هل مواجهة التطرف تعني الانحياز إلى المعتدلين؟

هل مواجهة التطرف تعني الانحياز إلى المعتدلين؟


19/05/2021

يقع دعاة الاعتدال والتنوير في خطأ كبير عندما يستخدمون السلطة والقوة والنفوذ في الدعوة إلى أفكارهم ومعتقداتهم وتطبيقها؛ بل هو أسوأ خطأ في المواجهة مع التطرف والمتطرفين، وفي مواجهة الخصوم والمخالفين، ذلك يقصم جبهة الاعتدال، ويفقدها مصداقيتها وتأثيرها الفكري والمعنوي؛ فالسلطة بما هي كذلك، لا تقدر على التأثير والإقناع إلا بحيادها، وبمجرد انحيازها إلى فكرة فإنّ هذه الفكرة تتحول -مهما كانت جميلة أو تقدمية- إلى فكر سلطوي، ولا ينظر إليه أغلب الناس إلا أنّه فكر مفروض عليهم، وأنّه يقدم إليهم أو يُسَوَّق في ظل وصاية على حرياتهم واختياراتهم وعقولهم وضمائرهم، ويتحول الفكر المخالف إلى مظلة للاحتجاج والمعارضة والتمرد، ويستقطب المهمشين والغاضبين والمعارضين لأسباب أخرى لا علاقة لها بفكر أو اعتقاد.

اقرأ أيضاً: أدبيات التطرف.. هل نواجهها كما يجب؟

وربما يكون (وهذا ما أرجّحه) الدور الديني المباشر للسلطة السياسية، حتى لو كان يهدف إلى الاعتدال والتنوير والموقف الصائب في الدين والفكر والسلوك، ينطوي بذاته على وصاية وتلقين وهيمنة تنفر منها المجتمعات ويتمرد عليها الأفراد.

يقع دعاة الاعتدال والتنوير في خطأ كبير عندما يستخدمون السلطة والقوة والنفوذ في الدعوة إلى أفكارهم ومعتقداتهم وتطبيقها

وفي جميع الأحوال، يجب الاعتراف ومواجهة أنفسنا بأنّ المؤسسات الرسمية والحليفة لها، والقيادات الاجتماعية والفكرية والأكاديمية، لم تعد قادرة على إنجاح سياسات وأهداف الدولة المفترضة في مواجهة التطرف والكراهية، وأنّها برغم الإنفاق الكبير والدعم السياسي والتسهيلات والفرص التي تحظى بها، فشلت فشلاً ذريعاً، بدليل الحالة الكاسحة من التطرف والتدين المغشوش، وغياب الثقة بين المواطنين والحكومة وبين المواطنين والسوق والسلع والأعمال والحرف، وضعف مستوى التعليم والانتماء والسلوك الاجتماعي الصحيح.

لم يعد ممكناً الحديث عن مواجهة التطرف والكراهية بمنأى عن الحديث عن غياب الثقة بالمؤسسات والأشخاص والأدوات السائدة، فهي شريكة في صنع الحالة وتكريسها أو فاشلة في التصحيح والعمل.

إنّ أسوأ ما يمكن أن تقع فيه عمليات مواجهة التطرف، هو حمل الناس على خطاب ديني محدد، يعتقد أصحابه أنّه خطاب معتدل أو أنّه الصواب، ثم العمل على فرضه في المدارس والجامعات والمساجد؛ إذ سوف تبدد الحكومة بذلك أموال دافعي الضرائب، وسيزيد التطرف أيضاً؛ فنكون كمن ننفق من مواردنا الشحيحة على التطرف.

اقرأ أيضاً: "الاعتدال والتطرف".. محاولة للفهم والمواجهة

ليست وظيفة الدولة، ولا يمكنها عملياً، أن تلزم الناس بفهم الدين وتطبيقه، فهذه مسؤولية المجتمع والأفراد، إضافة إلى أنّها مسألة متعلقة بإيمان الناس وضمائرهم، وهو ما لا يمكن أبداً ولا يحق لأحد أن يمارسه تجاه إيمان الناس وقناعاتهم وأفكارهم.

ثمة حاجة كبرى وأكيدة بالطبع للرد على أفكار وخطاب الجماعات المتطرفة، وأن يقدم للجمهور خطاب معتدل وإصلاحي، ولكن ليس على سبيل الإلزام، ولا حتى التبني الرسمي لهذا الخطاب. وللتذكير، ولا بأس في تكرار ذلك، فإنّ من تصدى للخطاب الإصلاحي والعقلاني هو المؤسسات الرسمية، وما عنا ببعيد أمر علي عبدالرازق، وطه حسين، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد محمود طه، ومن قبلهم خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، ومن قبلهم ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي والسهروردي والحلاج وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب، واضطهدت العقلانية المأمونية أحمد بن حنبل وابن نصر الخزاعي، لقد كانت أزمة الخطاب العقلاني والمعتدل مع السلطات والمؤسسات الرسمية، ولم تكن فقط مع الجماعات الدينية المتطرفة!

أزمة الخطاب العقلاني والمعتدل كانت مع السلطات والمؤسسات الرسمية ولم تكن فقط مع الجماعات الدينية المتطرفة!

أفضل وأهم ما يمكن أن تقوم به المؤسسات الدينية الرسمية لمواجهة التطرف، هو ألا يكون لها دور تنفيذي مباشر في إدارة وتنظيم الشأن الديني. ولم يكن على مدى التاريخ الإسلامي، دور ديني للسلطة في مجالات التعليم والإفتاء والفقه والدعوة والإرشاد، لم تقم الدولة بذلك إلا في ظل الدولة الحديثة! الأزهر كان مؤسسة مستقلة عن الدولة منذ نشأته وحتى خمسينيات القرن العشرين، والمساجد الكبرى مثل؛ الأموي والزيتونة كانت تقوم عليها المجتمعات المحلية، وكل ما لدينا من تراث علمي وفقهي ومؤسسات علمية، كالمذاهب الفقهية والمدارس والمساجد والتأليف والجدل الديني.. كل ذلك وغيره، كان عملاً فردياً ومجتمعياً، لم تتدخل الدولة في إدارته وتمويله. وما تقوم به اليوم وزارات الأوقاف والتربية والتعليم والجامعات وغيرها من دور ديني في التعليم والدعوة والإمامة والإرشاد والفتوى، ليس تكليفاً دينياً؛ بمعنى أنّ الله تعالى لم يطلب من السلطات أن تفعل ذلك؛ فلا يوجد خطاب ديني للدولة لتتولى التعليم والإفتاء والفقه والإرشاد. وإن كان أحد يظن أن من واجبات الدولة أن تؤدي دوراً دينياً، فهذا فهم وتقدير بشري، وليسا نصاً نزل من السماء.

اقرأ أيضاً: هل ندرك حقاً الفرق بين التطرف والاعتدال؟‎

لا مجال لمواجهة التطرف وتكريس التسامح والاعتدال، سوى أن تنسحب الدولة من المساجد والتعليم الديني في وزارة التربية وكليات الشريعة، وأن تدمج المحاكم الشرعية بالمحاكم النظامية، وتترك للمجتمعات والأفراد الجدال والحراك الديني. والدولة، بولايتها العامة وسلطاتها وأجهزتها التنفيذية، قادرة بالطبع على محاسبة كل من يخالف القانون أو يسيء استخدام عمله وموقعه في الوظيفة العامة أو المجتمعية. وبذلك، سوف تنشأ اتجاهات ومؤسسات مجتمعية متعددة، وتكون الدولة حكماً ومنسقاً ومراقباً لتطبيق القانون، ولن تكون طرفاً في الجدال والصراع. وهذا يجعلها أكثر قبولاً، ويخفف كثيراً من الصراع الديني. ويفترض أنّ الاعتدال قادر على أن يكتسب مؤيدين وقواعد اجتماعية بلا دعم حكومي، كما استطاع المتشددون.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية