أحلام صغيرة من شرق السودان!

أحلام صغيرة من شرق السودان!


30/08/2018

"سنَصِيرُ شَعْباً حِينَ نَنْسَى ماتَقُولُ لنَا القَبِيلةْ"

محمود درويش

أنتمي (لمن لايعلم) إلى مجموعة سكانية راطنة في شرق السودان، تطغى عليها البنية القبلية، وتنعكس في الكثير من طرائق تعبيرها عبر تمثلات، أصبحت اليوم شرطاً معيقاً للتحرر الذهني الذي هو ضرورة أن يكون الإنسان من خلاله فرداً / كائناً موضوعياً لايقبل القسمة على أحد.

لهذا، وفي ظل واقع قَبَلي منعكس على هويات الناس عبر توظيف سياسي خبيث، ستكون الأمنيات التي أتخيلها وأتمناها لشباب وشابات وطني السودان، في جزئه الشرقي، بمثابة مؤشرات أحلم بها في المستقبل البعيد.

في ظل واقع قَبَلي منعكس على هويات الناس عبر توظيف سياسي خبيث ستكون الأمنيات التي أتخيلها بمثابة حلم

لقد بدا واضحاً اليوم أنّ مخرجات التعليم في السودان، وفي الكثير من البلدان العربية، لا تعكس شروطها المفترضة، وتمثلاتها المطلوبة؛ من قدرة على ممارسة النقد الذاتي، وإدراك قيمة الوعي الفردي في فحص الأفكار والخطابات، إلى جانب القدرة على الاستقلال المادي عبر تخصص علمي. والقدرة على التعبير عن الموقف السياسي الوطني المستقل.

لهذا، لاتبدو اليوم في السودان، وبخاصة في إقليمه الشرقي، تعبيرات من تلك الشاكلة المفترضة لمعطيات التعليم المعاصر، ما أدى، للأسف، إلى وقوع مجموعات من الشباب والشابات في شرق السودان، من كافة أبناء القبائل، في تماهٍ مضلل مع خطاب السلطة السياسية لنظام الإنقاذ، الذي أعاد المجتمع إلى الالتفاف نحو هوياته الأولى الخام؛ كالقبيلة والطائفة، عبر طريقين؛ الأولى: انحسار خدمات الدولة حيال المجتمع في التوظيف والخدمة المدنية، وحتى الخدمات الأساسية، ناهيك عن تبنّيها لمشاريع حداثية في الاندماج الوطني والهوية القومية. والثانية؛ عبر الاستقطاب القبلي وإحياء نظام الإدارة الأهلية (نظام تنظيم القبائل الذي وضعه الإنجليز في بدايات الاستعمار) من أجل ضمان ولاء القبائل. وهو استقطاب أفسد القبيلة والسياسة معاً.

اقرأ أيضاً: القبيلة.. بعصبيات جديدة

وفي ظل واقع معقد كهذا، تبدو الأمور للمتعلم أو المتخرج الحديث من نظام تعليمي من تلك الشاكلة، غائمة ومشوشة، فيما تظل الممارسات التي يراها عبر التعبيرات القبائلية للسياسة، كما لو أنها جزء من حقائق السياسة ذاتها، ما يعني استمراراً مديداً لحلقة جهنمية من الاستقطاب النسقي المدمر للقبيلة والسياسة معاً!.

أحلم أن ينسى بنات وأبناء قبائل منطقتي حزازات الماضي وأوضاعه القبلية المظلمة وأن يسخروا منها

لهذا، أحلم، كأحد أبناء شرق السودان، بأمنيات تاريخية، أتمنى أن يحققها المستقبل لأبناء وبنات مجتمعي. وهذه الأمنيات قد تحقق بعضها لأبناء شمال السودان ووسطه بحكم التعليم والاندماج في مشروع الدولة الحديثة التي نشأت بداياتها المتعثرة من هناك (وإن كانت هناك، اليوم، عودة سياسية للهويات القبلية في شمال السودان ووسطه).

-     أحلم، في المستقبل البعيد: أن ينسى بنات وأبناء قبائل منطقتي في شرق السودان (بنو عامر والحباب)؛ حزازات الماضي وأوضاعه القبلية المظلمة، وأن يسخروا منها، ضاحكين بملْء أفواههم من مواضعاتها الجاهلية، ونعراتها التافهة وطبيعتها التاريخية الميِّتة.

-     أحلم في المستقبل البعيد: أن تكون لهم قدرة وحصانة من تأثيرات الماضي القبلي الميت على حاضرهم، وأن يحدث  التعليم في وعيهم: فرقاً واضحاً بين الانتماء للماضي المظلم، والانتماء للمستقبل المشرق، بين ماضٍ يمتلكون القدرة على التحرر منه والسخرية من أوضاعه، وبين حاضر يدركون هويته ومعناه وضرورة العيش فيه.

-     أحلم بأن يتحرروا من الوعي النسقي الذي لايفضي بهم إلى الفكر والمعرفة، ويجعلهم مقيمين في الأيديولوجيا القبائلية القاتلة.

-     أحلم بأن يتصالحوا مع تاريخهم وتراث قبائلهم الشعري ونمط حياتهم في الماضي، أن يستعيدوه في الحاضر كفولكلور وتراث ومادة للدرس والعبرة، لا للتمثلات المستعادة، والنعرات المتجددة عبر الحاضر، والحزازات الباقية في النفوس.

أحلم بأن يتحرروا من الوعي النسقي الذي لايفضي بهم إلى الفكر والمعرفة ويجعلهم مقيمين في الأيديولوجيا القبائلية القاتلة

-     أحلم في المستقبل البعيد أن تكون هوياتهم الجمعية متصلة بالتعبيرات المعاصرة لاتجاهات المجتمع الحديث: جمعيات مجتمع مدني حقيقي ـ أحزاب سياسية واعية، جماعات فنون معاصرة. وأن يكون ماضيهم القبلي منعكساً، فقط، في استعادات فنية ودرامية إيجابية، تعزز فيهم الانتماء الإيجابي المممتد لقيم الماضي المضافة إلى انتماءاتهم المعاصرة.

-     أحلم في المستقبل البعيد، أن يتمثلوا ماضيهم عبر الدرس والنقد والبحث والتفكيك والتقويم المعرفي الإيجابي.

-     أحلم في المستقبل البعيد أن يكون بنات وأبناء قبائلنا مدركين إدراكاً وأعياً بأن المعاصرة ـ أي وعي تاريخهم الماضي ووجودهم المعاصر عبر المعرفة والقيم ـ  هو الشرط الشارط لتخلصهم من ضغوط الماضي المظلم وإكراهاته القبائلية السالبة.

-     أحلم في المستقبل البعيد لأبناء إقليم شرق السودان كافة: أن يكونوا قادرين على رؤية مصيرهم المعاصر، وعلى الإمساك بهذا المصير، وعلى ترقيته باستمرار ليكون مصيراً مشرقاً بالوعي والمعرفة والانتماء لحقوق الإنسان وممارسات النقد الذاتي التي ستحصنهم باستمرار من الوقوع في أخطاء الماضي وتعزز انتماءهم لحاضر مشرق ومستقبل مزهر.

-     بقي أن أقول إنني أحلم، أولاً وأخيراً، بدولة مواطنة سودانية معاصرة تحقق تلك الأحلام التاريخية الصغيرة التي حلمت بها آنفاً؛ فبدون هذه الدولة (التي هي أعظم اختراع بشري في التاريخ) لن تتحقق تلك الأحلام.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية