5 محطات جعلت محنة خلق القرآن أكبر الفتن في الإسلام

القرآن الكريم

5 محطات جعلت محنة خلق القرآن أكبر الفتن في الإسلام


10/10/2018

تعد محنة خلق القرآن التي جرت في عصر الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد، أكبر الفتن بعد الخلافة. وعلى الرغم من أنّ الأولى سياسية، والثانية لاهوتية، إلّا أنّ كليهما تسببّتا في اشتعال الفتن والصراعات بين طوائف المسلمين، في العصر العباسي الذي أقام نهضة اجتماعية وعلمية أشاد بها المؤرخون.

وهناك العديد من الأمور الملتبسة المتصلة بمحنة خلق القرآن؛ حيث رصدت "حفريات" أبرز خمس محطات رافقت ذلك السجال الفكري المحتدم.

اقرأ أيضاً: القرآن الكريم والوجدان...والمضامين التاريخية المعطِّلة

أولاً: بدأت المحنة في خلافة المأمون من عام 218هـ/833مـ واستمرت قرابة 15 عاماً، وتعتبر فرقة المعتزلة هي من أثار تلك الفكرة، حيث نفى المعتزلة عن القرآن صفة الأزلية، فالقرآن كما تبنوا حادث في الزمان والمكان، وهو ما تعارض مع المعتقد السُنّي المؤمن بأزليته، فبدأ التراشق بين الفرق الإسلامية التي اتخذت من تلك الحادثة سبباً كافياً للاقتتال فيما بينهم، وصراعاً مع السلطة السياسية المتمثلة في الخليفة المأمون بن هارون الرشيد آنذاك، لقد سقط المعتزلة فريسة معترك السياسة الذي استخدمهم فيه المأمون لأغراض سياسية، وبدا للعامة أنّ المعتزلة ناقضوا أنفسهم وبدأوا يفرضون فكرتهم بالقوة والجبر على العامة وهو ما لم يكن صحيحاً.

اشتعلت بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة فتن لا تعد ولا تحصى

أضيفت فكرة الحدوث إلى مسألة خلق القرآن، من مذهب الأشاعرة؛ فالقول بالخلق في مضمونه إشارة للموت، وهو ما اعترض عليه الأشاعرة بقولهم إنّ القرآن مُحدث، وهو ما يضيف له صفة الأبدية، باعتباره حادثاً متصلاً بالزمان والمكان، مصادفاً لأفعال الذات الإلهية التي تحمل وحدها صفة الأزلية، أمّا الأفعال والصفات وغيرها فجاءت بعد الإله، وهو ما لم يلقَ استحسان الجمود العقدي لدى أهل السنة الذين غالباً ما تميزوا برفضهم للجدل والأفكار الفلسفية المطروحة في الفكر الإسلامي، فالعقيدة والأفعال والصفات كلها لا تجتزأ وتبقى متحدة مع الذات الإلهية.

يرى الدكتور حسن حنفي الجانب الثوري في فكرة خلق القرآن وهي إضفاء مزيد من التنزيه والقداسة على الذات الإلهية

ثانياً: في كتابه "البداية والنهاية" في جزئه العاشر، يروي ابن كثير بدايات المحنة التي اتحدت السلطة معها لأول مرة، واعتنق على أثرها الخليفة مذهباً فكرياً، ومع الخلاف بين المعتزلة وغيرهم الذين نفوا أنّ المأمون أحد أفرادهم، بينما تضامن المأمون مع المعتزلة، وجعل مذهبهم هو مذهب الدولة، وذلك نتيجة لسياساته الاجتماعية، فقد جددّ بيت الحكمة الذي بدأه جده المنصور، وجعله قلعة علمية وازدهرت الترجمات الإغريقية والفارسية واليونانية في عصره، واهتم بالطب والفلسفة والعلوم الطبيعية كما لم يفعل خليفة قبله، وكانت حالة استثنائية، أن يحمل أحد حُكام العصور الوسطى عقيدة فلسفية، ويرسخ لها في دولته، هذا لا ينفي الإخفاقات السياسية في نهج المأمون التي لا يخلو منها أي حاكم.

غلاف كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير

وعلى الرغم من شيطنة أهل السنة والجماعة للمأمون والمعتزلة، الذين رموهم بالكفر والخروج عن الملّة، واشتعلت بينهم وبين المعتزلة وغيرها من الفرق فتن لا تعد ولا تحصى على مدى خمسة عشر عاماً، إلّا أنّ لمدرسة المؤرخين الجُدد نظرة أخرى في تلك المسألة، وهي تنافي الحوليات التي لم تهتم سوى بتأريخ أخبار الحكام والملوك وانتصاراتهم العسكرية، أمّا الحراك الفكري والاجتماعي فلم يهتم به سوى من أعادوا قراءة النصوص التاريخية في عصور لاحقة.

ثالثاً: كانت الفكرة الأصلية في قصة خلق القرآن إعادة قراءة النص باعتباره حدثاً، وليس أمراً جامداً لا يقبل التأويل، ولعل هذا النسق الفكري الذي سار فيه المعتزلة منذ بداياتهم مع مسألة مرتكب الكبيرة، والمسائل الأخرى التي تدور كلها في فلك تفكيك جمود النص وإعادة قراءته بما لا يدع مجالاً للنقل الأعمى، دون إعمال العقل، وبينما يرى أهل السنة (وهم جماعة السلطة في كل العصور)، أنّ القرآن مخلوق، لذا فإنّ كل ما ورد فيه لا يقبل النقاش أو الجدل، ومنه اتخذ الحكام سلطاتهم كظلال الله على الأرض، وأفعالهم أحكام إلهية لا تقبل المراجعة والنقد، ومن هنا حاول المعتزلة زعزعة تلك الفكرة بإخضاع النص لحكم العقل، ولم يلق المعتزلة ترحاباً سلطوياً إلّا في عصر المأمون، الذي رجحت كتابات المعتزلة انتماءه لفكر الجبرية.

