هل يعاني المسلم من عقدة الشعور بالذنب؟

هل يعاني المسلم من عقدة الشعور بالذنب؟


16/12/2020

يقوم منطق الشعور بالذنب على الإحساس بالتقصير وعدم "فعل المطلوب" في المكان أو الزمان الواجبين. يصحّ هذا نحو الذات أو الآخرين أو المقدس أو من يستوجب التضحية في نظر الشاعر بالذنب، وهو في درجاته المقبولة يقترن بحسّ المسؤولية، والالتزام الأخلاقي أو الديني، أوالحساسية الإنسانية المتحضرة، التي تأنف فعل الخطأ أو أذى الآخرين، وحين يغدو مبالغاً فيه يستحيل "عُقدة"، تتمظهر في لاعقلانية الأفكار والسلوك. هذا المعنى حاضر في الأديان والأيديولوجيات الكبرى جميعها، وهو يحضر هذه الأيام في احتفالات المسلمين، وخصوصاً الشيعة، بـ "عاشوراء"؛ حيث يبلغ حبّ الإمام الحسين بن علي- رضي الله عنهما- حدّ إيذاء النفس، عبر طقوسيات احتفالية تنطوي من طرف البعض على مشهدية دموية نهى عنها كثير من كبار علماء الشيعة ومرجعياتهم الدينية.

البعض ممن تديّنوا تقليدياً بعيداً من التشدد صار لديهم شعور بالذنب من أنهم  لم يكونوا مسلمين كما ينبغي

وإذا أردنا توسيع دائرة هذا النقاش وعدم حصره في عاشوراء وذكرى مقتل الإمام الحسين، رضي الله عنه، جاز لنا القول إنّ من الظاهرات الاجتماعية التي انتشرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، التي شهدت صعود ما سمي "الصحوة الإسلامية"، أنّ بعض المسلمين ممن تديّنوا تقليدياً (فِطرياً) بعيداً من التشدد صار لديهم تحت وطأة موجة التديِيْن شعور بالذنب من أنهم ليسوا، أو لم يكونوا، "مسلمين كما ينبغي"، وأنّ عليهم، بالتالي، أنْ يستغلوا ما تبقى من عُمرٍ، لكي يعيشوا "المثال الإسلامي"، أو يقتربوا منه، ويكونوا "أكثر إسلاماً"؛ أملاً في أنْ يكونوا أكثر كرامة واطمئناناً. هنا يَحدُثُ استجلابُ "ذاتٍ جديدةٍ" ينطوي على "انتقامٍ ما" مِنَ الذاتِ القديمة، وإفراطٍ في التديّنِ الطقوسيّ والرموز كقنطرةٍ لـ "التكفير عن تفريطٍ" اعترى الهوية القديمة.

ورفْعُ "الإسلام السياسي"، وفي واجهته "الإخوان المسلمون" شعار "الإسلام هو الحلّ"، والمتوجه إلى أكثرية مسلمة، إنّما يعني أنّ ما عليه هذه الأكثرية من الإسلام غير كافٍ، ويستدعي التخلّص من "هويّة مُفرِّطة" وهو ما لا يكون بغير الإفراط في التديّن الطقوسيّ وغمرِ الحياة بالفتاوى والتعليمات الدينية؛ في الصغيرة والكبيرة، وهذا يعبّر عنه فتحي بن سلامة بمصطلح "المُسْلم الأعلى".

اقرأ أيضاً: الشيعة والإسلام السياسي..عندما يخفي التطرف المذهبي مشاريع سلطوية

ويميل بن سلامة إلى اعتبار "الإسلاموية" التي ابتدأها "الإخوان" في عشرينيات القرن العشرين "طوبى مُضادة للسياسيّ"، وذلك في معانٍ عدّة منها، أولاً، معارضتها الغرب بوصفه مخترع الحياة السياسية الحديثة المتضمنة اشتراك مواطنين في دولة لا تُعرَّفُ ولا يُعرَّفُ مواطنوها على أساس الهوية الدينية، بل على أساس الدولة الوطنية التي تجمع أفرادها رابطة المواطنة المشتركة والمتساوية أمام القانون. وثانياً أنّ المزاج الضحوي والتضحوي "التفريط بحق الإسلام والإفراط في التكفير عنه" الذي أرسته أدبيات الإسلام السياسيّ، إنما قصد في أحد أهم جوانبه استعادة الإمبراطورية الإسلامية "الخلافة"، التي انهارت وكان انهيارها سبب مولده. بيْد أنّ الأكثر تعقيداً أنّ هذا الميلاد أقام مقولته التأسيسية على نسج علاقة تماهٍ بين الخلافة كإمبراطورية وبين "الأمة الإسلامية"، فأصبح، وفق منطق الإسلام السياسي، مفهوم الأمة لا يتحقق بلا خلافة "إمبراطورية"، ومن هنا طلب الإسلام السياسي (والجهادي) على "المسلم الأعلى"؛ الذي يُصارع الغرب القائل بعدم الحاجة إلى استعادة الإمبراطورية الرومانية من أجل وجود المسيحية، والقائل أيضاً بانتهاء عصر الأمم والإمبراطوريات الدينية ومجيء عصر الأمم السياسية "الدولة-الأمّة"، الذي أرسته معاهدة وستفاليا.

المزاج التضحوي الذي أرسته أدبيات الإسلام السياسيّ قصد في أحد أهم جوانبه استعادة الخلافة التي انهارت

الأخطر في خطاب "المسلم الأعلى" أنه، وهو يسعى إلى التكفير عن التفريط، يُحقّر الدنيا والعيش والاستمتاع فيها، وهو مدخلٌ أساسيّ للتشدد والتطرف؛ لأنه يُعطي للتضحية السلبية والموت والانتحار والتفجير "الإرهاب" معنى سامياً ومقدّساً؛ حيث الفشل في "التأصّل" (العودة إلى الأصول واستعادة المثال الإسلامي) في الدنيا سيعوضه، وفق المتطرف العنيف، "التأصّل" في السماء. ومن هنا تبلورت سياسة الحركات المتطرفة في التجنيد والممارسة؛ إذْ إنّ إلغاء الحدود الفردية داخل المجموعات الطائفية، كما يقول فتحي بن سلامة، هو أكثر ما يُعزز التضحية بالنفس والانتحار والتفجير، وسيبدو التكفير عن الذنب مُجدياً في حالة أصحاب السوابق الإجرامية، وهم كُثر في صفوف هذه المجموعات، ناهيك عن أنّ الآخرة وخوارقها متأصّلة في عقول عناصر هذه المجموعات، فلذلك هم يريدون الخروج على الواقع الدنيوي (المُعقّد )الذي لا يشبهها!!

والمبالغة في التدين لا تقتصر، في وظائفها، على التكفير عن التفريط عبر الإفراط في الطقوسيات والتزام الحرفية في تناول النصوص الدينية خشية الوقوع في ما يُصنّف على أنه "إثم"، بل إن هذه المبالغة تتفق مع رؤية الدين حين لا يخضع للإصلاح القائم على ضرورة التزام منطق العصر وقوانين الحياة الحديثة وفي مقدمتها منظومة حقوق الإنسان؛ أي بمعنى آخر إن ما يلفت إليه بن سلامة يفيد بأنّ الدين، عموماً، طامح في ذاته لحكم العالم، وبأن الدين لا ينفتح على الفكر والحرية والتقدم الاجتماعي من تلقاء نفسه. ولعل مؤدى ذلك هو أنّ الإصلاح الديني لا يأتي إلاّ بتغيير المجتمع، والمسيحية تغيّرتْ مضطرة تحت ضغط المجتمع، والخلوص إلى أنّ مملكة الأرض يقودها البشر، وهو ما رسّخ مفهوم مركزية الإنسان في الكون والحياة.

اقرأ أيضاً: خطايا الإسلام السياسي المتولدة عن "الصحوة الإسلامية"

وينادي مونتين بضرورة أنْ "نعتقد من دون سلطة"، والسلطة هنا تعني تسويغ الإكراه: إكراه الآخرين على فعل ما، أو منعهم من فعل ما، وهنا يغيب الاحتكام إلى القانون العصري، ويصبح "المخالف" ليس من ينتهك القانون والأنظمة التي ترعى الدولة وأجهزتها تطبيقها، وإنما من يخالف مدونة فقهية وقائمة بما يجوز ولا يجوز، ما يُولّد الاغتراب عن المجتمع.

ولعلّ ما تقدّم يستدعي القول في هذه الموضوع الشائك إنّ من مداخل معالجة تناقضات "الإسلاموية" الخروج من حالة أن يكون المسلم "هوية بلا ذات"، بلغة التونسي فتحي المسكيني؛ لأن تأمين علاقته الصحية بالعالم والواقع ومنطق الدولة الحديثة تفترض أن يكون ذاتاً حرة مستقلة في ترتيب معنى وجودها في العالم المتمدن... القائم على الحوار بين الذوات لا بين الهويات.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية