أصول التعددية الدينية عند عبد الكريم سروش

أصول التعددية الدينية عند عبد الكريم سروش


02/04/2018

إنّ انفتاح العقل البشري على الآخر المغاير، له أحد أهم أسباب ثراء هذا العقل، ولعلّ من الثراء أن ننفتح على اجتهادات علماء الشيعة المعاصرين، في اجتهادهم حول تجديد الفكر الديني، فهناك اجتهادات مهمة لعلماء مثل: علي شريعتي، ومحمد مجتهد الشبستري، وعبد الجبار الرفاعي، وأحمد القبانجي، وعبد الكريم سروش، ومصطفى مليكان، وغيرهم. ولعلّ أهم ما يميز هذه الاجتهادات؛ هو توظيفها لمنجزات التقدم في العلوم الإنسانية، في تجديد الفكر الديني، وفي هذا يبدو الفكر الشيعي المعاصر أكثر انفتاحاً على العلوم الإنسانية من الفكر السني المعاصر في مجال تجديد الفكر الديني.

وتظلّ أحد أهم المحن الكبرى في الفكر الديني عموماً؛ هو النزوع الأحادي والحصري الذي ينكر مفهوم التعددية الدينية، ويدعي ملكية الحقيقة، وهو ما يؤدي إلى وجود العديد من المشكلات الناتجة عن هذه الأحادية، مثل؛ إقصاء الآخر وتكفيره، وإباحة استخدام العنف ضدّه، وهنا يطرح عبد الكريم سروش، المفكر الإيراني المعاصر، أهمية إرساء مفهوم التعددية الدينية كمفهوم مهم في موقفنا من الدين ورؤية العالم، فيقدم لنا مفهوماً عن التعددية يسمى (البلورالية الدينية)؛ أي التعددية الدينية في مقابل (البلورالية الاجتماعية)؛ أي التعددية الاجتماعية، ويرى أنّ أطروحة التعددية (أو البلورالية) الدينية تنطلق من دعامتين أساسيتين: أولهما تنوع الأفهام بالنسبة إلى المتون الدينية، وثانيهما: التنوع في تفسيراتنا للتجارب الدينية.

تظلّ أحد أهم المحن الكبرى في الفكر الديني عموماً؛ هو النزوع الأحادي والحصري الذي ينكر مفهوم التعددية الدينية

ويرى سروش أنّ التعددية الدينية ناتجة عن أنّ فهمنا للمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة، وهذا التعدد والتنوع لايقبل الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعاً ومتعدداً فحسب؛ بل سيالاً، والسرّ في ذلك أنّ النص صامت، ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية، وتفسيرها سواء في الفقه أو الحديث أو القرآن الكريم، ولأنّ التفسير يأتي من فضاء معرفي خارج الدين، وهذا الفضاء متغير وسيال، لذا تتعدد أفهامنا للنص.

ومن جانب آخر؛ يرى سروش أنّ الكلام الإلهي ذو بطون، حيث إنّنا إذا كشفنا عن الطبقة أو القشرة الأولى في معنى النص لظهرت طبقة أخرى من المعنى، وأحد الأسباب الكامنة في هذه الظاهرة؛ هو أنّ الواقع يتضمن التعدد في باطنه، وبما أنّ الكلام يحكي عن هذا الواقع، ويكشف الستار عنه، فسيكون متعدداً بالتبعية، وهذه الظاهرة تحفظ للنصّ طراوته وتضمن خلوده، وهناك روايات تشير إلى أنّ للقرآن سبعة وسبعين بطناً، وطالما أنّه لا يوجد دين بلا تفاسير، فليست المعرفة الدينية سوى مجموعة من التفاسير الصحيحة والسقيمة، فنحن نسبح في بحر من التفاسير والأفهام للنص، هذا هو مقتضى ماهية الدين من جهة، ومقتضى بشريتنا وبناء أجهزتنا الإدراكية من جهة أخرى، ولذلك؛ فالإسلام السنّي يعدّ فهماً خاصاً عن الإسلام، والإسلام الشيعي أيضاً يعد فهماً آخر للإسلام، ولا يوجد أي دين طيلة تاريخه من دون هذه الكثرة والتنوع في أفهام أتباعه، والشاهد على ذلك؛ مدى التعدد في تاريخ العقائد وعلم الكلام للأديان والمذاهب، لذا يرى سروش أنّه لا يمكن اعتماد تفسير واحد للدين على أنّه صحيح، أو أنه تفسير الفرقة الناجية.

وإذا كان سروش يرى أنّ ثمة تعددية ناشئة من تعدد التفاسير، فإنّ هناك تعددية ناشئة من تعدد تفسير التجربة الدينية؛ فالتجربة الدينية هي مواجهة الأمر المطلق المتعالي، وهذه المواجهة تتجلى بأشكال عدة؛ فتارة تكون بصورة الرؤيا، أو بسماع صوت معين، أو رؤية ملامح وألوان، أو اتصال النفس بعظمة عالم الوجود، وكلّ ما يفسر التجربة الدينية بطريقة خاصة، فالطريق الآخر لوجود ظاهرة التعدد الديني؛ هو وجود تجارب دينية متنوعة ومتعددة، ووجود تفاسير متعددة للتجربة الدينية الواحدة. 

يرى سروش أنّ التعددية الدينية ناتجة عن أنّ فهمنا للمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة

وينتقد سروش الرؤية الانحصارية للدين، فيقول: إنّ أتباع كلّ واحد من الأديان، يرون لأنفسهم حظوة خاصة عند الله ليست لدى الآخرين، ولكن إذا كان أتباع كلّ واحد من هذه الأديان يرون دينهم الحقّ المطلق والحقيقة المحضة، ويرون النجاة من نصيبهم فقط، دون الآخرين، ألا يعني هذا أنّ العالم يتحول إلى جحيم مطلق؟ ويواجه سروش ذلك في رؤيته التعددية، بأنّنا لا بدّ من أن نميز بين الحق في ذاته، والحق في تجلياته، ومن ثم فإنّ ظهور الحق في مظاهر مختلفة، وتجليات متنوعة؛ هو السر في اختلاف الأديان، وهو الدليل على حقّانيتها بأجمعها، وعلى هذا يصل إلى كثرة أصيلة في دائرة الأديان، ويؤكد سروش على رؤية الفيلسوف الإنجليزي، جون هايك، بأنّ "هذه الأديان ظهورات وصور وتجليات لإله واحد، فلعلّ الله تعالى تجلى لأفراد البشر بطرق مختلفة متفاوتة".

ويوضح سروش، أنّ التعددية نابعة من تجلي المطلق في المقيد، وظهور اللامتعيّن في المتعيّن، ولذا يرى سروش أنّ النزاع بين الفرق والأديان الغرض منه التزاحم والصراع وإخفاء حقيقة الدين، ويؤكد سروش على رؤية جلال الدين الرومي في هذا الشأن، بأنّ ذلك نابع من تراكم الحقيقة على الحقيقة، فتراكم الحقائق هو السبب في إيجاد سبعين فرقة ومذهب.

فالتعددية الأصيلة لدى سروش تبنى على أساس الاقتدار الفكري لدى الإنسان، فنحن تعدديون؛ لأنّنا نمتلك الشيء الكثير من المعارف، ولأنّ المتون والتجارب الدينية تحتمل تفاسير متعددة بالطبع، وبما أنّ الحقيقة ذات بطون، ومليئة بالأسرار، وكثيرة الأضلاع، وبما أنّ الغيرة الإلهية والقضاء الإلهى يوجبان التعدد والتخاصم، فمن هنا رضينا بالكثرة، وتعاملنا مع تنوع الأديان من موقع القبول. 

يرى سروش أنّه لا يمكن اعتماد تفسير واحد للدين على أنّه صحيح، أو أنه تفسير الفرقة الناجية

ويبرّر سروش ضرورة التعددية؛ بأنّه ليس لدينا حقّ خالص، ولا باطل خالص، والكلام ليس في أصل الأديان، وأنّها عين الحق، بل في فهم الناس، وفي ظاهر المذاهب الدينية المختلفة التي تضمّ دوماً قدراً من الحق والباطل، فما نراه من حالة النزاع الديني سواء داخل دائرة الدين أم خارجها، يحكي ثبات حالة الصراع والوصول إلى طريق مسدود عبر عملية الفرز، فلا يوجد من يرضى بتغيير عقيدته، وذلك أنّ كلّ إنسان يرى في عقيدته جمالاً وصدقاً ورسوخاً وحقاً، ويرى في عقيدة الآخر كل أشكال القبح، وهذا ليس صحيحاً، فليس التشيّع هو الإسلام الخالص النقي والحق المحض، ولا التسنّن كذلك، ولا المذهب الأشعري يمثل الحق المطلق، ولا الاعتزالي، فكلٌّ يدرك جانباً من الحقيقة.

ويرى سروش أنّ الدين عندما يدخل التاريخ البشري، فإنّه يرتدي حلة تاريخية بشرية، ويتعرض لتصرفات أذهان البشر وسلوكياتهم، وبالتالي ستغطي الحجب صفاء الحقائق القرآنية، فينقص أو يزداد فيه، وما يتبقى من ذلك، فهو الحد الأدنى من الهداية والمعنوية المعروضة على البشر.

وينتهي سروش إلى إقرار التعددية "لأنّ إله العالم عندما خلق البشر وقذف بهم في أجواء الفكر، فإنّه خلق لهم لغات وعوالم مختلفة، وجعل العلل والأدلة متنوعة، وأقام في طريق العقل مئات العقد والمنعطفات الفكرية، وبعث الكثير من الرسل، وأصدر نداءات ذات ألوان متعددة ومختلفة للبشرية، وجعل الناس شعوباً وقبائل ليتحركوا لا من موقع التكبر والتنازع؛ بل من موقع التعارف والتواضع، فالذين يطالبون بتسوية التعرجات الفكرية والمذهبية بين الناس، عليهم أن ينتبهوا لئلّا يقودهم هذا المسلك إلى السقوط في منزلقات التعارض مع المشيئة الإلهية، ومواجهة الإرادة الربانية في هذا الشأن، وهي ضرورة التعدد".

//0x87h

الصفحة الرئيسية