الشمولية الإسلامية وجذورها الفكرية.. سيد قطب نموذجاً

الشمولية الإسلامية وجذورها الفكرية.. سيد قطب نموذجاً

الشمولية الإسلامية وجذورها الفكرية.. سيد قطب نموذجاً


24/09/2023

إنّ فهم هذا الهيكل الشمولي أمر ضروري، لوضع إستراتيجية ناجحة لا تعمل على تغريب الإسلام ولا أسلمة أوروبا؛ بل تعزيز الهياكل العالمية التي تسمح بوجود مجتمعات منفتحة.

لا يعدّ داعش نبتاً شيطانياً؛ بل إنّه نتيجة منطقية لشمولية نظرية تمتزج منذ أعوام إلى الأصولية الإسلاموية، وتعود جذورها إلى مصر في حقبة الستينيات، حدث ذلك بعد انتكاستها العسكرية، وانطلاقاً من قدرتها على خلق دولة مكيافيلية، تظهر القوة الخطيرة للشمولية، ويصبح المجتمع المنفتح أمام أمر واقع يتمثل في التعامل بسرعة واستخدام آليات مختلفة لمواجهة الهجمات الإرهابية والحروب الهجينة.

كان الزرقاوي من أكبر منظري الإسلامية الشمولية

يتتبع هذا التحليل أثر بذرة الشمولية في ثنايا الإرهاب الجهادي، ويضع يده في القسم الأول على الصلة التاريخية والفكرية بين تنظيم داعش، ويتعمّق أكثر في القسمين الثاني والثالث، إلى فكر سيد قطب وتأثيره على الأصولية النظرية التي يستند إليها الفكر الجهادي المعاصر، سنحاول أيضاً تقديم تأملات موجزة لحلول محتملة.

عودة إلى الخلف

نشر كلّ من دانيال بنيامين وستيفن سيمون، عام 2006، مقالاً في صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية عن مصرع الزرقاوي، كشفا فيه حدوث تحوّل في النموذج وورد فيه أنّ "الدرس الأهم من مملكة الرعب؛ هو المرآة التي تحول دون فهم التهديد الجهادي الحقيقي، عدم إدراكنا لماهية الفكر الجهادي، وأنّه حركة اجتماعية، وليس فقط حفنة من التنظيمات الإرهابية".

كان أبو مصعب الزرقاوي، الذي توفّي عام 2006، زعيماً لتنظيم القاعدة في العراق، وأحد كبار منظّري الإستراتيجية الشمولية، فارضاً سيطرة مطلقة على المجتمع؛ عبر عنف وحشي ليس موجهاً ضدّ الكفار فحسب؛ بل ضدّ أيّ شخص لا ينصاع للمشروع، بما في ذلك المسلمون السنّة، كما أنّه كان من ابتدع "الإرهاب على مستوى الشارع"، وهو نوع من العنف تمّ تصديره عالمياً عبر الإنترنت والتقنيات الحديثة، بدايةً من قتل الأمريكي نيكولاس بيرج، في أيار (مايو) 2004، في سلسلة من المقاطع الدموية التي ألهمت أجيالاً مستقبلية من الجهاديين.

طالع بن لادن أثناء تتلمذه على يد محمد قطب كتابات شقيق معلّمه ومرجعيته وقتها سيد قطب

بعد فراغ السلطة الناجم عن سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والغزو الأمريكي، توسع فرع التنظيم الإرهابي بقيادة الزرقاوي، وبسط نفوذه على مناطق خارج نطاق السيطرة السياسية فعلياً، ليؤسس بذلك نواة فكرة الدولة الإسلامية، واستمر العمل على المشروع في الأعوام التالية، لا سيما مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، والقدرات المتاحة تحت تصرف الزعيم أبو بكر البغدادي، الذي نجح في استقطاب عدد من قدامى أعضاء نظام صدام، وجزء لا بأس به من عناصر تنظيم جبهة النصرة السوري، ليكونوا تحت إمرته، ويعزز بذلك استقلاله عن تنظيم القاعدة، وقد أعلنت دولة الخلافة، في حزيران (يونيو) 2014، بعد قليل من تأكيد خليفة بن لادن، أيمن الظواهري، حدوث انشقاق في تنظيمه.

عام 1989؛ أسّس أسامة بن لادن، المنحدر من عائلة سعودية ثرية، تنظيم القاعدة في إطار حرب أفغانستان التي عملت كقاعدة لجمع شمل المقاتلين العالميين الراغبين في الانضمام للمجاهدين، وبعد اغتيال عبد الله عزام، وقع اختيار بن لادن على المصري أيمن الظواهري، ليكون ذراعه اليمنى، ليخلق بذلك توجهاً جديداً في التنظيم ويصبح القتال المسلّح أولوية تفوق الانتشار والدعاية الإسلامية، طالع بن لادن أثناء تتلمذه على يد محمد قطب في جامعة الملك عبد العزيز في جدة (المملكة العربية السعودية) كتابات شقيق معلّمه ومرجعيته وقتها سيد قطب، لتلعب كتابات الأخير دوراً رئيساً في التلقين، الذي كان يحصل عليه المقاتلون داخل معسكرات التدريب التابعة للقاعدة في أفغانستان.

بيد أنّ العولمة جلبت التغيير إلى وسائل التلقين، بحيث أسهمت في غرس العامل الشمولي أكثر، وبينما كان المجندون ذوو الدراية بالإسلام يمثلون أقلية، كان النجاح الأبرز هو اجتذاب شباب يجهلون كلّ شيء عن هذا الدين، فتية غربيون لكنّهم من أصول أجنبية، خرجوا من ظروف الفقر والتهميش الاجتماعي، وجاؤوا لاستكشاف الرغبة في الثأر المغلّفة بالمبادئ، محمّلين الغرب مسؤولية مآسيهم وواعدين بمجتمع عادل وحّر حقاً.

شهدت هذه الآلية الطائفية تمدداً واسع النطاق، مع وسائل التقدم التقني، سواء السرية منها، أو التي يمكن الوصول إليها، وهو ما يفسّر هذا النجاح الكبير.

وقعت خلال العقود الأخيرة هجمات من الذئاب المنفردة، الذين تلقّوا تلقيناً أصولياً في بلادهم، تلك الاعتداءات يسيرة التنفيذ، نفّذها شباب لا تشعر أسرهم بالفخر؛ بل بالعار، ويكفي فقط مطالعة حسابات المهاجمين لمعرفة أنّهم ليسوا سوى مجرمين صغار ومهّربين ومدمنين على المخدرات، جاهلين بدينهم، ويعانون مشكلات هويّاتية لا يشاركون في المجتمع، ولا يعرفون الكتب المقدسة.

جذور الشمولية الإسلامية

تعود جذور الشمولية الإسلامية الراهنة إلى القاهرة، عام 1928، بنشأة جماعة الإخوان المسلمين، لكن إذا كان الإسلام الذي روّج له مؤسس الجماعة حسن البنا، الذي كان أول من فكّر في حراك سياسي للقطاع الأكثر أصولية، فإنّ المصري سيد قطب هو بالقطع التجسيد الأبرز للقفزة النوعية نحو السلوك الشمولي.

يقول الأكاديمي الألماني، السوري الأصل، بسّام طيبي: "دون أدنى مبالغة، يعادل تأثير كتاباته البيان الشيوعي على أولى الحركات العمالية في أوروبا، يطلع الأصوليون الإسلاميون على كتابات سيد قطب أكثر من القرآن نفسه، الذين يعرفون منه هذه المقتطفات المختارة والتي علّق عليها قطب فقط".

ولا شكّ في أنّ سيد قطب (1906-1966)، الكاتب والمفكر الإسلامي الذي أعدم أثناء حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، هو الأب الروحي للأصولية الإسلامية المعاصرة، فما تزال كتابات الزعيم السابق لجماعة الإخوان المسلمين تفتن الإسلاميين من المغرب، وصولاً إلى الفلبين، حتى يومنا هذا، وتترجم مؤلفاته إلى كلّ اللغات الإسلامية، أما كتابه الأشهر على الإطلاق (في ظلال القرآن)؛ فهو تأويل ثوري لما يذكره القرآن، معرّفاً الإسلام كالشجرة الوحيدة التي توفّر الظل في صحراء العالم، لكنّ رسائل سيد قطب التي كتبها من محبسه في السجن، تظل هي الأكثر انتشاراً.

وقعت خلال العقود الأخيرة هجمات من الذئاب المنفردة، الذين تلقّوا تلقيناً أصولياً في بلادهم 

كان قطب أول من نادى بالحاجة لتنفيذ ثورة عالمية من أجل إعادة بناء العالم من منظور إسلامي، ثورة تنشأ من الحرب والإرهاب، انطلاقاً من بُعد كارثي، يركّز على "ضرورة تدمير المجتمع السابق، والاستعداد لحرب مقدسة دامية"، كانت حرباً ضدّ عدوَّين: أولهما حكام العالم الإسلامي الذين اتهمهم قطب بالفساد؛ وثانيهما الحضارة الغربية التي وصفها بالفاحشة، والتي كان ينبغي مواجهتها عن طريق نشر الإسلام على غرار عصر النبي.

يتعلق الأمر بنزعة واضحة لفكرة الإنقاذ، وهي نفسها التي تبنّتها الأيديولوجيات الشمولية الأوروبية، الفكرة سهلة البناء: هناك مجتمع فاسد يحكمنا، ودور الأنقياء هو القضاء عليه، في معركة بلا قواعد، ستسفر عن عالم جديد، وإذا كانت الفكرة على هذا النحو من البساطة؛ فإنّ النتائج تتضمن تعقيداً مزدوجاً: فالعالم الجديد لن يكون في حاجة إلى التحول الخارجي الطارئ على الأنظمة والبنى الاجتماعية، بل أيضاً إلى التغيير الداخلي في تشكيل الإنسان الجديد.

أسند سيد قطب ثورته المزدوجة إلى فكرتين: الجاهلية والتكفير، والجاهلية هي مصطلح قرآني يستخدم للإشارة إلى الجهل الذي كان يعيش فيه العالم قبل مجيء النبي، عالم ما قبل الإسلام الذي تسوده الهمجية، اعتمد قطب المصطلح نفسه لوصف العالم المعاصر، مجتمع فاسد؛ حيث يعاني المسلمون من السيطرة والقمع، وحيث تتسبب مصالح زائفة في حالة من الشقاق داخل المجتمع بمناطق ودول ومذاهب مختلفة، ما يؤدّي إلى حالة من السبات، حيث يجهل الجميع واجبهم.

يؤكد الأكاديمي الجزائري، الراحل محمد أركون، "يعدّ الأصوليون الإسلاميون، حتى اليوم، أنّ المجتمعات الإسلامية سقطت في حالة الجاهلية، وهي مرحلة سابقة للتجلّي"، مضيفاً "التاريخ ليس سوى مرحلة اعتراضية، طريق ضالٌّ سيزول بمجرد وصول المجتمع الإسلامي الجديد"، وهو ما يشي بجلب فكرة مسيحانية الخلاص، أو الإنقاذ بشكل خطير إلى الإسلام؛ حيث يصبح لزاماً على الأفراد تحقيق مشيئة الله.

تعود جذور الشمولية الإسلامية الراهنة إلى القاهرة، عام 1928، بنشأة جماعة الإخوان المسلمين

أما المفهوم القرآني الثاني المستخدم؛ فهو التكفير، الذي يُوصف به الكفار، أو الخارجون عن الملة على حدّ سواء، والذي عوّل عليه قطب لمهاجمة كلّ من لا يتبعون تعاليم الإسلام. إنّ التجزيء الشديد للمجتمع عنصر أساسي لإشاعة الكراهية والضغينة، ويساعد الفكر التكفيري في بناء هذه الفئات التي تتبادل العداء: المختارون في مواجهة المدنسين، الأخيار ضدّ الفاسدين.

يبرّر تدهور القيم هذا العنف، ويضفي عليه طابع الفضيلة، وهذه هي نفس الإستراتيجية التي اتبعتها الأنظمة الشمولية، التي تشترك مع غلاة ومتطرفي العصور الوسطى، في فهمها للعنف الثوري كقوة تطهيرية، واصطكّ الفيلسوف البريطاني، جون جراي، مصطلح "اليعقوبية الإسلامية"، في إشارة إلى ما يعرف باسم "نادي اليعاقبة"، أو "جمعية أصدقاء الدستور"، إبّان الثورة الفرنسية، لوصف انتهاج الرعب من قبل الجماعات الإسلامية، الرعب الذي يشكّل عالماً جديداً، ويخلق الإنسان الجديد، وبتصوّر أسطوري قادر على منافسة الرؤية المنحطة والفاحشة للغرب.

كان سيد قطب مطّلعاً على ظواهر الشمولية، وكان معجباً بفعاليتها في إجراء تحولات اجتماعية سريعة، فتضمّ كتاباته إشارات ملحوظة للنازية، التي يتشارك معها في شيطنة اليهود، رغم إعجابه أيضاً بالماركسية الثورية، بالتالي، يصبح مفهومه للإسلام بعيداً كلّ البعد عن أيّة ديانة أخرى، وأقرب للأيدولوجيات الشمولية وآليات عملها.

وخلص قطب من ذلك إلى فكرة أنّ الهيكل السياسي-الإداري للدول الحديثة، كان نظاماً متدهوراً وقمعياً إلى حدٍّ بعيد، فلم يكن هتلر مؤمناً بمفهوم الدولة، وكان يقدّم النازية كوسيلة لعودة القانون الطبيعي ببقاء الأقوى، يعبّر مفهوم الـ (ليبينسراوم) الشهير، أو المجال الحيوي، هذا التغيير في هذا النموذج، وقد أورد هتلر في كتابه المعنون (كفاحي)، تعريفاً أوضح عبره، أنّ "الطبيعة لا تعترف بالحدود السياسية، لا ينبغي أن يغفل المرء عن حدود الحقيقة المطلقة بسبب الحدود السياسية".

كانت الأيديولوجية النازية تتجاوز أية ثقافة، وتدور حول مفاهيم الانتخاب الطبيعي والبقاء البدائي، وكان تصورها للرومانسية الجرمانية يرنو إلى مجتمع مثالي، بالتناغم مع الطبيعة، لم يكن "الشعب" الألماني عبارة عن مواطنين في الـ "رايخ"؛ بل وحدة بيولوجية غير قابلة للتقسيم، ومن هنا كان قطب متمسكاً بأنّ "الخلافة" لم تكن مطلقاً "حضارة عربية، بل حضارة إسلامية، فلم توجد قطّ جنسية، بل جماعة".

داعش نتيجة للنظرية الشمولية وليست نبتاً شيطانياً مفاجئاً

وتكتسب العلاقة بين الأرض والشعب لدى الشمولية الإسلامية العنصر الطوباوي نفسه، لم يضع الآباء المؤسسون للشمولية الإسلامية أبداً تصوراً ما لدولة إسلامية، حيث إنّ التعبير الأوحد والحقيقي عن أراضي الخلافة هو الأمة. فيعدّ قطب أنّه لا وجود للدولة الإسلامية، بل للأمة فحسب، وفي ظلّ هذا الغياب للإقليمية، يتكوّن مجتمع خيالي نفساني بحت.

سيد قطب الكاتب والمفكر الإسلامي هو الأب الروحي للأصولية الإسلامية المعاصرة

يشير مصطلح الأمة، في الوقت ذاته، إلى جماعة المؤمنين والمنطقة الجغرافية، أمّا المفهوم الذي يستخدمه قطب للإشارة إلى الأمة فهو التوحيد، مجموعة متجانسة ومتناغمة بعيدة عن أي انقسام على أساس الطبقة أو العرق أو الجنسية، لكنّ الأمة تشمل كذلك سلسلة من العلاقات الاجتماعية والسياسية، لتصبح بالتالي الوسيط بين الأفراد والدولة، وينشأ كيان متآلف ينظّم نفسه بنفسه، وانطلاقاً من هذه المقدمة، يتعين تقليص دور الدولة والمؤسسات بصورة تدريجية وصولاً إلى انصهارها في الأمة ذاتها، على غرار الفكر الماركسي؛ حيث يعني انتصار الدولة الشيوعية تلاشيها واندثارها.

لطالما رأت الحركات الشمولية الأوروبية أنّ الدولة الحديثة يجب أن تفنى لصالح هيكل شامل ومتوافق، يؤكّد الكاتب الأمريكي، بنيامين باربر، أنّ "هذا يعني الطاعة العمياء"، مضيفاً أنّه "بدءاً من اللحظة التي سينشأ فيها نظام طبيعي، ستصبح مناهضة السياسة واقعاً حياً"، يكتسب المرء شرعية من حجج تذهب أبعد من إرادة الإنسان، وإرسائها حقائق موضوعية غير قابلة للجدل بشأنها، وإثر ذلك لا تكون هناك حاجة لمناقشتها؛ بل للخضوع لها، ويؤكد خبير علم الاجتماع الفرنسي، إيراني الأصل، فرهاد خسروخاور: "الإسلام جذّاب بالنسبة إلى الكثيرين ممّن يسعون إلى استعادة ما يعتقدون أنه نظام طبيعي للأشياء، والمنظومة بين الله والإنسان، وبين الرجل والمرأة، وبين الأب والابن، وبين الخير والشرّ".

يتطلب هذا النظام الطبيعي الخضوع مرة أخرى، وتمتد في الشمولية الإسلامية عملية تحوّل؛ حيث يكون لزاماً إلغاء كافة أشكال الفردية المحتملة، سواء اجتماعياً أو ثقافياً، لمصلحة هوية إسلامية موحّدة، وهي آلية ضرورية لاستقطاب وتلقين الأتباع.

هوية جديدة ومجتمع جديد

يحدث الأمر بيننا، في قلب مدننا الأوروبية الكبرى، شباب مولودون في أوروبا يتّصفون بثقافة وعادات غربية، يجري تجنيدهم عبر شبكة الإنترنت، وإقناعهم بأنّ المجتمع الذي يعيشون فيه يقمعهم ويستغلهم، وأنه من الواجب عليهم أن يصبحوا مقاتلين كي ينقذوا أناسهم وإيجاد عالم أفضل، لكن لماذا يستطيعون قطع نصف العالم كي ينخرطوا في صفوف جيش دموي؟ كيف يفعلون ذلك بحيث يقنعوا فتيان بطعن مواطنيهم بسكين وتعريض حياتهم للخطر؟

يوضح طارق رمضان، أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة، في جامعة أوكسفورد البريطانية "الاستسلام في الإسلام هو كلّ شيء"، مضيفاً أنّ "الاستسلام لله يسمح للإسلام بخلق مجتمع أخلاقي موّحد راضٍ، الإذعان هو الطريق نحو العدالة الاجتماعية وروح هانئة والتوافق في العالم".

يؤكّد رمضان أنّ القرآن لا مكان فيه للتشكيك أو الارتياب الأخلاقي، لا وجود للصراع بين الله والإنسان، كما في الكتاب المقدس؛ حيث الشكّ يدلّل على الإيمان، ويضرب رمضان المثال بذبح إسحاق "هناك إشارة واضحة في الكتاب المقدس إلى التضارب بين حبّ إبراهيم لله وحبّه لابنه، وتمرّده في البداية، وشكوكه أثناء صعود الجبل مخفياً الحقيقة عن ابنه، أما في القرآن؛ فإنّ القصة تروى بشكل مختلف كلّية، حيث إنّ إبراهيم وإسحاق يعرفان مصيرهما، ويستسلمان له في طاعة عمياء لله".

كان سيد قطب مطّلعاً على ظواهر الشمولية، وكان معجباً بفعاليتها في إجراء تحولات اجتماعية سريعة

يعد الاستسلام ركناً أساسياً؛ نظراً إلى أنّ الإسلام، فضلاً عن كونه ديناً فهو أوامر للعالم تشمل كافة مناحي الحياة سواء الخاصة أو العامة، استغلّ الأصوليون هذا المفهوم ليفرضوا نظرتهم الشمولية من وراء قناع الدين، ليهيمنوا ليس على الدين والاقتصاد والسياسة فحسب؛ بل وعلى العادات الغذائية وطريقة ارتداء الملابس والتفاعل المجتمعي، كان هذا البناء الشمولي دوماً في صلب أفكار قطب، الذي أبرز في كتبه أهمية السيطرة المطلقة على المؤمنين بمبادئ الإسلام، وعلى غرار أفكار موسوليني، تسعى الشمولية الإسلامية إلى وضع "كلّ شيء داخل نطاق الإسلام، لا شيء خارجه".

علاوة على كلّ ذلك، هناك تصوّر عبثي للحرية في الخضوع، الأمر الذي يدافع عنه منظّرو الأصولية الإسلامية، وهو عينه ما فعله اللينينيون والنازيون، مروّجين لقوانين عليا، مستقاة من الطبيعة أو التاريخ أو حتى الله، وقد دأب قطب على التكرار في كتاباته أنّ "النظام الإسلامي يعني إلغاء القوانين البشرية"، ناشراً بذلك فكرة أنّ الإنسانية ستحصل على حريتها الحقة فقط حين تتخلى عن حكم البشر لها، وتتجه للحكم الإلهي.

تؤسّس الشريعة القانون الإسلامي، الذي يشمل جميع مناحي الحياة، العامة والخاصة، للمؤمن، للبناء الشمولي. يحذّرنا أكاديميون، مثل بسام طيبي، من ارتفاع وتيرة إحلال الشريعة الإسلامية، والأهمية المتزايدة التي تكتسبها في هوية المجتمع المسلم، فهم المفكّرون الشموليون مبكراً السلطة الهائلة للشريعة، ليس فقط من حيث رسم ملامح الحياة العامة، بل وأيضا الخاصة، بما يعيد في الوقت ذاته تشكيل الهياكل السياسية والفكرية، ربط قطب بصورة واضحة بين الشريعة والمثالية الإنسانية، مصمماً بذلك مجتمعه الجديد والرجل الجديد.

تكتسب العلاقة بين الأرض والشعب لدى الشمولية الإسلامية العنصر الطوباوي نفسه

يقول الباحث الأكاديمي، أوليفير روي: "يسعى الأصوليون إلى تصميم كينونة جديدة، المولودة من جديد في كنف الإسلام"، مضيفاً: "لا يمكن تغيير المجتمع بدون تغيير الفرد، تبحث المرحلة السياسية من هذا المشروع عن الانتماء المطلق، وتشكيل جماعة تحدّد هويتها النفسية، وتحويل خصالها إلى سلوك بشري بعينه"، ولتحقيق ذلك؛ فإنّ الإستراتيجية تمرّ عبر سلخ الفرد عن هويته الاجتماعية والثقافية، واستبدالها بإسلام يشتمل على كلّ شيء.

تشكّل الأمة الهوية الجديدة والرجل الجديد، يتعين إلغاء التقاليد التاريخية والثقافية لكلّ فرد وشعب ومجتمع، بهدف توحيد المجتمعات الإسلامية كافة، في إطار الأمة الخيالية، عن طريق تحويل تعاليم الإسلام إلى مجموعة من الشعائر المفصولة سياقياً عن مغزاها الأصلي، لتصبح مجرد قواعد سلوكية، وعندما ينفصل الدين عن الواقع ومعناه الثقافي وإطاره المحيط، يزداد التباعد والسيطرة على الأتباع، يصبح ما يطلق عليه روي "الدين الخام"، وهي تلك اللحظة التي ينفصل فيها الدين تماماً عن بعده الديني لصالح تعاليمه.

يتطرق البحث الذي أجراه روي حول هذه الظاهرة إلى عمليتين مقترنتين ببعضهما: الإجهاز على الثقافة والتخلي عن الإقليمية، بكلمات أخرى: فصل الدين عن الثقافة هو أداة لتعزيز إدراج الشريعة الإسلامية، وتتطلب الهوية الإسلامية المتفردة فصل الإسلام عن أيّة ثقافة، لصالح مجموعة من النماذج السلوكية العابرة للحدود، بما يشمل المعتقدات والطقوس والعادات الغذائية وطريقة ارتداء الملابس، مجتمع مؤمن في مواجهة مفتوحة مع المجتمعات الثقافية التي يعيش إلى جوارها.

إنّ الشمولية الإسلامية رؤية كونية، مشروع للسيطرة المطلقة يتطلب تغيير الأفراد من الأعراق والثقافات والتقاليد المختلفة، يُطرح بوصفه حقيقة مطلقة، بلا معانٍ أو نقاش أو بدائل؛ حيث يتعين على جميع الأفراد الذوبان في هذا المفهوم الغامض للأمة، لكن إذا كانت الأمة هي المآل الأخير للشمولية الإسلامية، فإنّ الحرب هي مصيرها الأول.

أوليفير روي: يسعى الأصوليون إلى تصميم كينونة جديدة، المولودة من جديد في كنف الإسلام

وكما حدث في الظواهر الشمولية خلال القرن الماضي، يلعب العنصر الإنقاذي (الملياري) دوراً رئيساً، وفكرة أنّ المجتمع المثالي يجب أن يقوم بعد معركة دموية نهائية؛ حيث يجتث الخير الشرّ. من هنا تدخل إلى اللّعبة كلمة الجهاد، استخدم مصطلح الجهاد على مدار وقت طويل من قبل الإسلاميين الأصوليين، بتحويل مفهومه إلى واجب فردي، بحيث يتعيّن على كلّ شخص الدفاع عن الإسلام، وسحق الكافر، والحقيقة أنّ القرآن لم يشِر إلى الجهاد بأنّه قتال مسلح على الإطلاق؛ بل منازعة النفس لدى المؤمن كي يظل متمسكاً بإيمانه وفروضه الدينية.

كان طابع المليارية هذا هو ما أدّى لتحوير المفهوم، وشرعنة العنف بهدف تطهير المجتمع والوصول للكمال، بحيث يصبح الرعب أداة ضرورية للتخليص والإنقاذ، بالتالي؛ يتحول الجهاد إلى الطريق الذي يفضي لنهاية الرجل وميلاد الرجل الجديد، ما يعني اقتتالاً داخلياً وخارجياً، يشمل القضاء على الإنسان القديم سواء داخل المؤمن أو في محيطه.

ولتحقيق هذا الهدف، يكون الإرهاب لازماً، والعنف مرادفاً للحرية، وكما دأبت الأنظمة الشمولية، تعتمد إستراتيجيات مثل شيطنة الأعداء وتصوير المختارين المحتملين لرفعة هذه الرؤية على أنّهم ضحايا، صوّر البلشفيون والنازيون كذلك الضحايا أنهم سقطوا بسبب العالم الفاسد، مقوّضين بذلك قدرة الآلاف على الحكم الأخلاقي السديد، أو على الأقل مقتهم للممارسات البشعة، تعمل الشمولية الإسلامية على إشاعة هذه الرؤية في مواجهتها مع العالم الغربي، وما تسميها "الأنظمة الإسلامية الزائفة".

لا يمكن أبداً محو أية أيديولوجية من العقول بنفس تلك الطريقة التي يتم بها محو داعش من الخارطة

كان قطب واضحاً لأقصى حدٍّ في هذا الصدد: فالصراع بين الغرب والإسلام، بالنسبة إليه، كان تعبيراً عن السعي الدائم من قبل الصهيونية والمسيحية للقضاء على الإسلام.

إنّ فكرة فردوس ما بعد هيمنة الرعب حاضرة بقوة في الشمولية الإسلامية، مثلما كانت في الشموليات الأوروبية، وقد قال قطب "لا حدود للجهاد، لا جغرافية ولا زمنية، سيكون عالمياً، ولن ينتهي حتى يوم الحساب"، لم يكن الجهاد العالمي واقعاً حتى تأسيس تنظيم القاعدة من قبل أسامة بن لادن، الذي استقى مفهوم الجهاد من قطب نفسه، وهو الفكر الذي انبثقت منه حركة منظمة، وينقشع مخلفاً دويّ الانفجارات ووحشية منفذيها.

تأملات

إنّ رؤية ما بعد الهجمات الإرهابية وفهم الفكر الشمولي القديم جيد التأسيس أمر ضروري، وقد ظهرت أهميته أكثر بعد (داعش)، نظراً إلى أنّه يخلب لبّ الكثير من الأتباع، لكن كيف يمكن مواجهة أيديولوجية؟ في الواقع، لا يمكن محو أيديولوجية من العقول بنفس طريقة محو (داعش) من الخارطة، وسيستلزم التعامل معها إستراتيجية تركز أساساً على الثقافة والتعليم، لكنّني أودّ الختام بأفعال وتأملات تبدو لي مهمة لتطوير حلول أيدولوجية على المستويين المتوسط والبعيد.

·كما أنّ النازية واللينينية لم تكن صراعاً بين الحضارات أو الثقافات؛ بل حركات ولدت في أوروبا ذاتها، لا ينبغي أن نعدّ الفكر الجهادي صراعاً بين الإسلام والغرب، يجب إبراز العناصر الشمولية، لا الإسلامية، المستولى عليها، الفكر الجهادي لا يمثل الإسلام تماماً، مثلما أنّ النازية لا تعبّر عن أوروبا.

يجب فهم الإسلام كدين وكثقافة، وليس كبديل عن دولة القانون، أو مفهوم المواطنة على الإطلاق

- تُكافح الشمولية بمجتمع منفتح، لا يتضمن هذا تغريب الإسلام أو أسلمة الغرب؛ بل تعضيد الهياكل العالمية التي يزدهر في إطارها المجتمع المنفتح. يمكن للهياكل أن تتعايش وسط تنوع ثقافي، لكن من الضروري تعزيز الإطار السياسي والقانوني للمجتمعات الإنسانية في عمومها.

- عندما تسهم مشكلات الاندماج أو الهوية في عملية الأصولية، يجب التعامل مع أسبابها بسياسات طموح، دون التحجج بأعذار أو مبررات تتعلق بالممارسات الأصولية.

- ليس صحيحاً أنّ المجندين من قبل الجهاديين لا يستطيعون الاندماج فقط بسبب كونهم مسلمين، لكنّهم يتجهون للإسلام الأصولي بسبب عجزهم عن الاندماج، وبخلاف الإسلاميين الراديكاليين، ينبغي أن نتطرق أيضاً للراديكاليين الذين يتحوّلون للإسلام.

- من المهم أن تكون هناك عملية تثقيف بالإسلام، بمعنى أن يشكّل جزءاً من الطقوس والمعتقدات والتقاليد بالمجتمع الحاضر فيه، وإظهار كلّ هذه العناصر في المناسبات، وتضمينها في النظام التعليمي، يجب فهم الإسلام كدين وكثقافة، وليس كبديل عن دولة القانون، أو مفهوم المواطنة على الإطلاق.

تحليل لجوردي توريس روسيو نشره المعهد الإسباني للدراسات الإستراتيجية

المصدر: El totalitarismo islámico. La ideología que sustenta el terrorismo




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية