رحيل لويس جريس.. راهب الصحافة وقديس الحب

رحيل لويس جريس.. راهب الصحافة وقديس الحب


29/03/2018

بتشييعه إلى مثواه الأخير، أول من أمس الثلاثاء، طوى الزمان سيرة الصحفي المصري لويس جريس الذي يوصف بـ "راهب الصحافة وقديس الحب"، والذي لوّح للحياة عن عمر ناهز الـ 90 عاماً، بعد صراع مع المرض.

التصق اسم جريس دائماً بمحبوبته الأبدية الفنانة سناء جميل عبر قصة حبهما وحياتهما معاً التي تجاوزت 40 عاماً لم يفترقا فيهما، إلا بموت المحبوبة عام 2002. وغالباً ما دارت الأحاديث الصحفية والحوارات التليفزيونية، حول هذا الحب، لكنّ هناك جوانب أخرى في شخصية لويس جريس لم يتطرق إليها الكثيرون.

قديس الصحافة

ولد الكاتب الصحفي لويس جريس في تموز (يوليو) 1927، لأسرة مسيحية من محافظة أسيوط مركز أبوتيج، لأب يعمل بالتجارة. تنقّل مع عائلته بين محافظات الصعيد نتيجةً لترحال والده. كان طالباً متميزاً، وحصل على مجموع عالٍ يؤهله للدخول لأفضل الكليات، وعلى إثره التحق بكلية العلوم بجامعة الاسكندرية.

كان لا يعلم ماذا يريد أن يدرس تحديداً، ولم يكن بعد قد اكتشف قدراته، حتى حسمت الصدفة مصيره، وغيّرت مسارات حياته إلى الأبد.

التصق اسم جريس دائماً بمحبوبته الأبدية الفنانة سناء جميل عبر قصة حبهما وحياتهما معاً التي تجاوزت 40 عاماً

في لقاء أجريتُه مع الكاتب الراحل، في نهايات 2017، أخذ يحكي عن تجربته الجامعية، ويتذكر أحد أساتذة الكيمياء في الكلية، الذي طلب منه إجراء حوار صحفي مع أحد الأساتذة بقسم الحشرات، القادمين من أمريكا، لينشر في الجريدة الخاصة بالكلية، وعندما نشر الحوار وكان وقتها لا يتجاوز العشرين من العمر، رأى اسمه منشوراً "حاوره: لويس جريس"، فطار فرحاً بهذا الأمر، وأرسل الجريدة إلى أسرته، ثم ذهب إلى أستاذه ثانيةً ليسأله، ماذا أفعل إذا كنت أرغب في دراسة الصحافة؟ وكان وقتها في السنة الثانية من دراسة العلوم، وقاربت امتحانات نهاية العام، أخبره الأستاذ أنّه ما من مدرسة للصحافة في مصر وقتها سوى في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ذهب إليها ليسأل وعندما علم قيمة المصروفات التي بلغت 75 جنيهاً مصرياً، وكانت مبلغاً كبيراً لا يستطيع دفعه، تريث قليلاً، لكنه قرر الانضمام إلى الجامعة في العام التالي، وتدبير نفقته من أسرته، ومن عمل خاص به، ولم يخبر عائلته بأنّه ترك كلية العلوم ليدرس الصحافة، وكانت وقتها شيئاً غير مألوف في مصر.

عاش لويس جريس كمسيحي مصري من الجنوب، ولم يذكر أنّه استشعر يوماً أي وجه للفتنة الطائفية

تخرج لويس جريس في الجامعة الأمريكية، وقرر البحث عن عمل مناسب، حتى التحق بجريدة "الأهرام" المصرية، وعمل بقسم الترجمة، ثم انتقل إلى الكتابة الصحفية.

كان جريس محباً للقراءة منذ صباه. يحكي عن طفولته في الرابعة عشرة من عمره، حينما كان ينتقل بين عربات القطار القادمة من القاهرة لأسيوط يجمع الصحف والمجلات، وبعد الانتهاء من قراءتها يعيرها لزملائه الذين يحبون القراءة، إلا أنّ الأمر لم يتجاوز حب القراءة والشغف بالإطلاع.

لم يكن يخطر ببال جريس يوماً أن يصير كاتباً يقرأ له الناس، وهو يجزم بأنّ الصدفة وحدها وضعته على الطريق الصحيح، لولاها ربما أصبح أستاذاً أكاديمياً، أو مدرّساً للعلوم.

كانت القاهرة في نهايات الأربعينيات من القرن العشرين، تعج بالغضب من الاحتلال الإنجليزي، وحرب 48 التي احتل اليهود على أثرها أرض فلسطين، وتكبّد الجيش المصري خسارات فادحة. كان لويس جريس وقتها منشغلاً بالقراءة والترجمة، والبحث عن عمل يغطي مصروفاته الجامعية، لم يكن يأبه بالسياسة كثيراً، حتى قيام ثورة يوليو. انتفض الشعب، وأيّد الحراك الطلابي الثورة في بدايتها. وعن ذلك يحكي لويس جريس: "كنت أشاهد المظاهرات من بعيد، لم أكن أملك قدراً كافياً من الشجاعة وقتها لتأييد الثورة، فلا أستطيع تأييد شيء لم ألمس حقيقته بعد، حتى تغيّرت الفكرة مع الوقت، ورأينا جميعاً ما فعلته الثورة. أيدتها بقلبي، وكتاباتي، لكني كنت أسير جنب الحيط كما يقولون، ولو استطعت لثقبت الحيط ودخلت إليه، كانت أخبار المعتقلين والمسجونين تفزعني، ولم أكن أقوى على احتمال تجربة كهذه، ففضلت التركيز على مسيرتي الصحفية، التي ناضلت كثيراً لأجل شهادتها".

مصر في عين جريس كان لها طعم مختلف، هي وطن الأمن والتسامح

مصر قبل الأسلمة

من خلال عدة لقاءات منتظمة بينه وبين الكاتب لويس جريس استطاع الكاتب ممدوح دسوقي، ببراعة أن يؤرخ لتاريخ مصر الحديث على لسان جريس: (قديس الصحافة المصرية - شاهد على العصر)، وهو بمثابة سجل لحواشي وتفاصيل الحياة السياسية المصرية، ويحوي قصصاً جمعته مع سياسيين وصحفيين وكُتّاب. وفي أثناء ذلك، استطرد جريس وهو يحكي عن طفولته، وعن مصر، كيف كانت، وكيف أصبحت، وكذلك عن وضعه كقبطي في مصر، إذ عاش لويس جريس كمسيحي مصري من الجنوب، ولم يذكر أنّه استشعر يوماً أي وجه للفتنة الطائفية؛ فلا فرق بين مسيحي ومسلم، فالنسيج المجتمعي المترابط كان سمة غالبية المجتمع. والمفارقة العجيبة أن تكون مسقط رأسه "أسيوط"، التي لم تعرف معنى الطائفية، الرحمَ الذي تخرجت منه الجماعة الإسلامية في السبعينات، فتحول الإسلام على يديها، من دين التسامح والتعايش، إلى إرهاب وقتل مزّق النسيج الوطني، ولطخ الأوطان بدماء الأبرياء.

مصر في عين جريس كان لها طعم مختلف، هي وطن الأمن والتسامح، كان الدين في دور العبادة، ولم يتوغل التطرف إلى قلوب الناس، كما وصف فترة عبدالناصر الذي كانَ مُحِباً له، ببذرة العدالة؛ فالنظام السائد في مصر قبل فترة يوليو، اتسم بالعبودية للأغلبية من الفلاحين، وغابت العدالة، التي حاول عبدالناصر ترسيخها في مصر، ولكن كل ما فعله قد تهدّم بعدما حل نظام السادات.

عندما هرب إلى أمريكا

سافر لويس جريس هارباً إلى أمريكا، خوفاً من ملاحقته، عندما بادر السادات باعتقال الكوادر الناصرية، وعمل كمراسل من هناك لجريدة "روزاليوسف"، وكذلك "صباح الخير" التي اعتبر الأب الروحي لها، وعاد إلى مصر في أواخر السبعينات، ليستقر في "صباح الخير" رئيساً للتحرير.

الكاتب الصحفي جمال بخيت لـ"حفريات": أعتقد أن لويس جريس أهم صحفي عربي في القرن العشرين

في غضون ذلك، لم تكن الصحافة وحدها ما يشغل بال جريس، حيث عمل بالكتابة الأدبية، وأنتج روايتين هما"حب ومال" و"هذا يحدث للناس"، ومن ترجماته كانت مسرحية "الثمن" للكاتب الأمريكي آرثر ميلر.

كتب لويس جريس عن لقاءاته الصحفية المهمة التي أجراها في حياته، حيثُ سافر إلى كوبا أثناء الثورة الكوبية، على رأس وفد من الصحفيين المصريين، والتقى بزعيمي الثورة "فيديل كاسترو"، والثائر الأممي "تشي جيفارا"، ثم انتقل إلى اليونان، وكان من أوائل الصحفيين الذين عقدوا لقاءات مع الأنبا مكاريوس.

الشاعر والكاتب الصحفي جمال بخيت قال لـ"حفريات" إنّ "الأستاذ كان ودوداً طيب القلب، بحراً من المعرفة، رجلاً مُحباً للناس والحياة، حمل عبء الصحافة على عاتقه، ونهض بها، وأنا أعتقد أنه أهم صحفي عربي في القرن العشرين، لقد تعلمنا منه الكثير، وبالرغم من قسوة الموت ووحشته، يبقى حلاً مريحاً لأحبائنا الذين أرهقتهم الحياة، وآن الوقت أن يستريحوا أبدياً".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية