الدراما التركية.. هل هي وسيلة "العدالة والتنمية" للتمدّد الناعم؟

الدراما التركية

الدراما التركية.. هل هي وسيلة "العدالة والتنمية" للتمدّد الناعم؟


06/03/2018

 

لعقود متعاقبة، اعتاد المشاهد العربي أن تكون القاهرة هي عاصمة الإنتاج الدرامي الأولى في المنطقة، وما صاحب ذلك ونتج عنه من انتشار للهجة، ونمط الحياة، والثقافة المصرية. وبينما كانت الدراما المصرية تشهد تراجعاً، أمام مزاحمة نظيرتها السورية، وصعود الدراما الخليجية، إضافة إلى الدراما اللاتينية والغربية المدبجلة، حدث التحوّل الأكبر، خلال الأعوام القليلة الماضية، ليختلف المشهد؛ فمنذ عرض مسلسل "نور" التركي في صيف العام 2008، بدأ متابعو الدراما بالاتجاه نحو قبلة جديدة، لكنّ الوجهة هذه المرة لم تكن دولة عربية، لقد كانت تركيا، والمسلسلات المنتجة فيها، والمدبلجة بعد ذلك، لتكون ناطقة باللهجات العربية العامية المختلفة.
صعود على مستوى عالمي
لم يكن صعود الدراما التركية وانتشارها منحصراً في إطار الفضاء العربي؛ فقد احتلت الدراما التركية، وفق تقرير نشرته "بي بي سي"، المركز الثاني عالمياً، بعد الولايات المتحدة، من حيث الانتشار؛ إذ باعت تركيا، عام 2011، أكثر من 10,500 ساعة درامية، تابعها حوالي 150 مليون مشاهد في 76 دولة.
وبحلول نهاية عام 2013، جلب قطاع الدراما 150 مليون دولار في مدخلات التصدير إلى البلاد، كما ارتفع متوسط سعر الحلقة الواحدة من المسلسلات التركية، في العالم العربي، من 500 دولار عام 2007، إلى 50 ألف دولار عام 2017.
لم ينحصر انتشار الدراما التركية في المنطقة العربية؛ بل تجاوز ذلك إلى الأسواق الأوروبية، كما وصل إلى الصين وإفريقيا، وبعد ترجمة الأعمال إلى البرتغالية والإسبانية، سجلت الدراما التركية انتشاراً واسعاً في دول أمريكا اللاتينية، ما لفت أنظار المراقبين ودعاهم للبحث في أسباب انجذاب اللاتينيين لها.
أهمية اقتصادية متزايدة
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، عام 2002، أصبحت المسلسلات التليفزيونية أهمّ صادرات تركيا؛ حيث وصل حجم مبيعاتها إلى أكثر من 350 مليون دولار سنوياً، وفي عام 2016 أعلن رئيس مجلس الصادرات التركي، أنّ بلاده تسعى للوصول إلى رقم "ملياري دوﻻر" من تصدير المنتجات الثقافية، وفي مقدّمتها الدراما، بحلول عام 2023، وهو ما رأى إمكانية تحقيقه بسهولة، مع تزايد عدد المسلسلات المنتجة سنوياً، التي يفوق عددها حالياً المئة مسلسل سنوياً.

 

إعلان ترويجي لمسلسل "حريم السلطان" في إحدى شوارع سنتياغو عاصمة التشيلي

الدراما وسيلة التغلغل الناعم
كانت الحكومة التركية، ضمن مخططها للتوجه نحو المنطقة العربية باعتبارها "عمقاً إستراتيجياً"، قد أطلقت منصات إعلامية رسمية عدّة ناطقة باللغة العربية، لكن مع تحقيق المسلسلات متابعة ونجاحاً كبيراً، وبعد أن بدأت تحصد أرباحاً تقدر بملايين الدوﻻرات سنوياً، سعت الحكومة الى تبنّي هذا القطاع ودعمه، وكان من أهم الخطوات في هذا الاتجاه جعل المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون طرفاً مراقباً للعمليات الإنتاجية، لضمان زيادة عملية التسويق إلى الخارج، خصوصاً إلى المنطقة العربية؛ إذ يبدي المجلس ملاحظاته على السيناريو.
جاء التبنّي السياسي للأعمال الدرامية من اتفاق صناعة الدراما التركية مع مساعي الحكومة الرامية إلى بسط نفوذ تركيا الثقافي، وتأثيرها الاجتماعي خارج نطاق حدودها الجغرافية، والترويج لدور ريادي تركي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وما يتطلبه ذلك من بناء صورة ذهنية جديدة تحلّ مكان صورة تركيا العثمانية، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في الذاكرة والمخيلة العربية، وذلك تماشياً مع مشروع "العمق الإستراتيجي".
وهكذا، فإنّ الدراما التركية وانتشارها، غير منفصل عن السياسة، وهي تشكّل إحدى أهم آليات التغلغل الناعم، التي تعتمد عليها الحكومة لتسويق صورة خارجية نموذجية عن تركيا، واختراق العالم العربي من خلال إعادة ربط العلاقات معه، ودفع شعوب المنطقة للتطبيع مع ذلك والتعاطف مع قضاياها، وخلق حالة من الانبهار والإعجاب بنموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

 حظيت الدراما التركية بالاهتمام من قبل حكومة العدالة والتنمية لما وجد فيها الحزب من فرص لتحقيق أهدافه

تسويق ودعاية
لم تتوقّف آثار انتشار ورواج الدراما التركية عند الأغراض السياسية؛ إذ حققت منافع وعوائد اقتصادية مهمّة، ومن ذلك ما ساهمت به من ترويج للبضائع التركية، وخصوصاً فيما يتعلق بالملابس والموضة.
فقد شهدت الصادرات التركية من الإكسسوارات والحليّ والديكور والنسيج التركي، تضاعفاً خلال الأعوام الأخيرة، كما تحوّلت تركيا إلى علامة مهمّة فيما بات يعرف بـ "الموضة الإسلامية"، التي اخترقت الأسواق العربية مؤخراً بالتزامن مع الغزو الدرامي، وتمثلت في الملابس الفضفاضة ذات الألوان الزاهية وأغطية الرأس الملونة.

روّجت الدراما لأنماط الملابس والموضة التركية

الترويج للسياحة
كما ساهمت الدراما التركية، على نحو كبير، في زيادة العائد السياحي للدولة، وذلك من خلال ما تعرضه من مناظر طبيعية، وأماكن سياحية، ومعالم تاريخية، إضافة إلى مختلف أنواع اﻷطعمة، وقد انعكس هذا الترويج على زيادة أعداد السياح الى تركيا، خلال الأعوام الأخيرة، وخصوصاً من الدول العربية، وبالتالي، ضخّ مبالغ مهمة طائلة من العملة الصعبة في القطاع المالي، وتنشيط قطاعات اقتصادية أخرى، من نقل ومطاعم وفنادق، وخلق مزيد من فرص العمل والاستثمارات الجديدة.

ساهمت الدراما التركية في الترويج للبلاد كوجهة سياحية

مسلسلات العشق.. هل تروج للقيم التركية؟
فاطمة، العشق الممنوع، نور.. أسماء مسلسلات عشق تركية، راجت على الشاشات العربية خلال العقد الأخير، وإضافة إلى ما قدمته من رومانسية عالية، حرصت هذه الأعمال على إبراز نمط الحياة التركي الذي يجمع بين التقاليد والانفتاح.
وهكذا، أصبحت هذه المسلسلات وسيلة ترويج لقيم للنموذج العلماني التركي؛ إذ تختلط السلوكيات الدينية المحافظة؛ من أداء الصلاة، والدعاء، والحجاب، بالممارسات المتحررة كالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج وشرب الكحول وغيرها، وهو ما ترك أثراً واضحاً في المشاهد العربي.

الإنتاج الدرامي التاريخي التركي يستحضر التاريخ ويوظفه لخدمة أهداف سياسية توسعية تتفق مع خطاب الحزب الحاكم في تركيا

المسلسلات التاريخية رواية الماضي بدوافع السياسة الحاضرة
بعد صدور مواسم "حريم السلطان" الأربعة، والتي بثت خلال الأعوام 2011 إلى 2014، وما قدّمه المسلسل من صورة متخيلة عن حياة السلطان العثماني سليمان القانوني ونزواته، مع تسليط الضوء على حياته الخاصة، وهو ما أثار لغطاً كبيراً في تركيا بلغ حدّ المطالبة بإيقاف عرضه من قبل البرلمان التركي.
وانخرط في حملة المعارضة للمسلسل رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، والذي شنّ هجوماً على المسلسل، وقال: "أنا لا أعرف شخصية السلطان سليمان القانوني التي يظهرها المسلسل"، لافتاً إلى أنّ السلطان "قضى ثلاثين عاماً من عمره على ظهر الخيول في إطار الحروب والفتوحات التي خاضها".

رأى المعارضون لمسلسل "حريم السلطان" أنّ فيه تحريفاً وتشويها لتاريخ الخلافة العثمانية

وكان هذا المسلسل دافعاً لظهور أعمال درامية تتولى مهمّة عرض وبثّ وجهة نظر مغايرة عن تاريخ السلاطين والدولة العثمانية، وكان من أهم الأعمال التي جاءت في هذا الإطار: المسلسل التاريخي "قيامة أرطغرل"، الذي بدأ عرضه على شاشة تلفزيون "تي آر تي" عام 2014، وتناول قصة "أرطغرل بن سليمان الشاه"، والد "عثمان الأول" مؤسس الإمبراطورية العثمانية.
وقد أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعماً رسمياً للمسلسل؛ حيث استقبل نجومه، بزيّهم التاريخيّ، في الاحتفال بذكرى فتح القسطنطينية، كما كان أردوغان قد اصطحب بعضاً من طاقم المسلسل معه في زيارته لدولة الكويت في آذار (مارس) 2017، وزار موقع التصوير برفقة زوجته، وقام بجولة تعرَّف من خلالها إلى الفريق، وشجّعهم على المواصلة والمثابرة، إضافة إلى حضوره حفل زفاف بطلة المسلسل "إسراء بلجيتش"، التي أدّت دور "السلطانة حليمة".

أردوغان يستقبل أبطال مسلسل "قيامة أرطغرل" بزيّهم التاريخي

خلال لقاء تلفزيوني، في آذار (مارس) 2017، سألت الصحافية الرئيس أردوغان عن رأيه في "قيامة أرطغرل"، فكانت إجابته: "إنّه مسلسل تتابعه أمتنا وشعبنا، رغم ما قيل إنّنا لا يمكن أن ننتج مسلسلاً كهذا، ولكنّ أرطغرل كان جواباً صارماً، فعندما يستوحي الإلهام من تاريخنا نؤمن بأنّ مستقبلنا سيكون مليئاً بالحرية".
وبالإمكان تفسير هذا الاحتفاء الرسمي بالمسلسل، بكونه يعكس طموحاً قومياً يستند إلى الماضي؛ حيث يعمد المسلسل إلى تصوير الأتراك في صورة منقذي الإسلام ومخلّصيه من الأعداء، وتتجلّى فيه بوضوح النزعة القومية المغلفة بالمشاعر الدينية، مع التركيز على سموّ العرق التركي، وتهميش باقي الأعراق، وتجاوز كلّ إنجازاتها التاريخية والحضارية.
ورغم أنّ المسلسل يزخر بالإشارات الإسلامية في أحداثه وحوارات أبطاله، إلّا أنّ تلك الإشارات لا تتجاوز صورة الإسلام في صيغته الأتاتوركية، كأحد مقومات الأمة التاريخية؛ ففي ضوء أحداث "قيامة أرطغرل"، يبدو انتصار الأمة التركية، في لحظة تأسيسها الأول، راجعاً إلى بطولتها، كما يظهرها العمل، كمنقذة للإسلام.

أردوغان يزور موقع تصوير "قيامة أرطغرل"

لا ينحصر الإنتاج الدرامي التاريخي التركي بمسلسل أو مسلسلين، لكنّ الثابت فيه -منذ عرض فيلم الفاتح عام 2012، وحتى عرض الحلقة الأولى من مسلسل "السلطان محمد فاتح" مطلع شباط (فبراير) الماضي– هو إعادة استحضار التاريخ وتوظيفه لخدمة أهداف سياسية توسعية، تتفق مع خطاب الحزب الحاكم في تركيا، وتتحرك في مساحة القيم السياسية عند المشاهد العربي، بحيث يصبح مؤيداً ومناصراً لعودة "الخلافة"، وليست أيّ خلافة، إنّما خلافة مركزها تركيا تحديداً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية