية الأوروبية في الوقت الراهن، سواء على المستوى الوطني في كلّ من الدول الأعضاء أو حتى داخل أروقة مؤسّسات الاتحاد الأوروبي ذاته.

لذلك ظهر هذا البحث المتعمّق والمتأنّي حول قصّة المسلمين في أوروبا بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، ويولي اهتماماً خاصّاً لمنطقة البلقان والأجزاء، التي كانت تُشكّل جمهورية يوغوسلافيا السابقة، والدراسة التي نحن بصددها هي كتاب وضعته المؤرخة إيميلي جريبل.

وتكشف جريبل، عبر صفحات كتابها الجديد، كيف أنّ المسلمين ليسوا عنصراً دخيلاً أو حديثاً على الإطلاق في دول ومجتمعات أوروبا، بل لطالما كانوا جزءاً منها منذ وقت طويل يسبق حتى المفاهيم الحالية بشأن المهاجرين والعمالة الأجنبية واللاجئين بزمن بعيد.

وبالفعل، لعب المسلمون في منطقة البلقان دوراً كبيراً في صياغة القوانين والسياسات والمجتمعات الأوروبية الحديثة، وتتطرق جريبل إلى وجهة النظر القائلة إنّ الدولة هي التي تخصّص مكاناً للمسلمين، لأنّها توضّح في الكتاب كيف أنّ المسلمين هم الوحيدين الذين يحقّ لهم تعريف أنفسهم ولعب دور كمواطنين في الإطار الأوروبي.

 وفي حال صحّة ما تفترضه دريبل؛ فإنّ النقاش حول العلمانية ودور الإسلام وقدرة المسلمين على أن يكونوا مواطنين أوروبيين، يبدو في جزء كبير منه بعيداً تماماً عن الواقع.

نرى اليوم في دول مثل فرنسا والصين والهند وميانمار والولايات المتحدة، تبعات إرث وضع المسلمين على هامش القوانين، وهناك بلدان كثيرة لا تستطيع تقبّل فكرة وجود مواطنين مسلمين

ويكشف الكتّاب أنّ جهل السياسيين الأوروبيين وكثير من الصحفيين وعدد لا حصر له من أساتذة الجامعات والباحثين بتاريخ بلادهم يسهم في إحداث حوار لا طائل من ورائه، بالتالي، تصبح أفكار مثل "صراع الحضارات" و"الحرب ضدّ الإرهاب" التي لا تنتهي منذ أن شنّتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، وحلفاؤها في أوروبا، بداية من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، ثم الزعماء السياسيين من اليمين واليمين المتشدّد، مثل: فيكتور أوربان في المجر، ومارين لوبان وإريك زمور في فرنسا، وماريو سالفيني في إيطاليا، وغيرهم، حجر عثرة في فهم تاريخ أوروبا وخاصّة دور المسلمين فيه.

"اختبار الرب: الإسلام وميلاد أوروبا"

ويعدّ هذا الكتاب مُكمّلًا للعمل التوثيقي "اختبار الرب: الإسلام وميلاد أوروبا"، الصادر في 2008، لديفيد ليفرنج لويس، حين شرح أنّه كي يعدّ الأوروبيون أنفسهم شعباً واحداً كان يتعيّن عليهم تحقيق شيئين: الأوّل هو إنشاء الإمبراطورية الرومانية المُقدّسة على يد ملك مقاتل يُدعى شارلمان، والثاني هو ازدهار ثقافة إسلامية في شبه جزيرة إيبيريا أو الأندلس، كما يسمّيها المسلمون في حدود أوروبا الجنوبية الغربية.

اقرأ أيضاً: هل يحتكر الإسلام السياسي تمثيل المسلمين في أوروبا؟

وصحيح أنّ العملية التي تصهر القبائل الأوروبية المختلفة وتحوّلها إلى شعب واحد تمّت بفضل عُنصرين مُهمّين هما وجود عامل مُشترك يجمع هذه القبائل معاً، وكذلك وجود ما يميّزها عن جيرانها من المسلمين، لكنّ "اختبار الربّ" طرح فرضية أكثر إثارة للدهشة: كان الإرث الثقافي للأندلس مُهمّاً بالقدر ذاته على الأقل مثل العُنصر المسيحي في بناء الحضارة الوريثة من قبل الأوروبيين المُعاصرين، وعلى حدّ تعبير أنتوني آبيا "ملؤوا الهوية الأوروبية بما استعاروه من الآخر العظيم". بيد أنّ التاريخ الحديث لأوروبا لا يشير إلى ذلك. وقد كانت الأعوام الـ 30 الماضية كارثية، حاول خلالها زعماء أوروبيون، وبدعم قوي من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، استبدال العدو الشيوعي أو الروسي حالياً بالعربي أو المسلم.

وتُظهر الكاتبة في مُقدّمة عملها المُستند إلى التوثيق، كيف أنّ "المسلمين الذين يركّز عليهم هذا الكتاب لم يكونوا نتاج الأنظمة الاستعمارية الأوروبية التي رسمت مسار حياة المسلمين في جميع أنحاء العالم حتى مطلع القرن العشرين؛ بل سيتوصّل القارئ إلى أنّ هناك نقاشاً سيذكّره بالنزاعات التي خيّمت على القرنين العشرين والواحد والعشرين حول الحجاب في المدارس الفرنسية أو المهاجرين في ألمانيا أو المساجد في النمسا والمحاكم الشرعية في إنجلترا".

حسناً، لماذا يلمّ خبراء التاريخ في أوروبا والمواطنون الأوروبيون العاديون بهذه القصص السلبية التي تُروى في هذا الكتاب؟ الإجابة، من جانب، تكمن في الذاكرة التاريخية السائدة التي تضع تاريخ أوروبا في مواجهة المجتمعات الإسلامية التي تعيش بينها. "طرد المسلمين من إسبانيا وإيطاليا في العصور الوسطى وتقليص أراضي الإمبراطورية العثمانية أوائل العصر الحديث كانت تصويباً معيارياً لخطأ تاريخي".

اقرأ أيضاً: الإرهاب وأوروبا 2021 .. جهود تصطدم بتوغل الإخوان وداعش

فمنذ القرن الثامن عشر، امتزج الهدف السياسي بطرد الأتراك خارج أوروبا بمشروع حقبة التنوير المتمثّل في تحديد ملامح الحضارة الأوروبية، بالفعل، كانت منطقة البلقان خلال القرن التاسع عشر، والتي خضعت للسيطرة العثمانية، هي الشرق بالنسبة لأوروبا التي كانت تنظر لتلك المنطقة، كما لو كانت غير متحضّرة وهمجيّة، وكانت عملية إعادة دمجها في "أوروبا"، كما تقول المؤرخّة ماريا تودوروفا؛ "ليست فقط تخلّصاً نهائياً وجذرياً من الماضي؛ بل ورفضاً للماضي السياسي".

اقرأ أيضاً: مدارس الإخوان في أوروبا بين تكريس خطاب الكراهية وغسيل الأموال

وتكشف طريقة سرد تاريخ أوروبا التي اعتمدها المؤرّخون والزعماء السياسيون أسباب عدم قُدرة الاتحاد الأوروبي والقيادات الأوروبية على النظر بشكل إستراتيجي إلى تركيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولعلّ أحد أفدح الأخطاء التي ارتكبتها أوروبا هو تناسي حقيقة أنّ "العلمانية قد تكون الهدف، بيد أنّ الدين كان عاملاً رئيساً في قيام الدول الأوروبية؛ ففي جميع دول أوروبا الحديثة، سواء بريطانيا أو فرنسا أو صربيا أو اليونان، ما تزال المرجعية المسيحية تلعب دوراً محورياً في الثقافة والتشريعات ومبادئ الأخلاق.

وعلى الأرجح سيكون من الشاق على أغلب الأوروبيين التفكير في تاريخ أوروبا أو الدولة التي يحملون جنسيتها "من منظور المسلمين عوضاً عن وجهة نظر الدول أو المؤسّسات الدولية"، وربّما هذا ما يفسّر انهيار المفوضية الأوروبية وتراجع الأهمية الاستراتيجية للقارة العجوز.

وتتطرّق واضعة الكتاب كذلك إلى سُبل نجاح المسلمين في الأراضي الصربية والكرواتية والسلوفينية الجديدة (أي يوغوسلافيا سابقًا) في البقاء وتجاوز فترة الفوضى العصيبة التي تزامنت مع الحقبة الانتقالية في 1919 وكيف قاوموا فكرة التحوّل إلى أقلّيات، وقد كانت مفاوضات باريس التي رسمت مستقبل أوروبا "يغلُب عليها مبدأ حقّ تقرير المصير الوطني دون الالتفات بقدر كبير إلى حركيات وانعدام التجانس عند إعادة تنظيم أوروبا سياسياً، وبغتة فوجئ الجميع بوجود 25 مليون شخص في أراضٍ أوروبية دون أن يتقبّلوا بالكامل مفهوم النظام ‘الوطني’".

"السيادة الوطنية"

كان الكثير من الألمان يعيشون في بولندا ورومانيا، بينما اليهود موزّعون في كلّ ناحية، كان هناك متحدّثون بالتركية في كثير من مدن الإمبراطورية العثمانية المتهاوية. "لم يكن الإطار الدولي فيما يتعلّق بـ "السيادة الوطنية" متوافقاً مع المكوّن السكّاني والتعدّد اللغوي والتنوّع القومي"، كما لم يكن واضحاً ما إذا كان المسلمون، المنتمون إلى مجموعات وطنية ولغوية متباينة، سيصبحون جزءاً من منظومة الأقلّيات والأكثريات.

يكشف كتاب المؤرخة إيميلي جريبل أنّ العلمانية لم تكن محايدة أبداً، إذ جرت عملية سنّ التشريعات وبناء المجتمعات وتشكيل المبادئ الوطنية وحتى التعليم ومعايير الحياة في إطار مسيحي بامتياز

ولخّص المؤرّخ والخبير السياسي، أرنولد توينبي، الشعور بالازدراء الذي يكنّه سياسيون غربيون تجاه المسلمين بعبارة أنّ الإسلام هو "نسخة مُبسّطة من المسيحية متأخرّة نصف ألفية عن النموذج الأول"، وفي جميع أرجاء البحر المتوسط، من مصر إلى الجزائر، لم يكن الهدف من وراء فترة ما بعد الحرب الاستعمارية هدفها تحقيق المساواة أو منح المسلمين سلطة سياسية بل إخضاعهم للنفوذ البريطاني والفرنسي.

اقرأ أيضاً: أزمة لاجئين جديدة تندلع في غابات أوروبا

لكنّ العديد من القيادات الإسلامية اعترضت على هذه الصورة، وفي أعقاب اندلاع الحرب العالمية الثانية وخلالها بدأت تظهر في يوغوسلافيا حركات مناهضة للحكومات الإمبريالية وسياسة المعايير المزدوجة، وعلى مدار ثلاثة فصول من الكتاب هي "حُكم الشريعة وبناء يوغوسلافيا الوطني"، و"بوتقة الوحدة الإسلامية والدعوة" و"أزمة أوروبا"، تستعرض المؤلّفة خريطة التأثير المتنامي للحركات الإسلامية العالمية والتي كانت مُكمّلاً ثقافياً للشعور بالاستلاب وقدّمت حلولاً عابرة للحدود تهدف لإرساء نظام قانوني وسياسي مغاير.

وفي الفصل الذي يتطرّق إلى "انهيار النظام القانوني المُستلهم من الشريعة في يوغوسلافيا تيتو"، توضّح جريبل؛ أنّه "بعد نصف قرن من انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما يزال الجدل حول المواطنة وحقوق المسلمين في أوروبا جارياً؛ بل واكتسب بُعداً جديداً. رفع مسلمو فرنسا وبريطانيا أصواتهم ضدّ القيود على الإسلام في المجال العام وانتقدوا العنصرية التي تُمارس بحقّ المسلمين بذريعة العلمانية العالمية، وعقب انتهاء الحقبة الشيوعية في أوروبا، بدأ اعتبار ظهور الثقافات الإسلامية المختلفة بأنّه تهديد، وقرّرت بعض النساء المسلمات ارتداء الحجاب إثر عقود من الحيلولة بينهنّ وبين ارتدائه".

العلمانية لم تكن محايدة أبداً

والحقيقة أنّ الكتاب يكشف وبصورة منطقية للغاية أنّ "العلمانية لم تكن محايدة أبداً، جرت عملية سنّ التشريعات وبناء المجتمعات وتشكيل المبادئ الوطنية وحتى التعليم ومعايير الحياة العامة في إطار مسيحي بامتياز".

اقرأ أيضاً: هل ينجح تكيّف الإخوان في أوروبا؟

إنّ العلاقة بين المسلمين وبلورة المواطنة والدول في جنوب شرق أوروبا "تكشف عن حدود فكرية صارمة وضاربة في جذور بنية الهوية الوطنية الأوروبية والتي تعرّضت لنزعة أصولية يُنظر بسببها للمسلم على أنّه نقيض للمواطن الأوروبي". وهذه هي، على حدّ توصيف الكاتبة: "قصة البلقان في السياق الأوروبي والعالمي، والتي ما تزال ممتدّة حتى القرن الحادي والعشرين. ونحن نرى اليوم في دول مثل فرنسا والصين والهند وميانمار والولايات المتحدة، تبعات إرث وضع المسلمين على هامش القوانين، وهناك بلدان كثيرة لا تستطيع تقبّل فكرة وجود مواطنين مسلمين".

إنّ الأوروبيين يرفضون حقيقة أنّ المسلمين لطالما شكّلوا جزءاً من تاريخ قارتهم، وما يزالون يشعرون بوطأة أفكار المستشرقين في المجتمعات الأوروبية، بداية من بناء "الشرق" خلال عصر التنوير، وصولًا إلى إرسال الحملات الاستعمارية لتبرير إخضاع المسلمين للأوروبيين، والواقع أنّ احتمالات نشوء حوار حقيقي بينما يواصل بعض الزعماء السياسيين شرح وجود المسلمين في أوروبا على أساس أنّ الإسلام لم يكن من مكوّنات الدول الأوروبية منذ البداية، ستكون شبه منعدمة.

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/3I8KWJV



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية