إسلاموية أردوغان تزرع الانقسام بين أتراك قبرص

إسلاموية أردوغان تزرع الانقسام بين أتراك قبرص


12/08/2018

ترجمة: علي نوار


استنكر تيار اليسار محاولات أنقرة فرض الطابع الديني الخاص بها على المجتمع القبرصي التركي، ذي الخلفية العلمانية، في الجزيرة الواقعة بالبحر المتوسط.

تعلو المآذن الإسمنتية البيضاء الشاهقة، لمسجد لارنكا الكبير، أو مسجد هالة سلطان، إلـى 60 متراً، بوصفه رمزاً جديداً لقبرص الشمالية، ومن المُتوقّع أن تنتهي أعمال تشييد المسجد الجديد العام الجاري، بعد خمسة أعوام من العمل، ويُنتظر أن تصل سعته إلى ثلاثة آلاف مصلٍّ بالداخل، فضلًا عن العدد الذي ستؤويه الباحة الخارجية، ما يجعله ليس أكبر مسجد في الجزيرة الواقعة بالبحر المتوسط، والمقسَّمة منذ العام 1974 فحب؛ بل أحد أكبر المساجد في المنطقة.

مسجد لارنكا الكبير

ينقل هذا البناء أكثر من رسالة في الوقت نفسه؛ فهو تأكيد على عدم تراجع الشطر التركي والمسلم من قبرص، أمام الجنوب المسيحي الناطق باليونانية، كما أنّه إبراز لتأثير أنقرة على تلك المنطقة، التي كانت يوماً ما جزءاً من إمبراطوريتها العثمانية.

بيد أنّ محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتصدير نموذجه الديني، تسبّبت في انقسام حادّ داخل الوسط السياسي في قبرص الشمالية، ويوجّه اليسار الاتهامات لأنقرة بـ "أسلمة" المجتمع القبرصي الشمالي ذي الطابع العلماني، بينما تُعبّر المعارضة اليمينية عن تخوّفاتها من أن تؤدّي المواقف التي تتّخذها حكومة جمهورية شمال قبرص التركية إلى إلحاق أضرار بالعلاقات مع تركيا، التي تعتمد عليها تلك الدولة، غير المُعترف بها من جانب المجتمع الدولي، من أجل بقاء اقتصادها على قيد الحياة.

مسجد هالة سلطان ليس سوى جزء من عملية دعوة إسلامية تنفّذها الحكومة التركية وتستهدف المجتمع القبرصي التركي

يوضّح الأمين العام لنقابة المعلّمين في قبرص التركية، سينير إلسيل: "اعتاد المجتمع القبرصي التركي أن يكون علمانياً، لا يتردّد القبارصة الأتراك بشكل دوري على المسجد، فقط في الأعياد والمناسبات الخاصّة. من الغريب أن تعثر على شخص في قبرص التركية يؤدّي الصلوات الخمس كلّ يوم". إذاً، ما هو الداعي لبناء مسجد هالة سلطان؟

وكان أردوغان قد صرّح، لدى بدء عمليات الإنشاء، بأنّ "قبرص الشمالية هي دولة تركية ومسلمة، يتعيّن علينا أن نشعر بالفخر حيال ذلك، مثلما يظهر القبارصة اليونانيون تقديسهم للكنيسة، ينبغي علينا أيضاً أنّ ندافع عن هويتنا الثقافية ببناء المزيد من المساجد، ونزيد من جرعة التعليم الديني".

هذا هو ما دفع القيادي النقابي لاعتبار أنّ مسجد هالة سلطان ليس في الحقيقة سوى جزء من "عملية دعوة إسلامية تنفّذها الحكومة التركية، وتستهدف المجتمع القبرصي التركي. يخصّص أردوغان مبالغ مالية ضخمة لذلك، وينسّق للأمر برُمّته مع السفارة التركية في نيقوسيا".

الأطفال مع لافتات لإعادة التوحيد، في نيقوسيا

لكنّ مفتي قبرص الأكبر، طالب أتالاي، ينفي من جانبه هذه الاتهامات؛ بتأكيده أنّ "الأمر لا يتعلّق بعملية أسلمة، بل تطبيع؛ ففي بداية النزاع القبرصي كان لدينا 300 مسجد، لكن هناك منها اليوم 192 فحسب، وتبعث لنا القرى برسائل تطالبنا بأن نبني لها مساجد، وهو الأمر الذي لا تتوافر لدينا موازنة لأجله، كما أننّا لا نتوفّر على أئمّة مؤهّلين بشكل كاف كي نتكفّل بهذه المساجد". مضيفاً "مسجد هالة سلطان بلغت تكلفة بنائه 30 مليون دولار (26 مليون يورو تقريباً)؛ أي ما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي في قبرص التركية، وجرى تمويله بالكامل من قبل أنقرة".

اقرأ أيضاً: لماذا أثار مسجد تركي الجدل في قبرص؟

ورغم محاولات التوحيد المتعاقبة والفاشلة، لا تزال الجزيرة المتوسطية تعاني الانقسام بين الشطر الجنوبي اليوناني، الذي يُعرف رسمياً باسم "الجمهورية القبرصية"، والشطر الشمالي التركي المعروف باسم "جمهورية شمال قبرص التركية"، لكنّ العلاقات التي تربط قبرص الشمالية بتركيا، والتي تحتفظ بقوات قوامها 30 ألف عسكري في الجزيرة، ليست على هذه الدرجة من اليسر دائماً؛ ففي كانون الثاني (يناير) الماضي، وصفت صحيفة "أفريكا" الجيش التركي بـ "الغازي"، وقد أثار ذلك حفيظة أردوغان الذي ردّ على الجريدة التي تصدر في قبرص التركية، وطالب "بردّ مناسب على هذا التطاول".

إلسيل: أخضعونا في السابق للدعاية القومية والآن يعرّضوننا لنسختهم المحافظة من الإسلام، الأمر لا علاقة له بالدين، بل بالسياسة

جاء الردّ عن طريق مجموعة من 200 شخص، تجمّعوا قبالة مكاتب الصحيفة ورشقوها بالحجارة، لكنّ هذه الواقعة تسبّبت في ردّ فعل أكبر: خرج آلاف القبارصة الأتراك إلى الشوارع، دفاعاً عن "أفريكا"، واستقلالية جمهورية شمال قبرص التركية، ونكاية في أردوغان.

بالمثل، خرجت تظاهرات مناهضة لإضفاء الطابع الديني المفروض من جانب أنقرة، ويستنكر إلسيل "أخضعونا في السابق للدعاية القومية؛ لأنّهم كانوا لا يعدّوننا أتراكاً بالدرجة الكافية، الآن يعرّضوننا لنسختهم المحافظة من الإسلام؛ لأنّهم لا يرون أنّنا مسلمون بصورة كافية، الأمر لا علاقة له بالدين، بل بالسياسة، ومثلما هو الوضع في تركيا نفسها، يحاولون خلق جيل أكثر تدينّاً في قبرص، كي يسيطروا عليه بشكل أسهل"، مستشهداً على حديثه بإرسال 400 رجل دين وافدين من تركيا "بمهمة دعوية"، وبناء مساجد جديدة، وتدشين دورات لتعليم وتلقين القرآن واللغة العربية للأطفال، وافتتاح مدرسة لعلوم الدين.

 دولة قبرص التركية يبلغ تعداد سكانها 350 ألف نسمة

وفي السياق نفسه؛ يضيف باساران دوزجون، مدير صحيفة "هافاديس"، أنّ "الأخطر من كلّ ذلك؛ هو وصول جماعات دينية أصولية قادمة من تركيا، للسيطرة على مساجد بعينها، ولا يستغلونها في الصلاة فحسب؛ بل في الدعوة".

لكنّ هذه الجهود الدعوية لا تستهدف القبارصة الأتراك فحسب، وفق ما أوضحه الصحفي، بل تشمل أيضاً "المستوطنين"، وهم أتراك الأناضول الذين أرسلتهم أنقرة لزيادة تعداد سكان جمهورية شمال قبرص التركية، لا سيّما هؤلاء المنحدرين من العائلات الأكثر فقراً.

وطبقاً لما تفيد به البيانات الرسمية؛ فإنّ دولة قبرص التركية يبلغ تعداد سكانها 350 ألف نسمة، ما يربو عن ثلثهم بقليل هم من المحليين: وهناك قبارصة أتراك يعيشون في الخارج أكثر من مواطنيهم في الداخل (يوجد في بريطانيا وحدها 200 ألف من القبارصة الأتراك).

اقرأ أيضاً: "تصفير المشكلات".. إستراتيجية أردوغان التائهة

وإزاء ضبابية الرؤية بالنسبة إلى المستقبل؛ يقرّر الكثير من الشباب في قبرص التركية الهجرة إلى إنجلترا أو تركيا، بينما لا يسمح لمستوطنين جدد بالوفود والحصول على جنسية البلاد، ويقول أحد المواطنين، طلب عدم الإفصاح عن هويته: "ليسوا جميعاً من المتدينين، لكن هناك الآن جانباً منهم يطيعون عقلية القطيع، ويعتقدون فقط بما يقوله أردوغان".

وكان حزب "النهضة"؛ الذي تأسّس على فكرة تمثيل المستوطنين والدفاع عن "الولاء للوطن الأم" (أي تركيا)، قد حقّق في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدتها قبرص التركية، في شباط (فبراير) الماضي، مفاجأة مدوية، بحصوله على 7% من أصوات الناخبين، كما حقّق حزب "الوحدة الوطنية" (المحسوب على تيار اليمين القومي والحليف التقليدي لأنقرة)، نتائج باهرة أيضاً؛ بحصده 35% من الأصوات.

لكن، على الجانب الآخر؛ نفّذت الأحزاب الأخرى، بدءاً من اليسار وحتى يمين الوسط، مناورة لانتزاع السلطة عن طريق تحالف رباعي الأطراف، وأسفر ذلك عن حصول زعيم حزب (الديمقراطية المجتمعية) اليساري، كمال أوزيجيت، أحد أشدّ المعارضين لعملية "أسلمة" أردوغان، على وزارة التعليم.

تاتار: نحن دولة علمانية فلا يمكن إجبار أحد على الصيام أوالصلاة لكنّنا دولة إسلامية أيضاً وينبغي احترام المعتقدات!

بدأت المشكلات في النشوء منذ ذلك الحين؛ فقد رفض أوزيجيت التصديق على شهادات دبلومات التخرّج لـ 50 طالبة، في مدرسة علوم الدين؛ لأنهنّ ظهرن يرتدين غطاء رأس إسلاميّ في الصور، وهو أمر غير مسموح به في التشريع القبرصي التركي، وقد وصفت المعارضة الوزير بأنّه معاد للإسلام، وتدخّلت الحكومة التركية في النهاية، وضغطت على رئيس وزراء جمهورية شمال قبرص التركية كي يجبر أوزيجيت على التصديق على الشهادات.

دفعت هذه الواقعة أنقرة، التي بالكاد تستطيع مداراة رغبتها في الإطاحة بالوزير، لحجب موازنة وزارة التعليم فيما يخص الاستثمارات الجديدة، حسبما أكّدت ثلاثة مصادر لصحيفة "الباييس" الإسبانية، وجاء ردّ أوزيجيت عبر تصريحات قال فيها: "نعم، هذا صحيح، كانت هناك استقطاعات بعينها، لكن لا علم لديّ فيما إذا كانت تتعلّق بهذه المشكلة أم الوضع الاقتصادي في تركيا، لكن ما نعمل على التحقق منه هو زيادة المراقبة؛ كي نتأكّد من احترام قيم العلمانية والديمقراطية خلال حصص الدين في المدارس ودورات القرآن"، حسبما أبرز الوزير للجريدة الإسبانية نفسها.

من جانبه، يبرز النائب البرلماني عن حزب "الوحدة الوطنية"، إرسين تاتار، في تصريحات لـ "الباييس": "نحن دولة ذات طابع علماني؛ حيث لا يمكن هنا إجبار أحد على الصيام أو الذهاب إلى المسجد، لكنّنا أيضاً دولة إسلامية، وينبغي علينا احترام المعتقدات"، مضيفاً للمصدر ذاته: "يعتنق 90% من القبارصة الأتراك الإسلام ويدافعون عن تركيا، التي تنفق الكثير من المال من أجل رفاهنا، إلا أنّ فكرة أنهم يتطلّعون لأسلمتنا، نحن المسلمون بالفعل، هي حماقة. الاعتقاد بأنّ اليساريين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بشيء على الإطلاق، لا أساس له من الصحة".


مقال للصحفي أندريس مورينثا، نشر في صحيفة "الباييس" الإسبانية

الصفحة الرئيسية