احذروا ناجي العلي فالكون عنده أصغر من فلسطين

احذروا ناجي العلي فالكون عنده أصغر من فلسطين

احذروا ناجي العلي فالكون عنده أصغر من فلسطين


11/10/2023

"الموت، الغربة، المنفى، الشتات محطات كانت بمثابة سيرة كاملة تقاطعت وحياة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، وتحمل خصوصية شديدة؛ فهي ليست مجرد تجربة عاشها، وعاين أحداثها وفصولها، كما عانى من ظروفها وتحولاتها، بل أكثر من ذلك؛ إذ تحولت معه إلى ذاكرة حية، شحذ منها خياله، وعمل على استعادة تكوينها الأول وبنائها مراراً، وبقيت مرجعية لفنه ومواقفه.

تراوحت حياة العلي بين المنافي ما جعلتها رحلة شاقة تستنزف روحه القلقة وهو يعبر من دولة لأخرى

تمكن العلي، بمقدرته الفنية وموهبته الإبداعية الفذة، أن يخلق من تلك التجربة، ومحنتها، على المستوى الوجودي والسياسي، تأويلات فنية عديدة ومفتوحة، أمام حدس المتابع لفنه، والمشاهد لرسوماته، التي تميزت بعفويتها، ووضوحها، ومفارقاتها الساخرة.

غير أنه لم يركن إلى المباشرة التي تفسد الفن، فيترك لك المساحة، للاشتباك مع رسوماته، وفك ألغازها، وحل شيفراتها الداخلية، عبر تعقب خطوطها الدقيقة، في تعقدها وانبساطها وتداخلاتها، ومساحتي الظل والضوء وانعكاساتهما. لذا تميز في رسوماته، بعدم التزامه بقواعد الفن ومحدداته، بقدر ما التزم وانحاز للفكرة، وتعبيراتها الفنية الجريئة، وما تخلقه من معان، وذلك، ما سمح بأكثر من سردية، تتجاوز الجمود والانغلاق حول فنه.

 جاءت شخصية حنظلة في مرحلة اكتماله ونضجه الفني

ناجي العلي.. فلسطيني باختصار

ولد ناجي العلي في العام 1937، في قرية الشجرة، الواقعة بين طبريا والناصرة، بينما اضطر للنزوح مع أسرته، إبان العدوان الإسرائيلي على فلسطين واحتلالها، العام 1948، وعاش في مخيم عين الحلوة، بجنوب لبنان، وهو مايزال طفلاً في العاشرة من عمره.

اقرأ أيضاً: هل يسعى ترامب وصهره لإنهاء القضية الفلسطينية؟
يقول عن تلك المرحلة: "اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان.. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً.. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك".
فنان يحمل ذاكرة وطنه
منذ ذلك التاريخ، لم يعرف الاستقرار، وتراوحت حياته بين المنافي، ما جعلتها رحلة شاقة وممتدة، تستنزف روحه القلقة، وهو يعبر من دولة إلى أخرى، فتغلغلت في نفسه ووجدانه، مرارة هذا الشتات، الذي قبض على واقعه وحكم مصيره.
وفي لبنان، محطته الأولى، انتظم في صباه بالمخيم، في فصل دراسي، حيث يذكر اسم مدرسه "أبو ماهر اليماني"، الذي لاحظ شغفه بالرسم، وحرضه أن يرسم لكن "دائماً عن الوطن"، كما علمه أن يرفع العلم الفلسطيني، ويميز بين أصدقائه وأعدائه، بوضوح، فكانت وصيته التي حملها بقية عمره.

اقرأ أيضاً: "الكاوتشوك الفلسطيني" ... وضوح الرؤية وسط الدخان

بيّد أنه رحل عن بيروت، وسافر إلى طرابلس، مضطراً، على إثر مواقفه السياسية، حيث نال منها شهادة ميكانيكا السيارات، بعد أن أخفق في مواصلة دراسته للفن، عندما التحق بالأكاديمية اللبنانية، لمدة سنة، لكنه، لم ينتظم فيها إلا شهراً، بسبب الملاحقات الأمنية و"ضيافة سجون الثكنات اللبنانية، الذين كانوا يقبضون علينا، بأية تهمة، وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف، وكانوا يفرجون عنا، حين يملون من وجودنا في السجن، أو حين يتوسط لديهم واحد، من الأهل أو الأصدقاء".
تعرض العلي للاعتقال، أكثر من مرة، سواء من قبل القوات الإسرائيلية، أو الجيش اللبناني، في فترة إقامته بلبنان، نتيجة نشاطه المعادي للاحتلال، ورسوماته الساخرة، التي كانت تضج من همجية العدوان الصهيوني، وتفضح مطامعه وممارساته، وكذا، تواطؤ أطراف محلية وإقليمية معهم. فقد حملت تلك الرسومات سخطه الشديد على مجمل الأوضاع السياسية والإجتماعية العربية، دون حياد أو مواربة أو لحظة هدنة.

محمود درويش عن ناجي: كأنه فنجان القهوة الأول، يدلني على اتجاه بوصلة المأساة

كيف جاء حنظلة؟

في واحدة من أدق تعبيرات ناجي العلي، الذي يصف من خلالها شعوره الفني وموقفه السياسي، الذي تلمح منه التزاماً أخلاقياً وعناداً شديداً، يقول: "هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب".

اقرأ أيضاً: هل باع الفلسطينيون أرضهم حقاً؟
وعلى جدران المخيم، كان ينتصب بقامته القوية، أمام لوحته الأولى، الصلبة والراسخة؛ تتسع لحجم رؤيته، في فطرتها وبدائيتها وتجريبيتها، والتي صنعها على مهل ودأب شديدين، يرسم "ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، أو ما كنت أراه محبوساً في العيون"، كما يروي، حتى جاء الروائي والمناضل الفلسطيني، غسان كنفاني، في زيارة إلى عين الحلوة، واطلع على رسوماته، ونشرها، للمرة الأولى، في مجلة "الحرية"، لتكون بدايته مع القارئ العربي والفلسطيني.
صاحب "حنظلة"، هذه الشخصية التي ابتكرها الفنان الفلسطيني، في الفترة التي تلت هزيمة حزيران (يونيو) 1967، تحديداً، في العام 1969، ورافقت صعود المقاومة الفلسطينية، تعد أكثر الشخصيات الفنية التي ارتبطت به، واشتهر بها، فيما تعد تكثيفاً فنياً شديداً، لكل رموزه التي وظفها في رسوماته، وموضوعها اللاجئ والفدائي الفلسطيني، وتوقهما لحلم العودة.

لم يركن إلى المباشرة التي تفسد الفن، فيترك لك المساحة، للاشتباك مع رسوماته، وفك ألغازها

ومثلما كانت شخصية الفدائي الفلسطيني، الذي حمل مفتاح العودة، تتجسد لديه في صورة الفدائي الفلسطيني المصلوب، الذي يحاول أن ينتزع يديه من المسامير، وهي تشق راحتيه، بينما الأمواج تتقاذفه، كما عبرت عن ذلك، رسوماته المبكرة، في فترة الستينات، فيحاول أن يفتدي شعبه، ويبحث عن خلاصهم من الموت، والتحرر من كل المنتفعين، جاءت شخصية حنظلة، في المقابل، في مرحلة اكتماله ونضجه الفني، تحمل قواسم مشتركه، مع الصورة الأولى لمسيحه، الحامل مفتاح بيت لحم، بغية أن يعيد ترميم ذاكرة شعبه المشتت.
حنظلة هو الطفل ابن العشرة أعوام، وهو العمر ذاته، الذي غادر فيه ناجي العلي، فلسطين؛ حيث يظهر وهو يدير ظهره للعالم، بصخبه ومؤامراته، توافقاته ومفاوضاته ومساوماته السياسية، بينما عيناه على فلسطين، وفلسطين وحدها، يعقد يديه خلف ظهره، ويبرز شعره منتصباً، كأنه يحمل قرص الشوك، الذي حمله يسوع الناصري.

اقرأ أيضاً: الحرية .. خيار وجودي لفلسطين وأهلها

بيد أن الطفل حنظلة، الذي يظهر حراً، بين لونين وحيدين، ميّزا كل رسومات، ناجي العلي، هما: الأبيض والأسود، ويفصحان عن موقفه الحاد، الذي لا يعرف حدوداً وسطاً، سيبدو في فضاء، لا أرضية له؛ لأنه فقد وطنه، لكنه "سيظل دائماً في تلك السن؛ لأنها السن التي غادر فيها فلسطين، وحين يعود إلى فلسطين، فإنه سيبدأ في الكبر، وذلك لأنّ قوانين الطبيعة لا تنطبق عليه؛ لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء"، كما يعرفه الفنان الفلسطيني الشهيد الذي مات بعيداً عن وطنه ومخيمه، بعدما أطلق مجهول الرصاص عليه في لندن 22 تموز (يوليو) عام 1987، فأصابه تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 آب (أغسطس) من العام نفسه، فدفن في لندن، رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده.

اقرأ أيضاً: 10 حقائق قد لا يعرفها الكثيرون عن غسان كنفاني
عن ناجي العلي، كتب الشاعر محمود درويش: "صار يحدد مناخ صباحي، كأنه فنجان القهوة الأول يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلني على اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد الذي سيعيد طعن قلبي، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشري، مخيف ورائع هذا الصعلوك الذي يصطاد الحقيقة بمهارة نادرة كأنه يعيد انتصار الضحية في أوج ذبحها وصمتها، إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطيني واسع القلب، ضيّق المكان، سريع الصراخ، وطافح بالطعنات".
ويضيف درويش: "احذروا ناجي؛ فالكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم. إنه لا يأخذ المخيم إلى العالم، ولكنه يأسر العالم في مخيم الفلسطيني ليفيق الاثنان معاً، فهل يتحرر الأسير بأسره؟ ناجي لا يقول ذلك. ناجي يقطر، يدمّر، ويفجّر، ودائماً ما يتصبّب أعداءً".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية