الزندقة.. سلاح الطغاة والفقهاء لمواجهة المعارضين والعقلاء

الزندقة.. سلاح الطغاة والفقهاء لمواجهة المعارضين والعقلاء


12/07/2018

في التاريخ الإسلامي محطات فارقة يقف الباحث عندها بشيء من التدقيق، للتحقيق فيها وفهم أحداثها، وقد يعتري البحث وقتئذ صعوبات شتّى؛ بفعل الصياغات الكلاسيكية للتاريخ الإسلامي، وتباين الروايات والأخبار التي ضمّنها المؤرخون القدماء كتبهم، لكن عند النظرة الكلية الشاملة للحدث التاريخي تتجلّى المواقف المختلفة، والأحداث الكثيرة المتباينة التي صيغت فقط، وفق رؤية المؤرخ السوسيو – سياسية، ومن فرط ثقتنا بكل ما هو قديم، نقلنا دون نقد ومنهجية علمية موضوعية.

تكاد المصادر العربية والأجنبية تجمع على أنّ كلمة زندقة هي لفظة فارسية

ويأتي مصطلح "الزندقة" على رأس تلك المحطات التاريخية الفارقة؛ إذ إنّ تاريخ الزندقة المرتبط  بالدولة الإسلامية، خصوصاً دولة العباسيين، ما يزال غامضاً حتى الآن، وجلّ الكتب التاريخية والأدبية القديمة؛ بل والحديثة، تناولته بشيء من التسطيح والنظرة غير الموضوعية، التي لا تكتمل أركانها لتؤسّس منهجاً علمياً صحيحاً، يغني عن الوهم والعبث والثرثرة التاريخية التي لا طائل تحتها، ولعلّ ارتباط مصطلح الزندقة بأديان وثقافات وأعراق دخيلة على البيئة الإسلامية، هو ما أضفى عليه ذلك الغموض، فضلاً عن ارتباطه بالسياسة العليا للدولة والخلافة الإسلامية آنئذٍ، بما جعل الخليفة العباسي، أبا عبد الله محمد المهدي، يأمر بإنشاء ديوان باسم "ديوان الزنادقة"، ليتولى القائمون على أمره تتبّع المتهمين بالزندقة، والتجسّس على غيرهم باسم الغيرة على الإسلام والذبّ عن عقيدته.

اقرأ أيضاً: ألقاب وأوصاف التبجيل أو الذمّ في التاريخ الإسلامي

فقد "جدّ المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم"، كما أوصى ابنه الهادي بتعقّبهم، ولم يكن ديوان الزنادقة في حقيقة الأمر سوى أداة بوليسية لتصفية المعارضة، ومن لا ينضوون تحت راية العباسيين، بذريعة الدفاع عن الإسلام، وهي نزعة نفسية نجدها واضحة لدى الخليفة المهدي، ولعلّ تحليلاً سيكولوجياً لشخصيته يوضح بتبيان نزعته تلك؛ ففي تاريخ ابن كثير سطر واحد يدلّ على نزوع المهدي إلى الكذب على الناس، والادّعاء عليهم بأنّه حريص على الإسلام والدفاع عن عقيدته من الملحدين الزنادقة، فيما هو غير ذلك، حتى إنّه لقّب نفسه بمهدي آخر الزمان، الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد إذ مُلئت جوراً.

الفرس أتاهم زرادشت بكتاب يسمى البستاه وعمل له تفسيراً أسماه الزند وعمل لهذا التفسير شرحاً سماه البازند

يقول ابن كثير: "وتلقب بالمهدي طمعاً أن يكون هو المذكور في الأحاديث، فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمنّاه"، وكان له ما أراد؛ فانطلت أعماله على كثير من المؤرّخين بالرغم من اعترافهم بفساد أخلاقه ولهوه وميله جنسيّاً إلى العبيد والغلمان، حتى أنّ شمس الدين، أبا عبد الله الذهبي، يقول عنه: "وَالْمَهْدِيُّ، كَغَيْرِهِ مِنْ عُمُومِ الْخَلائِفِ وَالْمُلُـوكِ، لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِم، كَانَ مُنْهَمِكًا فِي اللَّذَّاتِ وَاللَّهْوِ وَالْعَبِيدِ، ولكن مُسْلِمٌ خَائِفٌ مِنَ اللَّهِ، قَدْ تَتَّبَعَ الزَّنَادِقَةَ وَأَبَادَ خَلْقًا مِنْهُمْ!!".

اقرأ أيضاً: الرجل الخارق كما رآه نيتشه: عبوة ديناميت ترى في الشر خيراً مبدعاً

وتكاد المصادر العربية والأجنبية تجمع على أنّ كلمة (زندقة) لفظة فارسية؛ فالمسعودي يحدّد ظهور هذه الكلمة بِعهد "ماني"، وإليه أضيف الزّنادقة، وذلك أَنّ الفرس أتاهم "زرادشت" بكتاب يسمى "البستاه"، وعمل له تفسيراً أسماه "الزند"، وعمل لهذا التفسير شرحاً سماه "البازند"، فكلّ من عدل عن "البستاه" إِلى "الزند"، وشرحه "البازند"، قالوا عنه: "زندي"؛ لأنه مؤول ومنحرف عن الظاهر من المنزل، فلما أن جاءت العـرب أخذت هذا المعنى عن الفرس، وقالوا: زنديق، وقد أُطلقت تلك الكلمة في المحيط العربي على أصناف متعددة كمعتنقي مذهب (ماني)، كما أطلقت على أهل المجون والخلاعة والمعازف والرقص، ووجد كثير من أهل الحديث والسلف النّصيين من ينعت المعتزلة بالزنادقة، لمجرّد أنهم يستخدمون العقل في إقرار العقائد ويقولون بخلق القرآن، لذلك يرى أحمد أمين أَنّ معنى الزندقة لم يكن واحداً عند الناس على السواء؛ ففي أذهان الخاصة والعلماء تختلف عنها في أذهان العامة، ويستخلص بعد بسط القول، في توضيح ذلك، أَنّ الزندقة على معانٍ أربعة:

الأول: التهتك والاستهتار والفجور من تبجّح في القول يصل أحياناً إلى ما يمسّ الدين، لكنّ قائله لم يقله عن نظر، إنما قاله عن خلاعة ومجون.

الثاني: اتباع دين المجوس، خاصة دين "ماني"، مع التظاهر بالإسلام، كالذي اتهم به الأفشين، والذي اتهم به بشار وحمّاد بن المقفع.

الثالث: اتّباع دين المجوس، خاصة "ماني"، من غير تظاهر بالإسلام كالذي يرويه الجاحظ عن كتب الزنادقة.

الرابع: ملحدون لا دين لهم، كالذي يحكيه المعري.

اقرأ أيضاً: مؤرخ مغربي: النبي موسى لم يكن على دراية بالعبرية

ومما هو ظاهر؛ أنّ مدلول تلك اللفظة في المحيط العربي كان على درجة كبيرة من الغموض والميوعة وعدم الثبات؛ فهي بمعناها الضيق تعني الملحدين، وأهل الهرطقة، والإلحاد، لكن تمّ التوسع في استخدامها لفظياً في العصرين؛ الأموي والعباسي لأغراض سياسية؛ إذ كان الخلفاء والطغم الحاكمة يلفقون تهمة الزندقة لكل من يستخدم عقله وإرادته بعيداً عن السلطة الحاكمة، ووجد المفسّرون والمتكلمون النصّيون الفرصة سانحة لهم، فرموا كلّ معارض لأفكارهم التقليدية، التي اجتروها ممن سبقهم، بأنّه زنديق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فكان الالتباس سيد الموقف، وكان مدلول تلك الكلمة يفتقد تماماً إلى التحرير اللغوي المناسب للبيئة العربية، فكان العرب يطلقون اللفظ على الدهريين، الذين يقولون بقدم الدهر وأبدية المادة، وكان منهم من يطلقها على أتباع (ماني)، فكانت سلاحاً ناجعاً في يد الإقطاعية العسكرية الحاكمة، ولعلّ الدكتور عبد الرحمن بدوي لم يهتم بذلك الالتباس، ولم يلقِ بالاً لاستخدام العسكرتاريا لتلك اللفظة في قمع المعارضين وتصفيتهم، فنظر إلى كلمة الزندقة في المحيط العربي نظرة جزئية مقصورة على "التزندق الثقافي"؛ الذي كان وسيلة لإعلان الفرس وبقية الأجناس الأجنبية تمرّدهم على العرب، حتى أنّه انساق وراء الروايات التي تدّعي أنّ كثيراً من أولئك الزنادقة قد ألّفوا كتباً لدحض النبوة وتسفيه الشرائع ونقد القرآن، وقد تكون نظرته تلك صحيحة في بعض جزئياتها؛ لكنها على المستوى السوسيو – اجتماعي لا تصمد أمام استكناه النصوص التي ألمعنا إليها سالفاً، والتي تصف الخليفة المهدي بأنّه كان يطمح إلى أن يكون هو "مهدي" آخر الزمان، والتدليس على الناس بذلك لضمان عدم معارضته والخروج عليه، ففكّر في إنشاء ذلك الديوان البوليسي الخاص؛ ليبين للناس أنّه غيور على الإسلام وعقائده!!

لم يكن ديوان الزنادقة الذي ابتدعه الخليفة العباسي المهدي سوى أداة لقمع المعارضين والخصوم السياسيين

وفي "البداية والنهاية" لابن كثير، نصّ آخر يجلي حقيقة استخدام الخليفة المهدي لتلك اللفظة لتصفية المعارضين والخصوم السياسيين، يـروي ابن كثير: "وذكر له [أي للمهدي]، عَنْ شَرِيكِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي: أنّه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره فتكلم معه، ثم قال له المهدي في جملة كلامه: يا ابن الزانية! فقال له شريك: مَه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَقَدْ كَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا زِنْدِيقُ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَضَحِكَ شريك، فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، شُرْبُهُمُ الْقَهَوَاتِ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْقَيْنَاتِ، فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ وَخَرَجَ شَرِيكٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه".

فشريك هذا كان القاضي الرسمي للخليفة المهدي، فلما غضب عليه المهدي، أراد أن يرميه بالزندقة هو الآخر، لكنّ شريك القاضي كان ثابتاً أمامه، فقلب الطاولة على رأسه، وذكّره بأنه لو كان زنديقاً، كما يدّعي، لكان هو الآخر زنديقاً لفجوره ونزواته التي يُعرف بها الزنادقة، فسكت المهدي لذلك، ولم ينبس بكلمة حتى خرج القاضي شريك من بين يديه بلا تهمة!!

لفظة الزندقة ملتبسة في المحيط العربي وارتبطت منذ البداية بالهرطقة والإلحاد والأجانب

كما أنّ علاقة الخليفة المهدي بالشاعر بشار بن بُرد، الذي اتُّهم بالزندقة، كانت صافية من كل كدر، لكن الوشاية السياسية بابن بُرد عند المهدي كانت سبباً في انقلاب الأخير عليه، فتمّ تلفيق تهمة الزندقة له، والادّعاء بأنه يفضّل النار على التراب بما يحمل معنى تفضيل إبليس على آدم، بما يجعله معذوراً في السجود له، فأمر به المهدي، فضُرب أو أغرق حتى مات!!

لم يكن ديوان الزنادقة الذي ابتدعه الخليفة العباسي المهدي سوى أداة لقمع المعارضين والخصوم السياسيين، ومن على شاكلتهم، كما أنه لم يبتغِ به وجه الله أبداً، بل كان مصيدة للمعارضين، ومما ساعد على ذلك التباس لفظة الزندقة في المحيط العربي وارتباطها منذ البداية بالهرطقة والإلحاد، وكذا ارتباطها بالأجناس الأجنبية، خصوصاً الفرس، الذين كان ينظَر إليهم على أنّهم أصحاب فكر عقلي منحرف، فارتبطت اللفظة المائعة بالفكر العقلي الحُرّ، والتحرّر الأخلاقي، في الوقت الذي ارتبطت فيه بشكل موسّع مستتر في أحيان كثيرة بالسياسة، وقمع المعارضين لدولة الخلافة الإقطاعية وتصفيتهم باسم الإسلام.

الصفحة الرئيسية