هل يمكن إعادة ضبط العولمة؟

هل يمكن إعادة ضبط العولمة؟


21/02/2021

ما من ظاهرة إنسانية ما تزال تثير الاهتمام والجدل والمناظرات الفكرية أكثر من ظاهرة العولمة، وما من ظاهرة ما يزال يخضع تقييمها ودراستها وتحليل تفاعلاتها للانطباعات الشخصية والأدلجة السياسية أكثر من العولمة.

 والسؤال الأوّل الذي يُطرح عند الحديث عن سيرورة العولمة هو، كما صاغه أحد أهمّ المتحمّسين للعولمة، المنظّر الاقتصادي الأمريكي من أصل هندي جاديش بيغاواتي Jagdish Bhagwati : هل نحن بحاجة إلى المزيد من الحديث والتنظير والكتابة والتأليف حول سيرورة وماهية العولمة؟

سيرورة العولمة ما زالت ‏تثير الجدل والخلاف بين الباحثين والخبراء والأكاديميين

قد يبدو هذا التوصيف قريباً من الوجاهة والصحة ضمن المنظومة المعرفية الغربية التي أشبعت سيرورة العولمة دراسة وتحليلاً من كافة جوانبها وبالتفصيل، لكنّ سيرورة العولمة ما زالت ‏تثير الجدل والخلاف بين الباحثين والخبراء والأكاديميين، سواء في مسألة إيجابياتها أو سلبياتها، وفي الوقت نفسه ما زالت أسيرة الانطباعات الشخصية والمقاربات الإيديولوجية لدى قطاعات واسعة من المثقفين والأشخاص العاديين.  

اقرأ أيضاً: ما موقع الشباب في معادلة الإرهاب المعولم؟

 لقد أخذ الحديث في سيرورة العولمة اتجاهات ومشارب عدة، وهناك مدارس فكرية ما زالت تتصارع في المناظرات حول هذا الأمر، لكنّ الجديد والمثير في هذه المناظرات الدائرة، خاصة في الغرب حالياً، هو الإجابة عن جملة من الأسئلة، مثل: هل فقدت سيرورة العولمة زخمها وقوة الدفع الذاتية، وبالتالي تباطأت؟ وهل تمّت عرقلتها من قبل الأطراف الفاعلة في النظام الدولي وتفاعلاته؟ وهل يمكن إعادة ضبط العولمة؟ وإذا كانت هذه هي الحال، فكيف السبيل الى إعادة الزخم والقوة لها لمواصلة المسير؟

تعريف العولمة

مثل الكثير من المفاهيم والمصطلحات الغربية التي ولدت وتطوّرت ضمن المنظومة المعرفية الغربية؛ ليس هناك تعريف محدد لمفهوم العولمة، حتى داخل النظريات والمناهج الواحدة، ولا يوجد تعريف واحد متفق عليه لدى المهتمين والأكاديميين والمراقبين والخبراء، فما بالك بالأفراد العاديين؟

العولمة قضية معقدة لها الكثير من المدّاحين والمنتقدين في الوقت نفسه

لذلك؛ يُعدُّ مفهوم العولمة ملتبساً، وإشكالياً بامتياز، وذلك سواء من حيث أصولها التاريخية، حيث يصعب تحديد تاريخ يمكن أن نقول إنه شهد مولدها، وهناك كم هائل من الأدبيات في مختلف مناحي البحث في الظاهرة حول بداياتها، أو من حيث خصائصها، حيث ما يزال التبسيط، أو المبالغة، أو التمني، أو الجدل الفكري المؤدلج حول ماهيتها، مستمراً.

وأقصد بالعولمة هنا "السيرورة  المتسارعة - بتأثير فعّال وحاسم من التطور التكنولوجي- التي تكتسب من خلالها العلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، سمات مجرّدة عن المسافات، والحدود الطبيعية أو المصطنعة، فقد أصبح البشر أكثر إدراكاً، من أيّ وقت مضى في التاريخ الإنساني، أنهم يعيشون في هذا العالم باعتباره مكاناً منفرداً وواحداً شديد الترابط، بحيث أصبح تأثير الأحداث والظواهر والشعور بها وإدراكها مهما كانت نوعيتها (امتداداً من الإرهاب العالمي، والأمراض المعدية، والاحتباس الحراريّ، وتجارة المخدرات والرقيق الأبيض، والأزمات المالية، إلى التلوث البيئيّ أو مكان حدوث هذه العلاقات والظواهر في العالم) أصبح متزايداً بشكل متسارع جداً".

اقرأ أيضاً: هل يوقظ اقتحام الكونغرس الغرب من تجاهل إرهاب اليمين الداخلي؟

 والعولمة قضية معقدة، ولها الكثير من المدّاحين، ولها أيضاً الكثير من المنتقدين من الأطراف  كافة، ولذلك من الضروري تقييم الإيجابيات والسلبيات قبل استخلاص أيّ استنتاجات ‏حولها.‏

وللعولمة أبعاد (dimensions) رئيسة معتمدة في آليات القياس الكمية لنمو الظاهرة، وهي: العولمة الاقتصادية، والعولمة الاجتماعية، والعولمة السياسية، والعولمة التكنولوجية، ولكلّ واحد من هذه الأبعاد عدد من المؤشرات الفرعية التي يتمّ القياس الكمي من خلالها لكلّ بُعد منها، وفي المجموع العام يظهر المؤشر العام للعولمة.