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها

ويرى المفكر المصري الدكتور حسن حنفي في موسوعته "من العقيدة إلى الثورة"، الجانب الثوري في فكرة خلق القرآن، وهي إضفاء مزيد من التنزيه والقداسة على الذات الإلهية، قائلاً: "إنّ القول بخلق القرآن أو الحدوث أكثر إطلاقاً لعواطف التنزيه، وهي لا تخلو من حس وتشبيه؛ كيف يكون القرآن حسياً؟ إنّ القول بالخلق والحدوث في نفس الوقت تنزيه للذات وأكثر اقتراباً من الكلام كموضوع حسي علمي يمكن دراسته في علم الصوت أو علوم اللغة". حنفي انطلق من جعل المعتزلة القول بخلق القرآن مندرجاً ضمن مفاهيم العدل بعيداً عن أصول التوحيد، وهي أحد الأمور الملتبسة على العامّة في التاريخ الحديث، وبدأ الحفر في خباياها المعتزلة الجدد.

غلاف موسوعة "من العقيدة إلى الثورة" للمفكر المصري حسن حنفي

رابعاً: انضمّ لفكرة المعتزلة بعض من الفرق الإسلامية، في مقدمتهم الشيعة الإمامية والإثنا عشرية، وبدأ الجدل مع الأشاعرة، وازدادت حدته بعد اعتزال أبو الحسن الأشعريّ. والمعروف تاريخياً أنّ الفتنة الكبرى اشتعلت بين الحنابلة والسلطة، وما أكثر الكتب التي سرد فيها أهل السنة مظلوميتهم أمام المسألة، وأحمد بن حنبل الذين تباكوا عليه، كما الشيعة في لطمياتهم على الحسين، رضي الله عنه، إلّا أنّ المحنة لم تكن من افتعال المعتزلة كما يروج للأمر، فبينما بنيت المسألة لدى المعتزلة كأصل من أصول العدل بناها الجبرية كأصل من التوحيد، والمتمعن في نقاشات المحنة التي سردها ابن كثير والطبري والمسعودي، يرى أنها دارت في فلك مسألة التوحيد، وحيث شكلت الدعوة الإسماعيلية خطراً على سلطة المأمون، بعدما التف المثقفون حولها بعد نشر رسائل إخوان الصفا، فعمد المأمون إلى تبني الشيعة ظاهرياً.

الخاسر الوحيد في تلك المحنة كان المعتزلة الذين تم حرق كتبهم على أيدي الحنابلة واختفت معظم مؤلفاتهم

جاءت المحنة بفعل الجبرية، وليس المعتزلة، فقد استخدمت السلطة تلك القضية، لتحجيم دور أهل الحديث على العامة، ولمواجهة التمرد الأموي الذي هدد العباسيين، ولعل الدور الدرامي الذي يقوم به إعلام الحنابلة من شيطنة المأمون والمعتزلة، ليس قائماً إلّا على زعزعة المشاعر العقدية، ولقد طالت المحنة الكثير والكثير من أهل الحديث والفقهاء على رأسهم عم المأمون إبراهيم بن محمد المهديّ. وعندما تولى المعتصم الخلافة وضع ابن حنبل في السجن.

خامساً: لم يكن زمن المأمون أول أزمنة الفتنة، بل كان العصر الأموي؛ حيث سموا بالقدرية الأوائل، الذين ثاروا ضد الدولة الأموية وقالوا بخلق القرآن، وتم قتلهم وعلى رأسهم جهم بن صفوان وغيلان الدمشقيّ، وهي الفترة التي تواجد فيها واصل بن عطاء حيث تجنب الصدام مع السلطة في تلك القضية تحديداً، ولعل الاستدلال من أزمة بن حنبل مع قضية خلق القرآن في قصته مع أحمد بن داوود أحد وزراء المأمون، الذي أراد فرض الرأي بتبني المسألة حتى يتبعه العامة، فالمعتزلة كانوا بمعزل من الأمر، إنما الفعل فعل الجبرية الذين تلاعبوا بالمعتزلة كأصحاب فكر حر، وأقحموهم في حلبة السياسة،  وذلك بحسب تصريح أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا الدكتور أحمد سالم لـ"حفريات" الذي رأى أنّ "الخلاف اللاهوتي ليس سبباً في الصراعات بين الناس، لكن حين تقحم السياسة في هذا الخلاف تشتعل حرائق الفتن؛ لأنّ السياسة لطالما استخدمت الطوائف ضد بعضها البعض لصالح السلطة".

اقرأ أيضاً: الصراع على السلطة من دولة الخلافة إلى واقعنا المعاصر

لم تنتهِ الفتنة إلّا بعصر الخليفة المتوكل، الذي أفرج عن بن حنبل من السجن وحدد إقامته، وبالرغم من ذلك اعتبره أهل السنة ناصراً لقضيتهم ضد المعتزلة، مع أنه اشتهر بارتكاب الكبائر من القتل وشرب الخمر وارتكاب المعاصي.

الخاسر الوحيد في تلك المحنة كان المعتزلة الذين تم حرق كتبهم على أيدي الحنابلة، واختفت معظم مؤلفاتهم، ولم يتبقَّ منها سوى كتابات القاضي عبد الجبار التي حافظ عليها الزيديون في اليمن.

الصفحة الرئيسية