هل ينفي العمل السلمي تطرف الإسلام السياسي؟

هل ينفي العمل السلمي تطرف الإسلام السياسي؟

هل ينفي العمل السلمي تطرف الإسلام السياسي؟


19/02/2024

هل يكفي أن تكون جماعات الإسلام السياسي سلميّة تتجنّب العنف لاعتبارها جماعات معتدلة؟ وهل تكفي مشاركتها في الانتخابات العامة لاعتبارها ديمقراطية؟ كانت أسوأ خديعة أوقع بها الإسلام السياسي نفسه ومؤيديه؛ بل وفئة واسعة من المثقفين والناشطين، أنّ المشاركة السياسية والعامة لجماعات الإسلام السياسي، والقيام بأعمالها وأنشطتها من خلال القوانين السائدة يعتبر اعتدالاً يستحق المديح. فهل نعتبر، على سبيل المثال، الحركات اليمينية والأصولية في أوروبا وأمريكا وإسرائيل والتي تتقدم بأفكارها وبرامجها المتطرفة إلى الناخبين وتنجح على أساسها في الانتخابات معتدلة؟

اقرأ أيضاً: محمد العيسى: الإسلام السياسي خطر يهدد الجميع
مؤكد أنّ القوانين المنظمة للحياة العامة ليس في مقدورها أن تمنع التطرف والكراهية إلا في حدود غير كافية أو فاعلة؛ لأنّ الجماعات والاتجاهات القائمة على مشاعر مستمدة من الخوف أو الفشل أو الشعور بالتهديد سوف تظل تملك حيوية وقدرة على التأثير والانتشار من غير أن تحتاج إلى انتهاك القوانين، والحال أنّ العلم والعقل لا ينشِئان أيديولوجيا، فلا ينشئ المتطرفون، والأيديولوجيون بعامة، مواقفهم الأيديولوجية، ثم مشاعر الولاء والكراهية المستمدة منها، بناء على موقف أو جهد علمي عقلاني؛ هم لم يبحثوا في المصادر الدينية والفكرية ولم يقارنوا بين الأدلة والاتجاهات.

المجتمعات العربية والإسلامية كما العالم تمر بمرحلة انتقالية من الخوف والارتباك في مواجهة العولمة وتحدياتها

فهؤلاء الذين يتساءلون ويبحثون عن الإجابات ويرجحون بينها ويواصلون البحث والتفكير، ينشئون اتجاهات ومواقف عملية وتطبيقية في الفقه والسلوك والتفكير، قد تكون صحيحة أو خاطئة أو ملتبسة؛ وهم حتى إن كانوا منتمين إلى اتجاهات وأفكار متطرفة، فإنّ الأفكار الناتجة عن المجهود العقلي والبحثي الذي يبذلونه تؤدي إلى نتائج مستقلة عن موقفهم وانتمائهم الأيديولوجي، فقد يستخدمها الباحث في مجال عمله واختصاصه المهني أو العلمي، أو في الفقه والعبادة، لكن الموقف الأيديولوجي حالة نفسية مستمدة من المواقف والتجارب والاتجاهات النفسية التي تشكل الشخصية عبر التجارب والمؤثرات والأفعال وردود الأفعال والذكريات.
المعتقدات مثلنا، أو هي جزء منا، وتعكس شخصياتنا وهوياتنا. وفي ذلك، فإنّها تميزنا وتنشئ موقفنا من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا؛ فيصبح ليس منا، أو مختلفاً عنا، أو عدواً أو مكروهاً. ثم نطور موقفنا منه (الآخر) أو اعتقادنا عنه، بأنّه يريد إيذاءنا، ومن ثم تجب إزاحته أو إقصاؤه أو إخفاؤه من الوجود.. فتبدو عمليات الإقصاء والإبادة كأنّها دفاع ضروري عن الذات، أو هي تعكس الخوف الوهمي على وجود الذات ومصيرها.

اقرأ أيضاً: محمد البشاري: جماعات الإسلام السياسي تسعى لاصطدامنا مع الآخر
وفي ذلك فإنّ التقييم الفعلي لجماعات الإسلام السياسي هو في ملاحظة الأفكار والاتجاهات التي تعكس الاعتدال والتسامح بالمفهوم الذي يعكس التفاعل والتقبل المتبادل في الأفكار والآراء والعمل المشترك، والقبول باحتمال خطأ الذات وصواب الآخر، أو بعبارة أخرى في تقديم الأفكار والبرامج بمحتوى إنساني وليس مقدساً، وعلى أنّها أفكار واجتهادات إنسانية قابلة لأن تكون خطأ أو صواباً، فلا يضيف شيئاً إلى الاعتدال والديمقراطية التقدم إلى صناديق الانتخابات بمقولات يزعم أصحابها أنّها حق نزل من السماء، فلماذا الجدل والانتخاب إذن؟

أسوأ خديعة أوقع بها الإسلام السياسي نفسه أنّ المشاركة السياسية والعامة يعتبر اعتدالاً يستحق المديح

لقد ألحق العمل السلمي و"الديمقراطي" القائم على التقدم إلى الانتخابات العامة بالاعتقاد بالحق ضرراً كبيراً بالدين والديمقراطية معاً، وربما يكون أشد ضرراً من الجماعات التكفيرية والانفصالية التي ترفض الانتخابات ولا تؤمن بالديمقراطية، فهذه كانت على قدر من الوضوح والالتزام بفكرتها يجعلها متوقعة وقابلة لترتيب علاقاتها وأوضاعها وفق معتقداتها، ولكن الجماعات التي قدمت المحتوى نفسه بلا فرق يذكر والذي تحمله الجماعات المتطرفة وحوّلته إلى برنامج سلمي انتخابي.
لكن تظل حقيقة ماثلة ولا يجوز التهرب منها أنّ جماعات الإسلام السياسي شأن جميع الجماعات اليمينية في العالم في هذه الفترة الزمنية تحظى بتأييد جماهيري، وأنّها قادرة على اجتذاب المؤيدين والممولين؛ فالمجتمعات العربية والإسلامية كما العالم تمر بمرحلة انتقالية من الخوف والارتباك في مواجهة العولمة وتحدياتها، وفي تفاعل هذه التحولات مع الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي فقد اكتسبت جماعات الإسلام السياسي مزيداً من التماسك والقدرة على التأثير؛ فالمجتمعات انفصلت عن السلطات السياسية منذ فترة طويلة ولم يعودا (السلطات والمجتمعات) شريكين متكاملين بسبب طبيعة السياسات العامة التي انتهجتها السلطات وأدت إلى إضعاف المجتمعات و/ أو استعدائها، كما أنّ السلطات السياسية في مواجهتها مع المعارضات على مختلف أطيافها وفي دفاعها عن سياساتها ومواقفها، التي لم تكن شعبية في أغلبها وخاصة سياسات الضرائب والخصخصة، دفعت فئات واسعة من المجتمعات والطبقات إلى التحالف مع الجماعات الدينية السياسية، ووجدت فيها مظلة سياسية واجتماعية تحميها من السلطات، أو تساعدها في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.

اقرأ أيضاً: ماذا تفعل جماعات الإسلام السياسي بالأتباع والمريدين؟
اكتسبت جماعات الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان قدرات وخبرات وتجارب تنظيمية وسياسية مكنتها من القدرة على العمل والتأثير السياسي والعام دون أن تضع نفسها في مواجهة القانون، بل وأبدت استعدادات واسعة ومفتوحة للتحالف مع السلطات والكتل الاجتماعية والسياسية المختلفة بلا شروط أيديولوجية، وفي الوقت نفسه دون أن تنشئ أيديولوجيا جديدة ملائمة للإصلاح والعمل العام.

القوانين المنظمة للحياة العامة ليس في مقدورها أن تمنع التطرف والكراهية إلا في حدود غير كافية أو فاعلة

وعلى أي حال فإنّ التطرف يشكل ظاهرة تكاد تكون حتمية متصلة بالتحولات والعولمة والصراع الاجتماعي والسياسي، مثلهما مثل الجريمة (بمعناها الشائع) والمخدرات والوباء والأزمات الاقتصادية والمالية. وليس المطلوب بالطبع الترحيب بالظاهرة ولا الرعب منها أو التطرف في مواجهتها، فتلك عمليات معقدة وطويلة ومتراكمة متصلة بالتعليم والتنمية والتنشئة، كما أنّ الإقبال على الجماعات اليمينية ومنها بالطبع جماعات الإسلام السياسي سيظل ظاهرة تعكس الشعور بالتهديد والخوف، وهي تستحضر فكراً يمينياً متشدداً ينشئ التطرف، هي ببساطة واختصار ثقافة بدائية قائمة على الصراع لأجل البقاء، ومستمدة من ذاكرة وحياة الصيد وجمع الثمار.
والظاهرة (التطرف السلمي) متصلة أيضاً بقاعدة العرض والطلب. فهذه القاعدة حقيقة أساسية في الفكر والسياسة والسوق والسلوك. ويجب أن يفهم التطرف بما هو عمليات تشكل طلباً لدى الناس أو فئة واسعة منهم. هكذا يقول، على سبيل المثال، مصممو ومخرجو السينما في تفسير العنف والرعب والإغراء والقتل التي تفيض بها السينما. ويمثل التطرف وفق هذه القاعدة، سلعة تلجأ إليها الجماعات بما هي تسعى الى النجاح والتأثير السياسي. وما من حلّ سوى استخدام القاعدة نفسها (العرض والطلب) وذلك بخطاب يربط بين التقدم والاعتدال وبين الفشل والتطرف، وفي السعي الحتمي والتلقائي للإنسان بعد أن يحل مشكلة البقاء، ويملك وفرة من الطعام والوقت تسمح له بالتفكير، إلى البحث عن المعنى والجدوى.

اقرأ أيضاً: كيف خرج الإسلام السياسي على موقف أهل السنّة من الدولة؟
ولعلهما (المعنى والجدوى) كلمتا السرّ فيما جرى ويجري منذ إقامة الدولة الحديثة. فلا يمكن أبداً مع تطوير المدارس والمؤسسات ووفرة المعرفة والموارد، إلا أن يبحث الناس عن المعنى والجدوى. وفي البحث والتأمل كانت جماعات الإسلام السياسي إجابة حاضرة ومتاحة في ظل غياب مؤسسات اجتماعية وتعليمية قائمة على المشاركة والتطوع والإبداع وتحقيق الذات.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية