مأزق المؤسسات الدينية في مواجهة الظاهرة الجهادية

مأزق المؤسسات الدينية في مواجهة الظاهرة الجهادية


17/07/2018

من المنتظر أن تلج مؤسسة دينية في الساحة المغربية، باب تأهيل دفعة جديدة من المعتقلين الإسلاميين (السلفيين بالتحديد)، من المتابعين في قضايا التطرف أو التطرف العنيف، في إطار المواكبة الدينية لمبادرة "المراجعات" الصادرة عن بعض إسلاميي الساحة، ونخص بالذكر مراجعات التيار "السلفي الجهادي"، وليس مراجعات التيار الإخواني، ولو أنّ أحداث "الفوضى الخلاقة" ــ التي اصطلح عليها بأحداث "الربيع العربي" ــ تُفيد أنه يجب إعادة النظر في تقييم وتقويم هذه "المراجعات".

تأخرت المؤسسات الدينية كثيراً في التفاعل الإيجابي والنوعي مع الخطاب الإسلامي المتطرف والمتشدد بمواقع التواصل الاجتماعي

في هذا السياق، نظمت المؤسسة المعنية، وهي مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء يوم 3 من الشهر الجاري، مؤتمراً دولياً حول "تفكيك خطاب التطرف"، تحت رعاية ملكية، وعرف مشاركة بعض الفاعلين الدينيين من المشرق؛ حيث صرّح أحد هؤلاء، ويتعلق الأمر بأمين عام هيئة عالمية لعلماء المسلمين أنّ "رجال الدين في حاجة إلى إنشاء حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي قصد محاربة التجنيد الإلكتروني الذي بات الوسيلة الأنجع لغسل أدمغة الشباب"، مضيفاً أنّ "هذا التجنيد الإلكتروني يقوم على أساس أجندات عالمية لا ترتبط فقط بأشخاص أو تنظيمات إرهابية، بل ترتبط بدول تعمد إلى غسل أدمغة الشباب". وتمّ تتويج هذه المشاركة المشرقية، بعقد اتفاقية شراكة بين المؤسسة الدينية المغربية ومؤسسة دينية مشرقية بهدف "تعزيز قيم الوسطية والاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب".

اقرأ أيضاً: المؤسسات الدينية وتجديد الخطاب: ارتباك وتوجس أم جدية في التغيير؟

من بين أسباب الدعوة الصادرة عن المسؤول الديني المشرقي، وهو الذي أشرف على تأطير عدد من العائدين من بؤر التوتر والنزاع، كونه التقى شاباً في مطار إحدى الدول كان متجهاً إلى القتال في سوريا مع تنظيم "داعش"، وعندما سأله هل التقى بعلماء هذا التنظيم أو أحد أعضائه قبل قرار التحاقه، أجابه بأنه لم يلتق بهم إلا عبر "فيسبوك".

إنّ المتأمل قليلاً في هذه المبادرات، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الزمني والإكراهات الذاتية والخارجية، يُصاب بحيرة حقيقية عندما يستفسر عن جدية هذه الخطوات، وبيان ذلك كالتالي:

(1) معلوم بداية أنّ التصدي النظري والعملي للحركات الإسلامية "الجهادية"، أو جماعات "التطرف العنيف"، مشروع مفتوح على عدة جبهات، من الجبهة السياسية والجبهة الاقتصادية والجبهة الفكرية وغيرها، وما يهمنا هنا بالتحديد، التوقف عند أداء الجبهة الدينية.

استنجد صناع القرار في المنطقة بالمؤسسات الدينية في معرض التصدي للظاهرة، مباشرة بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، موازاة مع "طلب النجدة" من الخطاب الصوفي، أو قل الاستعانة به، في سياق توظيف مرجو لهذا الخطاب ضد المشروع الإسلاموي بشكل عام، سواء تعلق الأمر بالحركات الإسلامية الدعوية أو السياسية (حركات وأحزاب "الإسلام السياسي")، ومن باب أولى الحركات الإسلامية القتالية أو "الجهادية".

اقرأ أيضاً: تعثر مسار تنقية كتب التراث الإسلامي وأزمة المؤسسات الدينية

(2)  لو توقفنا عند الحالة المغربية، على سبيل المثال، وحتى نُسلط الضوء على تواضع أداء المؤسسات الدينية في الشقين النظري والعملي، فقد تعرض المغرب لأول اعتداء إرهابي في 16 أيار (مايو) 2003، وكان على الرأي العام انتظار أربع سنوات حتى يُعاين تنظيم أول ندوة علمية تحت إشراف مؤسسة المجلس العلمي الأعلى، تروم الاشتغال على نقد الخطاب الإسلامي المتشدد، في نسخته "السلفية الجهادية".

وكان علينا انتظار عشر سنوات ونيف، حتى نعاين انخراط مؤسسة دينية أخرى، وهي مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء، في مشروع "المصالحة"، واستهدف التجاوب العملي مع 360 معتقلاً "جهادياً" في السجون المغربية، أعربوا عن رغبتهم في الانخراط في البرنامج سالف الذكر، وتشرف عليه المؤسسة الدينية، بتنسيق مع المندوبية العامة لإدارة السجون، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان. وقد استهدف البرنامج في النسخة الأولى 14 "سلفياً جهادياً" دينوا في ملفات محاربة الإرهاب والتطرف، قبل الإفراج عنهم، ويستهدف حالياً مع النسخة الثانية، بعض المعتقلين.

اقرأ أيضاً: حوارية "تجديد الخطاب الديني": هل فقد رجل الدين دوره في العصر الرقمي؟

(3) من بين مبادرات المؤسسة أيضاً، إعداد دراسات علمية أكاديمية في إطار وحدة مختصة بنقد خطاب التطرف والإرهاب، تدخل في سياق بلورة "المضامين الأصيلة المتزنة والوسطية المعتدلة، في إطار ثوابت المملكة"، وركزت على عدد من المفاهيم ذات الصبغة الشرعية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتشددة، ويُحرفها دعاة التطرف والإرهاب، ويبنون عليها خطابات المفاصلة والكراهية، والعنف؛ حيث اختارت الرابطة الفضاء الإلكتروني لنشر الدراسات، عبر بوابتها الرسمية، وهي سبع دراسات "تفكيكية" أولية، تهم "في دراسة في تفكيك خطاب التطرف" و"في تفكيك مفهوم الجزية" و"في تفكيك مفهوم الجهاد"، لأمين عام المؤسسة، بجانب الدراسات التالية: "مفهوم الحاكمية: من أجل تجاوز إشكالات المفهوم والتوظيف الأيديولوجي"؛ "في حقيقة القتال في سبيل الله ونصرة المستضعفين"؛ "من الخلافة إلى الدولة: قراءة في السياق وتفكيك المفهوم"؛ "الدولة الإسلامية: قراءة في الشروط وبيان تهافت خطاب التطرف".

نأتي لبعض الملاحظات النقدية على هذه المبادرات:

(1) ثمة فوارق لا حصر لها في التأليف الإسلاموي المرتبط بالحركات الإسلامية القتالية، وبين الأعمال النقدية الصادرة عن المؤسسات الدينية، سواء تعلق الأمر بأدبيات تنظيم "القاعدة"، والتي تتضمن موسوعات "جهادية"، فالأحرى دراسات ومقالات، أو أدبيات تنظيم "داعش"، وقبلها الأدبيات المؤسِّسة، أي الصادرة عن "الجماعة الإسلامية" وتنظيم "الجهاد" في مصر: نحن أمام تراكم كمي ونوعي لا مثيل له، يقتضي إطلاق منصات بحثية في المنطقة، من أجل المواكبة والنقد، وهذا أمر شبه غائب أو متواضع في الساحة العربية حتى حدود اللحظة، أخذاً بعين الاعتبار جسامة المسؤولية العلمية المُلقاة على هذه المؤسسات الدينية، المعنية في الحالة المغربية، مثلاً، بما اصطلح عليه "صيانة الأمن الروحي".

اقرأ أيضاً: هل يستطيع الأزهر تجديد الخطاب الديني؟

من بين الاختبارات النظرية التي تساعد الباحث على تقييم أداء المؤسسات الدينية في التفاعل مع تحدي التكفير والإرهاب، نتوقف عند واقعة تفاعل هذه المؤسسات مع وثيقة "الأجوبة السنية على الأسئلة الثلاثينية"، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، والصادرة عن مجموعة من المعتقلين المغاربة، تم الإفراج عن بعضهم لاحقاً. والحديث عن أسئلة موجهة إلى علماء وفقهاء ووعاظ المؤسسة الدينية، منها، على سبيل المثال لا الحصر، أسئلة حول "المفهوم الجامع المانع لمصطلح الإرهاب" وهل ينقسم إلى محمود ومذموم؟"؛ "حُكْم الجهاد في الأراضي المحتلة"؛ "حُكم بناء قواعد عسكرية أمريكية في أراضي المسلمين، أو السماح لقوات المارينز بالتدريب لينطلقوا لمحاربة المسلمين"؛ الموقف من "حملات التنصير والمنصرين في المغرب"، وغيرها من الأسئلة، حيث تأكد أنه حتى حدود اللحظة (صيف 2018)، لم نقرأ بعدُ لأي عالم دين في المؤسسات الدينية المحلية، رداً على تلك الأسئلة.

ومن بين التفاعلات النقدية أيضاً، قراءة أولية في الدراسات السبع التي قيل إنها تشتغل على نقد الخطاب الإسلامي "الجهادي"، ونورد إشارة واحدة في هذا السياق، من كثرة الإشارات النقدية التي لا تزال في مقام اللامفكَر فيه عند أقلام المؤسسات الدينية، وجاءت الإشارة في مقالة حررها معتقل سلفي سابق، ومنخرط نظرياً وعملياً في مشروع "المراجعات"، من خارج مبادرة "المصالحة" الرسمية، اعتبر أنه "لا وجه للمقارنة بين طريقة أمين عام مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء، والطريقة التي تتناول بها الجماعات الجهادية النصوص الشرعية؟"، متسائلاً: "من ذا من المسلمين سيقتنع بهذه المغالطات التي يؤصل لها" المعني الذي "يجيز لنفسه أن يزعم بأنه سَدّد لتلك الجماعات طعنة نجلاء وأنه أنهى خطابها وأفشله"، خاصة أنّ "اللغة التي كتب بها كتيبه ذاك لا علاقة لها بما تعود عليه الناس من لغة الفقهاء والعلماء؟ لأنها "إلى البرودة أقرب ولذلك لا يعبأ بها الناس في حين أنّ لغة التيارات الجهادية إلى الحرارة أقرب ولذلك هي أكثر تأثيراً في الناس وأكثر إقناعاً". (صدر المقال في موقع "إسلام مغربي" بتاريخ 16 الجاري، تحت عنوان: تهافت "تفكيك مفهوم الجهاد").

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية

(2) هناك معضلة أخرى لا تقل أهمية من حيث الأداء السلبي على أرض الواقع في تفاعل المؤسسات الدينية مع تأهيل المعتقلين الإسلاميين، وتتعلق بتواضع العُدة العلمية للمسؤولين في المؤسسات، من المعنيين بإقناع المعتقل الإسلامي بالعدول عن أفكاره الإسلامية المتشددة، وهذا ما عايناه في أداء الفاعلين بالمؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء. بل وصل الأمر إلى أنّ أغلب هؤلاء الفاعلين في المؤسسة، لا عِلم لهم بالأدبيات الإسلامية الجهادية التي تقف وراء تعرض المعتقل المعني أو غيره لعمليات "غسيل الدماغ"، بما يساهم عملياً في إعاقة عملية التأهيل المعرفي للمعتقل المعني، هذا دون الحديث عن تقزيم وتغييب الاستشهاد والاستفادة من أعمال بحثية، اشتغلت بشكل نوعي على تقويض خطاب التطرف والإرهاب، ولكن بمقتضى غياب ثقافة الاعتراف، أو بمقتضى تغليب الحسابات الشخصية، لا نجد أي أثر لهذه الأعمال الجادة في لائحة هذه البرامج الإصلاحية الخاصة بتأهيل المعتقلين الإسلاميين.

نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، ثلاثة أعمال على الأقل: كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، 2014، كتاب "دولة الإسلام السياسي: وهم الدولة الإسلامية"، لسعيد بنسعيد العلوي، 2017، وكتاب "سؤال العنف" لطه عبد الرحمن، 2017، وواضح أنه إذا غابت هذه الأعمال النوعية في مبادرات المؤسسة الدينية المعنية بالتصدي للتطرف، فأن تغيب أعمال الباحثين الذي يشتغلون نقدياً على نفس المُبتغى أولى، وليس صدفة ــ من باب تحصيل حاصل بتعبير المناطقة ــ أنّ بعض الباحثين في هذه المؤسسات، من الذين يشاركون في مشروع نقد الخطاب/ المشروع الجهادي، غير مطلعين أساساً بما يكفي على مضامين المشاريع الإسلامية الحركية.

اقرأ أيضاً: الجهادية.. حين يلتقي الدين بالسياسة

(3) نأتي للملاحظة الثالثة، وتحيلنا على بعض ضرائب التأخر الزمني في الوعي بأخطاء التفاعل، ونتحدث عن دعوة أمين عام هيئة عالمية لعلماء المسلمين بأن ينخرط  "رجال الدين في إنشاء حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي قصد محاربة التجنيد الإلكتروني الذي بات الوسيلة الأنجع لغسل أدمغة الشباب".

مؤكد أننا إزاء دعوة جاءت متأخرة جداً لأنه كان على صناع القرار الديني الانتباه إلى أهمية الحضور الديني في العالم الرقمي منذ عقد ونيف على الأقل، إلا أنه اتضح أنّ أغلب الفاعلين في هذه المؤسسات الدينية، بعيدون عن العالم الرقمي، وبمقتضى قاعدة "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، بما في ذك "الطبيعية الدينية"، فكان متوقعاً أن نجد الخطاب الديني الرقمي، مُجسداً على الخصوص في الخطاب الإسلامي الحركي، من "سلفية علمية" و"سلفية جهادية" وإخوان، ما إلى ذلك. ليس هذا وحسب، فحتى الأسماء الإسلامية الحركية التي تشتغل في المؤسسات الدينية، كما هو الحال هنا في المغرب، اتضح أنّ حضورها الرقمي، ينتصر للخطاب الإسلامي الحركي، وليس للخطاب الديني المعني بالتصدي لهذه الأنماط من التدين، الدعوية والسياسية والقتالية أو الجهادية.

ثمة فوارق كثيرة في التأليف الإسلاموي المرتبط بالحركات الإسلامية القتالية وبين الأعمال النقدية الصادرة عن المؤسسات الدينية

لقد تأخرت المؤسسات الدينية كثيراً في التفاعل الإيجابي والنوعي مع الخطاب الإسلامي المتطرف والمتشدد في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا بالرغم من الإمكانيات المتوفرة، والضوء السياسي الأخضر الذي أمامها من أجل العمل الرقمي، والنتيجة، أننا بالكاد نُعاين صدور هذا الإقرار، هذا إذا افترضنا أنهم سيشتغلون على تقعيد هذه التصويبات عملياً، على أرض الواقع.

نحن إزاء مأزق مزدوج تعاني منه مُجمل هذه المؤسسات، وقد توقفنا في هذه المقالة عند نموذج مؤسسة دينية واحدة، تهم الحالة المغربية، والأمر سيان مع باقي المؤسسات في المنطقة: يكمن المأزق الأول في الشق النظري، حيث تواضع العدة العلمية، ومعها الشجاعة الأخلاقية للانخراط النوعي في تقويض الخطاب الإسلامي الحركي، في شتى تفرعاته الميدانية، الدعوية والسياسية والقتالية، وإن توقفنا هنا فقط عند التطبيقات القتالية، فلنا أن نتخيل واقع الحال مع الأداء المتواضع والذي من المفترض أن يواجه التطبيقات الدعوية والسياسية؛ ويكمن المأزق الثاني في الشق الميداني، وقد توقفنا عند نموذج واحد فقط، يهم الغياب شبه الكلي للخطاب الديني الرسمي في العالم الرقمي، في زمن يتميز بفورة رقمية حقيقية، تطال العالم بأسره، وليس هذه المنطقة أو تلك. وإذا لم يستوعب عقل هذه المؤسسات مقتضيات هذه الأعطاب المزدوجة، فحينها من المتوقع أن يطول العمر الافتراضي للمشاريع الإسلامية برمتها، أياً كانت تطبيقاتها الميدانية.

اقرأ أيضاً: الاستخدام السياسي للجهاديين وتنامي التطرف والإرهاب

الصفحة الرئيسية