وهناك أدوات قياس ومؤسّسات عالمية تشتغل على ذلك، وتنشر سنوياً مؤشرات الإرهاب، أهمها "مؤشر العولمة" الذي يصدر سنوياً عن معهد الاقتصاد السويسري في زيورخ (KOF).

ما المقصود بضبط العولمة؟

في ظلّ استمرار الجدل حول ماهية العولمة، وإيجابياتها وسلبياتها، يبدو لي أنّ الحديث عن ضبط العولمة مبهماً عملياً ونظرياً ويميل إلى المعيارية، لذلك لا بدّ أوّلاً من تحديد ما هو المقصود بالضبط؟

هل المقصود ضبط سيرورة ـ عملية - العولمة؟

أم ضبط تفاعلات السيرورة؟

فإذا كان الحديث يتناول إعادة ضبط سيرورة العولمة؛ فإني أعتقد أنه من المستحيل إعادة ضبطها للأسباب التالية:

1- العولمة ظاهرة كلّانية (holistic بمعنى أنّ التفاعلات التي تحدث داخل "الاتجاه الأعظم" (mega-trend) أكبر من  حاصل مجموع أجزاء الاتجاه أو النظام.

2- العولمة ظاهرة مرتبطة بالتسارع التكنولوجي.

3- العولمة ليست ظاهرة اقتصادية فقط.

4- العولمة ليست مرتبطة بالنظام الرأسمالي أو الليبرالية فقط، هي نهر متدفق صبّت به، وما زالت تصبّ، روافد كثيرة من الحضارات الإنسانية، بداية من الحضارات البدائية وانتهاءً بروافد الحضارات السائدة في الحقبة الحالية من العولمة.

5-  العولمة سيرورة مرتبطة بالاتجاهات العظمى والتفاعلات المستمرة التي تجري داخل النظام العالمي.

6-  العولمة ظاهرة، وليست إيديولوجيا.

7-  العولمة ليست مسألة قومية، أو وطنية.

8- العولمة ليست مرتبطة بالزمان أو المكان، لأنها متخطّية للحدود الزمانية والمكانية.

9- العولمة سيرورة تاريخية متطوّرة، ومستمرة، ومرّت بمراحل متعددة ومتنوعة.

ضبط التفاعلات

 إذا كان المقصود بضبط العولمة هو ضبط التفاعلات والنتائج؛ فعندها يمكن الحديث عن إمكانية ضبط هذه التفاعلات والنتائج، رغم الصعوبة البالغة في ذلك، وشكوكي بإمكانية نجاح ذلك، في هذا السياق يمكن النظر إلى كافة الإجراءات والقوانين والأنظمة على المستوى المحلي والإقليمي، والاتفاقيات والتحالفات العالمية، على أنها أشكال متعددة للتدخل لإعادة ضبط إيقاع التفاعلات الجارية داخل الاتجاه العام لسيرورة العولمة، وهنا يصبح السؤال مشروعاً وقابلاً للقياس.

أعتقد أنّ "الاتجاه العام" لسيرورة العولمة لا يمكن ضبطه أو التدخل فيه

على سبيل المثال، هل استطاعت منظمة التجارة العالمية ضمان حرّية التجارة العالمية؟ ونحن نعلم أنّ دول مجموعة الـ20 الكبرى أضافت أكثر من 1200 إجراء مقيد للتصدير والاستيراد منذ عام 2008؟ وهل استطاعت الأمم المتحدة منع الحروب وإحلال السلام في العالم؟ وهل استطاعت منظمة الصحة العالمية حماية البشر من فيروس كورونا؟ وهل استطاع برنامج الأغذية العالمي منع المجاعات في العالم؟ وهل استطاع اتحاد كرة القدم (الفيفا) ضبط لعبة كرة القدم؟ وهل استطاعت إجراءات الحظر وقوانين الدفاع منع الأفراد والمؤسّسات والشركات من الحركة والتواصل؟... إلخ.

في الخلاصة؛ أعتقد أنّ "الاتجاه العام" لسيرورة العولمة لا يمكن ضبطه أو التدخل فيه، مع الإشارة إلى أنّ هذا "الاتجاه العام" يحمل آليات ضبطه الخاصة من داخله.

في المقابل؛ يمكننا التدخل النسبي والمشروط بكثير من الإكراهات والعوائق القانونية والسياسية والثقافية والاجتماعية والدينية في التفاعلات داخل الأنساق والأنظمة الداخلية للاتجاه العام ومحاولة التأثير عليها.

اقرأ أيضاً: هل ينجح الإرهاب في تحقيق أهدافه؟

مثال على ذلك أنّ العالم في ظلّ جائحة كورونا تدخل في "الاتجاه العام" للعولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال التدخل في التفاعلات المختلفة لسيرورة العولمة، من خلال إغلاق المطارات ومنع السفر، وإغلاق القطاعات الاقتصادية ودور العبادة، لكنه لم يستطع منع "العولمة التكنولوجية"، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، من  المحافظة على ترابط العالم بالصوت والصورة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية