علاقة "النهضة" والسلفيين: مراوغات لم تصمد حتى النهاية

السلفيون

علاقة "النهضة" والسلفيين: مراوغات لم تصمد حتى النهاية


09/11/2017

تعاظمت أهمية الظاهرة الإسلاميّة منذ سبعينيات القرن الماضي في المشهد الوطنيّ والإقليميّ والعالميّ، وازدادت بروزاً بتنامي الجهادية العالميّة التي صارت حركة عابرة للحدود تفعل في المشهد الدوليّ وتوجّه أغلب سياساته. لكنّ تحوّلات المجال العربيّ بعد العام 2011، وصعود حركات الإسلام السياسي قد أعاد ترتيب المشهد الإسلاميّ ودفع بحشود من الفاعلين إلى مسرح الأحداث بالانخراط في الشأن العامّ بأشكال وأجندات مؤتلفة ومختلفة. ولكن هل الإسلام السياسيّ صوت مفرد وموحّد أم جماع أصوات تتقاطع وتتصادم؟ الواضح أنّ مكوّنات الظاهرة الإسلاميّة لا تنطوي على ألفة سياسية وفكريّة واحدة رغم الاشتراك في المرجعيّات والسرديّات والنصوصيّة والأمّة المتخيّلة؛ لأنّها تختلف في الاستراتيجيّات والتوجهات على غرار العلاقة بين السلفيين وحزب حركة النهضة في تونس وما فيها ائتلاف واختلاف وتحوّلات تفرضها السياقات والاستجابات للأحداث الوطنيّة والعالميّة.
مشترك الاستناد إلى المرجعية الإسلامية
رغم طفرة التسميات التي اكتسحت الأدبيّات الفكريّة والأكاديميّة والإعلامية كالجهادية والأصولية والسلفيّة العلميّة والسلفيّة الجهاديّة والإسلام المتشدّد واليسار الإسلامي، فإنّ هناك اتّفاقاً على تمييز اصطلاحيّ بين السلفيّة، بوصفها رؤية دينيّة وروحية وأخلاقية ذات منحى نصوصي تسعى إلى استعادة الإسلام النقيّ، وتحويله إلى منهاج حياتيّ دون الانخراط في مخرجات العملية السياسية من جهة، والأحزاب الإسلاميّة المنخرطة في العمليّة السياسيّة في شتّى وجوهها ضمن أطر قانونيّة ولها وجود مؤسّسيّ معلوم. وهذا عينه ما يجمع بين سلفيّة تونس وحزب حركة النهضة، وخاصّة إذا تأمّلنا ما يجمع الطرفين وما يفرّقهما في سياق الحراك السياسي التونسي.

 الجهاز المفاهيميّ الذي تتداوله حركة النهضة والسلفية يكاد يكون مشتركاً كالشريعة والشورى وأهل الحلّ والعقد والأمر بالمعروف والمنكر والخلافة والأمّة

تشترك السلفية وحزب حركة النهضة في الاستناد إلى المرجعيّة الإسلاميّة بكلّ مكوّناتها من قرآن وأحاديث وسيرة نبويّة وتراث فقهيّ وعقديّ؛ أي السرديات الإسلامية المقدّسة بنصوصها وذواتها ورموزها ووقائعها، فهما بذلك ينخرطان في نفس الأصول والذخيرة التراثية. إلى ذلك فالسلفية التونسية كغيرها من السلفيات المحلية تسعى إلى استعادة العصر الذهبيّ بوصفه النموذج والمثال الذي يجب تمثّله والاحتذاء به، وكذلك حركة النهضة في حنينها إلى هذا المتخيّل السياسي كما هو ماثل في خطاب أحد رموزها وهو أمين عام حركة النهضة حمادي الجبالي في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 عن الخلافة السادسة بوصفها حلماً ينتظر التونسيين في زمن حكم النهضة.

 أمين عام حركة النهضة حمادي الجبالي بشر التونسيين في العام 2011 بالخلافة السادسة بوصفها حلماً سيتحقق في زمن حكم النهضة

وفضلاً عن ذلك فالجهاز المفاهيميّ الذي تتداوله حركة النهضة والسلفية يكاد يكون مشتركاً كالشريعة والشورى وأهل الحلّ والعقد والأمر بالمعروف والمنكر والخلافة والأمّة وغيرها من المفاهيم، ويكفي أن ننظر في الهيكل التنظيمي لحزب حركة النهضة لنكتشف أصالة هذه المفاهيم مثل "مجلس شورى الحركة"، وهو الهيكل التسييري الأبرز في الحركة بما يعكس تجذّراً في هذه الشبكة المفاهيميّة المشتركة. ويتأكّد هذا المنحى في علاقة الطرفين بتطبيق الشريعة وأحكامها الفقهيّة، فالسلفية ترى في الشريعة خياراً مجتمعياً لا يمكن التنازل عنه، وهو موقف يتردّد لدى قاعدة عريضة من أنصار النهضة، وحتّى من قياداتها كما هو الحال في مطالبة أحد كوادرها وهو حبيب اللوز العام 2015 في المجلس التأسيسي بتطبيق حدّ الحرابة على المضربين والمعتصمين من العمّال.

إشكالية الانخراط في العمل السياسي
لكنّ مجريات الحياة السياسيّة قد تفرض منوالاً في التعاطي مع مجريات الشأن العامّ وفق إكراهات وحسابات مختلفة، وهو ما يخلق نوعاً من القطيعة بين الطرفين؛ فالتيّار السلفيّ يأبى الانخراط في العمليّة الديمقراطيّة معتبراً إيّاها ضرباً من العلمانية والحداثة الكافرة على خلاف حركة النهضة، وكثير من أحزاب الإسلام السياسي في تونس والجزائر والمغرب والكويت وماليزيا وتركيا، فهي مؤمنة بهذه المسارات ومندرجة فيها، وتعتبرها سبيلاً للوصول إلى السلطة، واستطاعت باستيعاب آلياتها أن تبلغ ذلك وتكون فاعلاً محوريّاً. وهذا خلق ضرباً من القطيعة الفكريّة العميقة تجلّت في المواجهات مع أنصار الشريعة، وتحوّل قسم من السلفيّين المتشدّدين إلى العمل العسكري المسلّح، فيما اعتزل القسم الأكبر النشاط الدعويّ واكتفى بممارسة قناعاته في هدوء.
وتزداد الفوارق النوعيّة بين السلفيّة وحركة النهضة في ممارسة العمل السياسيّ ضمن أطر مؤسّساتيّة كالبرلمان والانكباب على التشريع، فإذا كان السلفيّون يحتكمون بشكل صارم إلى أحكام الشريعة، ويتّخذون موقفاً حادّاً من التشريعات البشريّة واصفين إيّاها بالكافرة، فإنّ حركة النهضة أبدت مرونة كبيرة وقدرة على المناورة والنأي بنفسها عن المرجعيّة الأصوليّة، كالتشريعات المتعلّقة بقانون المشروبات الكحولية أو النقاب أو مقاومة العنف المسلّط على المرأة؛ لذلك فحزب حركة النهضة أكثر براغماتيّة في التكيّف مع ضغوطات الواقع السياسي داخليّاً وخارجيّاً، ومراعاة احتياجات المجتمع التونسي وخصائصه بينما يصرّ السلفيّون على التمسّك الحرفيّ بالأحكام الفقهيّة التراثيّة.

 السلفيات التونسية تسعى لاستعادة العصر الذهبيّ بوصفه النموذج والمثال وكذلك حركة النهضة في حنينها إلى هذا المتخيّل السياسي الإسلامي

إلى ذلك فانخراط حزب حركة النهضة في المشهد الوطنيّ أجبرها على الاندراج في شبكة من العلاقات الإقليميّة والدولية مع فاعلين يعتبرهم السلفيّون أعداء للمسلمين والأمّة الإسلاميّة ويطلقون عليهم اسم الطاغوت، ويطبّقون فيهم مبدأ الولاء والبراء. فالعلاقة مع بعض الأنظمة العربيّة والغربيّة هي في منظور "النهضة" أساسية وحيوية لاستمرارها كقوة سياسية فاعلة، ولتلميع صورتها أمام الجمهور المحليّ والدولي، لذلك يعتبر السلفيون حزب حركة النهضة منحرفاً وأشبه بالمرتدّ بـ"انخراطه في الحلف الصليبي اليهودي العالمي"، ودعمه لكثير من التحرّكات والمواقف، أو حضوره في المصالح الدبلوماسية الغربية في مناسبات وطنية أو استدعاءات لحفلات عشاء أو موائد إفطار تقام للجهات السياسية في تونس.

 السلفيون الجهاديون يمتدحون الأعمال العنيفة كالتفجيرات أو عمليات الذئب المنفرد تماماً كما يمتدح السلفيون المعتدلون في سرّ وصمت هذه الأعمال المتطرّفة

ولم ينأَ المشهد العالميّ عن أن يكون نقطة اختلاف جوهرية بين السلفيين وحركة النهضة، وخاصة ما تعلق بالحرب على الإرهاب والعمليات الجهادية، فالسلفيون الجهاديون يمتدحون هذه الأعمال العنيفة كالتفجيرات أو عمليات الذئب المنفرد، تماماً كما يمتدح السلفيون المعتدلون في سرّ وصمت هذه الأعمال المتطرّفة. لذلك فبيانات التنديد أو التعاطف التي تصدر عن حركة النهضة تعقيباً على أحداث عالمية أو إقليمية لا تلقى الاستحسان والرضا لدى غالبية السلفيين، لأنّها تخالف مفهوم الجهاد بوصفه واحداً من المقولات الدينيّة التي تؤكّد عليها الأدبيات الأصولية والسلفية، والنكوص عنها نوع من الكفر، لا سيّما أنّ مناطق إسلامية كثيرة تتعرض إلى أعمال عدوانية كأفغانستان وسورية وبورما والشيشان لا تحتلّ صدارة اهتمامات حركة النهضة.
الخطان المتناقضان لحركة النهضة
لكن هل تصل العلاقة بين الطرفين إلى حدّ القطيعة والصدام؟ لا بدّ من الانتباه إلى أنّ حزب حركة النهضة في قياداته وقواعده ليس كتلة واحدة متجانسة في المواقف والاتّجاهات، بل يجمع خطّين متناقضين: ذوي الرؤية المعتدلة والمرنة الذين هم مستعدون للتكيّف والمناورة، وذوي الرؤية المتصلّبة في مواقفهم من القضايا الداخلية كالعلاقات مع الأحزاب والمنظمات الوطنية وفي القضايا الإقليمية كسورية ومصر مثلاً، وهذا يجعل شقّ المتصلّبين أكثر انسجاماً وألفة مع السلفيّين في مبادئهم وقناعاتهم، تماماً كألفة المعتدلين السلفيين مع الشقّ المرن في حركة النهضة.
ولعلّ المثير للانتباه أنّ كثيراً من المنتسبين إلى حركة النهضة أو المتعاطفين معها لا يختلفون في شيء تقريباً عن السلفيين من حيث معتقداتهم ورؤاهم في قضايا المرأة والنقاب وتحريم الخمر وغيرها من المسائل المحسومة في أيديولوجيا السلفيين. وقد أظهرت أحداث السفارة الأمريكيّة في 14 أيلول (سبتمبر) 2012 التي سقط فيها قتلى وجرحى أنّ المتظاهرين كانوا خليطاً من السلفيين وقواعد النهضة المتشدّدين الذين شاركوا في المظاهرة قادمين من مختلف أنحاء الجمهورية في عمليّة من الواضح أنّها كانت منظّمة ومنسقة بينهم.

ضغوطات داخلية وخارجية تفرض الصدام
وقد مرّت علاقة السلفيين بحزب حركة النهضة بطورين أساسيين: طور الائتلاف ثمّ طور الصدام، فمنذ نجاح الحراك السياسي والاجتماعي في الإطاحة بنظام بن علي في 2011 اكتسح السلفيون المساجد والفضاءات العامة، ومارسوا أشكالاً من الدعاية والاستقطاب تحت أعين حركة النهضة، وخاصة منذ وصولها إلى السلطة؛ فقد مُكّنوا من السيطرة على المساجد والمنابر، وتحويلها إلى أماكن لنشر الأيديولوجيا السلفية، مثلما هيمنوا على الساحات العامّة ونصبوا خيمات دعوية، ونشروا مطويات وكتباً وبيانات وتسجيلات في العالمين الافتراضي والواقعي، وأسسوا جمعيات وفضاءات تعليمية مكّنتهم من الذيوع والانتشار، وهذا ضرب من الدعم والاحتواء الذي وفّرته حركة النهضة، وتمّ فيه تكفير المثقفين والفنّانين، والاعتداء على فضاءات ثقافية في ظلّ صمت وتبرير منهجي مقصود أكّدته تصريحات وتسجيلات علنية ومسرّبة.
إلا أنّ طور الألفة أعقبه طور المواجهة والصراع، وارتبط بضغوطات داخلية وخارجية، فانتشار العنف الممارس من السلفيين في الفضاءات العامّة، وذيوع ممارسات رمزية كالنقاب والالتحاء بشكل لافت للانتباه، في تزامن مع الاغتيالات السياسيّة المروّعة خلق نوعاً من الاستياء الوطني العارم، بما يهدّد الحضور الاجتماعيّ والسياسي لحركة النهضة في المجتمع التونسي ومستقبلها في عملية التحول الديمقراطيّ، وهو ما دفع بالنهضة إلى إعادة مراجعة نهجها الأيديولوجي وسياسة التساهل. أما من جانب آخر فتزايد أعداد الجهاديين التونسيين في بؤر التوتر، وتواتر الأحداث الإرهابية التي اشترك فيها تونسيون قد وضع حركة النهضة في موقع الاتّهام والمساءلة، خاصّة وأنّ أحداث السفارة الأمريكيّة في تونس وقبلها بأيام الاعتداء على القنصلية الأمريكية في ليبيا، قد أثار حفيظة الولايات المتحدة وعجّل بفكاك التحالف الفكري والسياسي بين حركة النهضة والسلفيين.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية