الجزائر: التصوّفُ يقاوم التطرف ويشحن الروح بالأنوار

الجزائر: التصوّفُ يقاوم التطرف ويشحن الروح بالأنوار


كاتب ومترجم جزائري
03/12/2017

استعاد تيارٌ روحيٌّ مسلمٌ جديد، متأصِّلُ الجذور في التقاليد، مكانَه في المجتمع الجزائري، ويجب اعتباره واحداً من العناصر الحية للتراث العالمي المتاحِ لكلّ شخصٍ في بحثِه الروحي.
بعد تجاوزاتِ الإسلام السلفي أو الجهادي، تستعيد اليوم في قلب المجتمع الجزائري حركةٌ روحيةٌ إسلامية قديمة، متجذرةٌ في التقاليد العريقة، مكانَها من جديد.
ففي السنوات الأخيرة تعزّزت الحركةُ الإسلامية في المجتمع الجزائري، على الرغم من محاولاتِ السلطات احتواءها بعد الصراع الدمويّ الذي شهِدته البلادُ في التسعينيات. لقد بدأت تصرفاتُ الكثير من المسلمين والمسلمات  في الجزائر تكشفُ عن المكانَة التي احتلتها المعتقداتُ أو الالتزاماتُ الدينية الجديدة القادمة من الشرق الأوسط، تحت مُسمَّى "السلفية".
وفي هذا السياقِ، عادت العديدُ من تقاليدِ الماضي، الثقافيةِ منها والطقوسية، إلى الظهورِ من جديد في الحياة اليومية، على الأقل كمرجعٍ يجبُ الانصياعُ له من قِبل كل مَنْ يريد أنْ يعيش كمسلمٍ حقيقي - أو كمسلمة حقيقية- حتى لو كان، في الوقت الحالي، لا أحدَ يلتزم من تلقاءِ نفسه، بهذا الانصياع.
الإسلاموية المتطرفة
وفضلاً عن ذلك، أدّى ميلادُ الدولةِ التي تُسمي نفسها بـ "الخلافة" في الشرق الأوسط، مع أتباعِها في أفريقيا وآسيا وأوروبا، إلى ظهورِ "إسلاموية متطرفة"، ترفض غالبيةُ المسلمين اليوم أنْ تُسمِّى نفسَها مُسلمة.
وتحتل هذه التيارات في الغرب، من خلال استخدامِ الإرهاب، مجالَ الصحافة والنشر والاهتمام العام. وهي تسعى لأنْ تطمسَ تطوّرَ حركاتٍ أخرى في الإسلام، وتطوّرَ الأفكارِ الدينية الجديدة في الجزائر. ومن بين هذه التيارات هناك على الخصوص التيارُ الذي يستنِد إلى الإسلام الروحي، وهو التصوّف الإسلامي.

بعد تجاوزاتِ الإسلام السلفي والجهادي استعاد تيارٌ روحيٌّ مسلمٌ جديد، متأصلُ الجذور في التقاليد حضوره في الجزائر

من الواضح أنّه بعد محاولةِ الاستيلاء على السلطة من قِبل الجبهةِ الإسلامية للإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة، من سنة  1990 إلى سنة 2000 أصبح المجتمعُ الجزائري على بيّنةٍ من مخاطرِ هذه القراءة السياسية للإسلام. وفي جميع أنحاء البلاد تقريباً، وربما بشكلٍ أعمق في غرب الجزائر، شُكلت جماعاتٌ لإعادةِ إحياء المؤسسات القديمة للإسلام الصوفي.

لقد أنشأت هذه الحركاتُ في السابق شبكةً من الزوايا كقاعدةٍ لإشراقها الروحي. ففي خلال السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال (1962-1992) قامت الدولةُ والحزب الواحد الحاكم بمحوِ وُجودِ هذه الزوايا، لِخِشيَتِها من نفوذها على الشعب، وخاصة في المناطق الريفية. ومع ذلك فقد أدّت تجاوزاتُ الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحركاتُها المسلحة، وتطورُ القراءة السلفية للإسلام، بالدولة الجزائرية إلى تغيير موقفها من هذه الزوايا، والسماحِ للتيارات "الصوفية" باستعادة مكانها الطبيعي في المجتمع.

فمنذ التسعينيات؛ بل وحتى أثناء الحرب الأهلية، ما فتئت هذه الحركاتُ تنمو وتتطور، أوّلاً بشكل خَفِيّ، على الرغم من أعمالِ العنف التي ارتُكبت في حقّها من قِبل الجماعات المسلحة (تدمير أضرحة القديسين المؤسسين والقِباب، والاغتيالات ... الخ). وعلى الرغم من هذه المعارضة (أو ربما بسبب هذه المعارضة) استعادت هذه الطرقُ الصوفية المختلفة الموجودة في البلاد، نفوذَها؛ بل وقامت أحياناً بإيجاد هياكل جديدة بالقرب من المدن الكبيرة، وعلى هذا النحو اكتسبت أرضيةً في المناطق الحضرية؛ بل وحتى بين الأكاديميين. كما نشأ اتحادان وطنيّان من الزوايا الصوفية، وأكثر من ذلك فقد عَرَضا رئاستهما على رئيس الدولةِ نفسه.

الحركات الروحية التصوفية

تقليدياً معظمُ هذه الزاويا (ولكن ليس كلها) ترتبط بواحدةٍ من الحركات الروحية التصوفية الكبرى، مثل القادرية (نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، بغداد)، ومختلف المجموعات المرتبطة بالشاذلية – عيساوة، أو العيساوية، وهي الطريقة الصوفية التي أسسها سيدي محمد بن عيسى المغربي (فاس)، والدرقاوية التي أسسها مولاي العربي الدرقاوي (فاس) – ومجموعات أخرى وُلدت حديثاً (القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر)، مثل التيجانية ببلدية عين ماضي، التابعة لولاية الأغواط، وبلدية تيماسين التابعة لمدينة ورقلة، أو الرحمانية في بلدية الهامل التابعة لمدينة بوسعادة، مع فروعها المهمة في منطقة القبائل، بالإضافة إلى الطريقة الهِبرية /البلقايدية (نسبة إلى مؤسسها سيدي محمد بلقايد) في غرب الجزائر (تلمسان / وهران).

وقد أسست بعضُ الحركات الآن مراكزَ أنشطتِها في أوروبا، مثل العَلَوية للشيخ بن تونس، الذي أسّس، من بين أمور أخرى، الكشافة الإسلامية الحالية في فرنسا وأوروبا الغربية.

وقد قام الشيخُ بن تونس وحركتُه في السنوات الأخيرة بحملةٍ من أجل إقامةِ يومٍ دولي لـ "العيش معا"، ويودّون أنّ تتبنّاه الأمم المتحدة وتُعلنَه.

المجتمع الجزائري اكتشف مؤخراً الكتاب الصوفي للبطل الجرائري الأمير عبد القادر، وعنوانه "المواقِف الرُوحية والفُيوضَات السّبُوحيَة"

وفي الآونة الأخيرة اقترح الشخ بن تونس وحركتُه ربطَ هذه المبادرة بيوم السلام في 21 أيلول (سبتمبر)، الذي قد يصبح على هذا النحو يوماً للسلام والعيش معاً.

هذا الوجود الدولي مع ذلك لا يمنع زاوية العلوية من الإبقاء، أيضاً، على مكانِ إشعاعِها في مدينة مستغانم (الجزائر)، وخاصة حول جنان العريف".

في خلال شهر أيلول (سبتمبر) 2016، نظم قادةُ هذه الحركة الصوفية اجتماعاً في مدينة مستغانم بالجزائر ضم أكثر من ثلاثةِ آلافِ شخصٍ حول ثلاثِ شخصياتِ حصَلوا على جائزةِ الأمير عبد القادر، لالتزامهم بالسلام. فكان عن جنوبِ البحر الأبيض المتوسط الأخضر الأخضر الإبراهيمي الذي كان مسؤولاً عن تمثيلِ الأمم المتحدة في سوريا خلال السنوات الأولى من الأزمة السورية، وكان عن أوروبا فيديريكو مايور، الرئيس السابق لمنظمة اليونيسكو، وكان عن أمريكا ممثلٌ كندي.

كما أنّ هناك هياكل أخرى منبثِقة عن مبادراتٍ فرديةٍ تستنِد على التراث الروحي للإسلام، دون مَرجعية لأيّ طريقة من الطرق الصوفية بعينِها، كما هو الشأن، على سبيل المثال، بالنسبة لمجموعة الدراسات الروحية التي تجتمع في مدينة تلمسان بالجزائر في خلوةِ سيدي السنوسي القديمة (القرن السادس عشر). وفي بعض الأحيان يتعلق الأمر بمجرد تقاليد محليّة تُكرّس ذكرى شيخٍ عظيم، أمثال سي مبارك بن علال في مدينة القليعة بالجزائر. وفي بعض الأحيان أيضاً يرتبط الأمرُ بتقاليد شعبية تغطي منطقةً بأكملِها، وتَجذِب الآلافَ من الزوار إلى الجزائر كل عام، مثل أسبوع المولد النبوي في مدينة تيميمون.

طرق الإيمان
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ عودةَ الصوفية هذه تثير اليوم البحثَ الأكاديمي عن مصادر هذه الحركة؛ فالشيخُ سيدي بومدين، مثلاً، الذي يُحظى بالتبجيل في مدينة تلمسان، وهو أندلسي الأصل، كان مؤخراً موضوعاً لمؤتمرٍ دولي عُقد في مدينة بجاية بالجزائر، حيث كان يُلقِي دروسَه في الفكر الصوفي.
وكان ابن عربي أيضاً موضوعَ ندوة أكاديمية أخرى نُظّمت كجزءٍ من المبادرات السنوية لهيئة "طرق الإيمان" التابعة لمركز البحوث في وزارة الثقافة الجزائرية.
ومن أهم التطورات في هذا المجال إعادةُ اكتشافِ المجتمع الجزائري مؤخراً للكتاب الصوفي للبطل الجرائري الأمير عبد القادر، كتاب "المواقِف الرُوحية والفُيوضَات السّبُوحيَة".
لقد ساندت مؤسسةُ الأمير مؤخراً نشْر عبد الباقي مفتاح لهذه الطبعة الجزائرية الأولى لـ "مواقف الأمير الـ 372". ويضمّ كتابُ "المواقف" الصوفي التعاليمَ الروحية التي كان الأمير عبد القادر الجزائري يُقدّمها، حتى وفاته، في عام 1882، في أحد مساجد دمشق.
وبعد مرور قرنٍ من الزمان، في عام 1982، أعاد ميشال تشودكيويتز، نشر "الكتابات الروحية" التي ألّفها الأمير عبد القادر الجزائري، وتجلّي هذا التراث الروحي. وقد أصبحت هذه الكتابات الروحية الآن في الجزائر من خلال كتاب "المواقف" عنصراً رئيسياً أيضاً في إعادة اكتشاف التراثِ الروحي الهائل الذي تركه ابن عربي للمجتمع الإسلامي بأسره.
في هذا التيار من الإسلام الروحي، ولكنْ خارج الحركات الصوفية الخالصة، بدأ المهتمّون يلتقون بِمبادراتٍ تقدّم رسالةً قوية جداً، ولكن مع مرجعيات أخرى. ويمكننا في هذا الصدد أنْ نعطي مثالَين اثنين حديثَين يُوضّحان ذلك:
أوّلاً، كتابُ كريمه بيرجيه Karima Berger، وهي كاتبة من أصلِ جزائري تعيش في فرنسا، اختِيرت مؤخراً في باريس كرئيسة لحركة الكُتاب الروحيين. لقد سبق وأنْ اقترحت بالفعل العديدَ من الكتب التي تؤدي إلى التأمل الروحي، في صياغةٍ جديدة جداً موجّهة للمؤمن المسلم.
وفي كتابها هذا نلمس بشكلِ خاص تأمّلَها حول الرسالة التي تركتها لنا إتي هيلسوم  Etty Hillesum التي تحاورت معها كريمة بيرغر في هذا الكتاب، من فوق حاجزِ الموت، والتي تُحدِّثُها فيه عن بحثِها عن الله، ومعنى الحياة، رداً على الرسالة التي تركتها لنا إتي هيلسوم، هذه المرأة المتصوفة الشابة، القادمة من اليهودية.
وقد أعطتنا فريده زيراي  Farida Zerraiأيضاً كتاباً روحياً جميلاً، من خلال البحث عن عائلةِ محمد، ذلك الرجل الذي ضحَّى بحياتِه لحماية حياةِ المسيحي كريستسيان دي تشيرجي، خلال حرب الجزائر.
إسلام قرطبة
ويمكننا أنْ نضم إلى هذا التيار الفكري أيضاً العديدَ من تصريحاتِ وزير الشؤون الدينية الجزائري الحالي، محمد عيسى. لقد ذكر في مناسبات عديدة أنّ الأزمة الجزائرية في التسعينيات وُلِدت من قراءات الإسلام الآتية من الشرق الأوسط، وأنه ينبغي للجزائر أنْ تعود إلى مصادرها الحقيقية وهي "إسلام قرطبة". ويُفهم إسلامُ قرطبة على أنه الزمنٌ الذي طوّرَ فيه الإسلامُ الانفتاحَ على الفكر والثقافة والفلسفة، واحترام التقاليد الدينية الأخرى.
ويمكننا أيضاً أن نُدرج، في هذا الخط الفكري، مُفسّرين جدداً للإسلام، مثل الإمام دو فيلوربان Villeurbanne في مدينة ليون (فرنسا) ، وعز الدين قاسي، الذي تُعمِّق تعاليمُه وتُجدّد انعكاسَ الروحانية التقليدية.
إن تقليد التكتم في التجربة الصوفية لا يسمح لها بأنْ تحتل في المجتمع الجزائري مكانةً مميّزة مثل المبادرات الأخرى التي تلجأ بشكل منهجي إلى التغطية الإعلامية.
ولكنْ من الواضح أنه، بعد تجاوزاتِ الإسلام السلفي، بل والأسوأ من ذلك الإسلام الجهادي الحالي، استعاد تيارٌ روحيٌّ مسلمٌ جديد، متأصِّلُ الجذور في التقاليد، مكانَه في المجتمع الجزائري، ويجب اعتباره واحداً من العناصر الحية للتراث العالمي، المتاحِ لكلّ شخصٍ في بحثِه الروحي.

المصدر: ELISHEAN


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية