هل يمكن القفز عن مشروع شوقي ضيف؟!

هل يمكن القفز عن مشروع شوقي ضيف؟!


09/02/2021

قبل أن أفصح عن السبب الذي دعاني لتحبير هذه المقالة، أود أن أتوجّه لجمهور القراء الأعزاء بالسؤال التالي: ماذا يمكن أن يحدث لو أنّ موسوعة تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف قد اختفت فجأة من المكتبات؟ وسأسمح لنفسي بالإجابة على هذا النحو: سوف يصاب معظم مدرّسي وطلاب أقسام اللغة العربية في قارات العالم بانهيار وظيفي وتحصيلي يصعب التنبؤ بمداه الزمني والنوعي! كما أود أن أسأل أيضاً: ماذا يمكن أن يحدث لو أنّ مؤلّفات طه حسين قد اختفت بالطريقة نفسها؟ وسأسمح لنفسي بإلإجابة على النحو التالي: عدد قليل جداً من الأساتذة والطلاب سيشعرون بالأسى فقط !

شوقي ضيف كتاب قائم بنفسه ويضم آلاف الصفحات التي تتطلب صبراً وجلداً ومنهجاً وثباتاً على مدار السنين

هذه ليست الطريقة التي أحب أن أعيد من خلالها التذكير بالفارق الإستراتيجي والحاسم الذي يفصل العلّامة شوقي ضيف ( 1910 _ 2005) عن سائر المؤرخين والباحثين والنقاد في حقل الأدب العربي، ولكن اجتراء بعض الأكاديميين والمثقفين المحدثين بالقول أو بالكتابة على المشروع التاريخي والأدبي والنقدي الذي أنجزه عبر سبعة عقود من التنقيب والتحقيق والتصنيف والتحليل والنقد والتأليف، دفعني لحسم مطلوب المقالة قبل الشروع بها !

اقرأ أيضاً: لماذا نقرأ بعيون الآخرين؟

وحتى أطمئن محبي طه حسين، فأنا من أشد المعجبين بشخصيته النقدية، ودفعت مثل غيري ضريبة هذا الإعجاب بطريقة أو بأخرى، لكنني لا أستطيع التنكر لحقيقة أنه أطلق كثيراً من الفرضيات التي لم يستطع البرهنة عليها! ما يجعله صفحة مثيرة من صفحات الأدب العربي، لكن شوقي ضيف كتاب قائم بنفسه ويضم آلاف الصفحات التي تتطلب صبراً وجلداً ومنهجاً وثباتاً على مدار السنين.

ولا أخالني قد بالغت، حينما زعمت بأنّ أساتذة وطلاب أقسام اللغة العربية في قارات العالم، قد صاروا عالة على شوقي ضيف في كل ما كتب، بدءاً من العصر الجاهلي وصدر الإسلام مروراً بالعصرين العباسيين الأول والثاني وليس انتهاء بعصور الدويلات. وليس في فنون الشعر والنثر والنحو والصرف والبلاغة فقط؛ بل وفي التاريخ والسياسة والفلسفة وعلوم القرآن والحديث والمذاهب والكلام أيضاً.

اقرأ أيضاً: محمود شقير والديالكتيك الفلسطيني الجديد

نظرياً، يمكن لباحث مبتدئ أن يتهور ويقول: ما الصعوبة في تأليف كتاب عن العصر الجاهلي؟ وعملياً يمكننا أن نجيب: لقد ألّفت في هذا العصر كتب كثيرة فعلاً... فلماذا توارت كلّها وبرز كتاب الدكتور شوقي ضيف؟ لأنه التزم في هذا الكتاب وكل ما تلاه من أجزاء تاريخ الأدب العربي، منهجاً واحداً لم يحد عنه، وقوامه المحافظة على (مفهوم النسق) بمعناه الحداثي وليس بمعناه في النقد الثقافي؛ أي بوصف موضوع الكتاب شبكة من العلاقات المادية والمعنوية التي يجب أن تفضي إلى نتائج وخلاصات. ولهذا، فهو عادة ما يبدأ بالجغرافيا ثم يمر بالتاريخ ومكوّناته الرئيسة مثل؛ المجتمع والدين والسياسة والاقتصاد، وصولاً إلى الثقافة بمعناها العام، ثم يتفرّغ لتشخيصها وتحليلها بمعناها الأدبي والنقدي الخاص؛ شعراً ونثراً وشعراء وناثرين. ويندر على هذا الصعيد أن يغفل فكرة أو ظاهرة حاسمتين أو اسماً أو تاريخاً بارزين، إلى درجة يمكنني الزعم معها بأنّ طلبة الدراسات العليا يمكنهم الاستغناء عن مطالعة عشرات المصادر القديمة والمراجع الحديثة والاكتفاء بالرجوع إلى موسوعة تاريخ الأدب العربي إذا داهمهم الوقت ووجدوا أنفسهم مضطرين لاجتياز امتحان شامل في اللغة العربية وآدابها، وإلى درجة يمكنني الزعم معها أيضاً بأنّ معظم عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه التي تملأ رفوف مراكز التوثيق في الجامعات العربية قد استُمدت من ثنايا صفحات هذا التاريخ.

أطلق طه حسين كثيراً من الفرضيات التي لم يستطع البرهنة عليها! ما يجعله صفحة مثيرة من صفحات الأدب العربي

وهل يعني ما تقدم أنّ موسوعة تاريخ الأدب العربي التي أبدعها شوقي ضيف تخلو من المآخذ؟ هناك طبعاً مآخذ كانت وما زالت وستظل أبرز سمات أعمال الروّاد المجتهدين، لكن ما يجعل هذه المآخذ غيضاً إلى جانب الفيض الذي نحن بصدده، التزام العلاّمة شوقي ضيف بالموضوعية المتناهية في أغلب ما كتب. وحسبنا بما كتبه عن دواوين امرئ القيس وزهير والأعشى، أدلة تؤكد أنّ الحقيقة فقط هي مطلبه، حتى لو أدى الصدوع بها إلى التلاقي أحياناً مع طروحات بعض المستشرقين المتطرّفين، وحتى لو جرّ عليه الجأر بها سوء فهم بعض الهواة والمبتدئين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية