تأثير حزب العدالة والتنمية التركي على الحركات الإسلامية

تأثير حزب العدالة والتنمية التركي على الحركات الإسلامية

تأثير حزب العدالة والتنمية التركي على الحركات الإسلامية


30/08/2023

تنظر الحركات الإسلامية، في كثير من البلدان العربية، إلى تجربة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا بإعجاب دفعها إلى محاولة استنساخها في مصر وتونس والمغرب وليبيا واليمن ودول عربية أخرى، عبر استلهام شكلي لاسم "العدالة والتنمية"، فهل هذا النموذج قابل للاستنساخ فعلاً؟

عوامل نجاح التجربة التركية

الدعوات للاستفادة من المكانة الشعبية للإسلام في تركيا قديمة، ففي خمسينيات القرن العشرين أفصح بعض السياسيين الأتراك عن ميولهم الإسلامية، لكن هذه الدعوة قُمعت من قبل النخب العلمانية في مراحل مختلفة إلى أن تمكن الإسلاميون من الصعود إلى قمة السلطة من بوابة الديمقراطية.

القطيعة الكمالية مع الموروث العربي والإسلامي كان لها دور في بلورة بنية ثقافية واجتماعية علمانية بتركيا

لنبدأ أولاً بسرد عوامل نجاح التجربة الإسلامية التركية، وهي في تقديري وباختصار: الإرث الحضاري العثماني المستمر في الجينات الثقافية للشعب التركي الطامح لاستعادته، والخلفية العلمانية لعقود طويلة؛ فالقطيعة التي أحدثتها الكمالية مع الموروث العربي والإسلامي لها دور في بلورة بنية ثقافية واجتماعية علمانية أدت إلى الحد من شيوع التطرف الديني، والمذهب السني المنفتح، والاحتكاك التاريخي والثقافي بالجوار الأوروبي والرغبة في تطبيق شروط الاتحاد الأوروبي، والتحوُّل اللغوي والقطيعة مع العربية، وبعيداً عن منطق النزعة اللغوية الاستعلائية هناك نظريات لغوية موضوعية تعطي أهمية للدور الذي يؤديه جدل اللغة والفكر في التقدم.

اقرأ أيضاً: هل أنهى حزب العدالة والتنمية مرحلة الإسلام السياسي بالمغرب؟

هذه العوامل أسهمت في نضوج تجربة حزب العدالة والتنمية، وهي ليست ضرورة حتمية من أجل نجاح التجربة في بلدان أخرى، لكن تقليد اسم حزب (العدالة والتنمية)، حرفياً كما في المغرب، أو (الحرية والعدالة) في مصر، أو (العدالة والبناء) في اليمن، هو تأثُر شكلي لا يكفي لنجاح التجربة.

الشكل والمضمون

الرغبة في نقل التجربة التركية إلى بلدان عربية تأتي من خلال التصريحات، لكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي لتطبيق التجربة، في المقابل هناك تصريحات ما تزال تثير المخاوف في البلدان العربية، مثل شعار "الإسلام هو الحل" والدعوة إلى "تطبيق الشريعة الإسلامية"، علماً أنّ جزءاً من نجاح التجربة التركية أنّها لم تكرس هوية الحزب الدينية ورفع الشعارات (الإسلامية)؛ على العكس، للحزب سياسات وتصريحات تؤكد الاستمرار في النهج العلماني.

عوامل نضوج تجربة حزب العدالة والتنمية ليست ضرورة حتمية من أجل نجاحها في بلدان أخرى

مقارنة التجربتين التركية والإيرانية مع تجارب الحُكم العربية تُظهر أنّ التقدم العربي المنشود ما يزال بعيداً، خصوصاً في ظل غياب مشروع نهضوي حقيقي للتيارات الإسلامية الأكثر حظاً في تولي مقاليد الأمور السياسية في البلدان العربية منذ "الربيع العربي"؛ فمشروع النهضة عند الحركات الإسلامية هو الإسلام نفسه، فيما المضامين والآليات والإستراتيجيات تحل في مرتبة ثانوية.

قبول الحركات الإسلامية للديمقراطية ممثلة بصندوق الاقتراع، يأتي في ظل إيمانها بأنّ الحكم "حق إلهي"، وهي في هذه المرحلة من القبول تعتقد أنّ نتائج الانتخابات هي "تمكين رباني" و"عقد شرعي" أو "بيعة" بين طرفين لفترة زمنية لا يجوز نقضها، ومن باب الفهم الديني للديمقراطية يرفضون مبدأ "الانتخابات المبكرة" ويعتبرونها "ردة" أو نقض غير شرعي لعقد شرعي مبرم بين طرفين بالتراضي، حتى لو خرج الطرف الذي أوصلهم إلى الحُكم تعبيراً عن نقضه للعقد المبرم عبر صناديق الاقتراع.

الموقف من العلمانية

هذا الفهم سيستمر إلى أن تعي هذه الحركات أنّ صندوق الاقتراع ليس سوى آلية، أما جوهر الديمقراطية فمرتبط بالليبرالية وتوأمها العلمانية، وأنّ أي فصل بين الديمقراطية والعلمانية هو نوع من حرق المراحل ينتهي بحرق الذات، وأداء جماعة الإخوان المسلمين في مصر يشهد بعدم جُهوزية الجماعات الدينية للتعامل مع المفاهيم السياسية والديمقراطية والتمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي.

التقدم العربي المنشود مايزال بعيداً خصوصاً في ظل غياب مشروع نهضوي حقيقي للتيارات الإسلامية

الشرط الأهم الذي يجب على القوى السياسية أن تعيه هو الموقف من العلمانية والديمقراطية؛ ففي حين أنّ الموقف التركي الرسمي من مفهوم العلمانية والديموقراطية واضح، ما يزال مفهوم العلمانية مرتبط في ذهن كثير من العرب المسلمين بالإلحاد والكفر، كما أنّ توظيف الحركات الإسلامية للديمقراطية لا يأتي عن اقتناع بوجود قيمة ذاتية تحملها الديمقراطية، وإنّما هي ذريعة للوصول إلى السلطة، في هذا النوع من التوظيف الأداتي للديموقراطية يكون من الصعب التخلي عن السلطة طواعية، دون إلحاق الضرر بقيمة الديمقراطية نفسها، وهذا الموقف أشبه بحال العربي قبل الإسلام مع صنمه المصنوع من التمر، يعبده في أوقات ويأكله عند الجوع.

اقرأ أيضاً: هزائم متكررة لـ"إخوان العدالة والتنمية"

على القوى الدينية أن تعي أنّ الديموقراطية ليست صنماً ليؤكل ولا وثناً ليُعبد، ولكنها قيمة تتجوهر في صندوق الرأس أكثر مما تُختزل في صندوق الاقتراع، على الحركات الإسلامية أن تتصالح مع الديمقراطية والعلمانية، باعتبارها جسراً للتصالح مع الآخر ومع الواقع والعالم، فما يزال هناك إشكال نظري خطير يقف حائلاً دون تطبيق الديمقراطية في كثير من البلدان العربية الإسلامية، هذا الإشكال يتمثل في فصل الديمقراطية عن توأمها العلمانية.

جزء من إخفاق نقل التجربة التركية إلى البلدان العربية يأتي من باب عدم توفر خلفية علمانية في هذه البلدان؛ فالأنظمة العربية القائمة قبل "الربيع العربي" أو بعده لم تسعَ، لا على مستوى الفكر النظري ولا العملي، من أجل ترسيخ قيم العلمانية، وهو ما يعني ضعف البنية العلمانية في المجتمعات العربية الإسلامية، أمّا الإسلام المذهبي المسيطر والمتصارع فينقسم ما بين إسلام سني معتدل وإسلام سلفي متطرف.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة التقارب بين العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح؟

إمكانات تطبيق التجربة التركية في تونس والمغرب والجزائر أقرب منها في أي بلد عربي آخر، وذلك لتوفر بعض شروط التجربة التركية هناك، كتوفر بنية اجتماعية علمانية، والاحتكاك الحضاري الجغرافي مع أوروبا، مع أنّ تصريحات بعض الأطراف الإسلامية الأصولية التي تدعو إلى إقامة "خلافة إسلامية"، بالإضافة إلى طبيعة المذهب السني السائد يثير مخاوف الأطراف العلمانية وقد يشكل عائقاً أمام اكتمال التجربة.

رمزية الطربوش

الحضارة مجموعة من العلائق المادية والفكرية المرتبطة ببعضها البعض؛ لذلك لم يكن نزع الطربوش واستبداله بالقبعة في تركيا الكمالية بالشيء الهين، فقد كان أتاتورك يعلم أنّ الطربوش جزء من الفكر العتيق واستبداله بالقبعة له معنى رمزي يعني إحلال فكر تقدمي محل آخر رجعي، ومن هنا أيضاً كان استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، في سياسات تستهدف قطيعة مع تراث يعتبره رجعياً بهدف الوصل مع تراث حضاري حديث.

تتجاهل الحركات الإسلامية أنّ صندوق الاقتراع ليس سوى آلية وأنّ جوهر الديمقراطية مرتبط بالليبرالية وتوأمها العلمانية

سعي الحركات الإسلامية لتقليد التجربة التركية، وعدم محاولة استلهام التجارب الأوروبية أو اليابانية، يشير إلى أنّ هذه الحركات ما تزال تربط عامل النهضة بشرط أيديولوجي لذلك تعطي الأولوية لهذا الشرط وتقدمه على بقية الشروط الفكرية والموضوعية، وهو ما يجعلنا نشير ولو بشكل سريع إلى أهمية استبعاد الأيديولوجيا كشرط لضمان نجاح تجربة النهضة من خلال مثال التجربة الماليزية، فقد حدد مهاتير محمد أولوية ماليزيا النهضوية من خلال عبارته الشهيرة: "عندما أردنا الصلاة توجهنا إلى مكة وعندما أردنا التقنية توجهنا إلى اليابان"، هذه العبارة تلخص تجربة ماليزيا النهضوية وتحدد أولوياتها التي اقتضت نزع الأيديولوجيا عن مفهوم التقدم، لمهاتير محمد أسبابه بعقد المقارنة مع اليابان لا مع الغرب، فمن جهة هو يريد تجاوز إشكاليات المقارنة مع الغرب، ومن جهة أخرى يريد القول بوجود أوجه تشابه بين ظروف البلدين.

اقرأ أيضاً: هل سيتمكن أردوغان من تحقيق ما يريده في ألمانيا؟

تجربة الإخوان في الحكم قصيرة، لكن من الممكن تقييم التجارب الإسلامية بناءً على معطيات برامجهم الانتخابية وسياساتهم في الميادين الاجتماعية والثقافية، والأهم ليس التقييم من قبل الخصوم، ولكن التقييم الشعبي لتجربة الإسلاميين في الحكم فالشعب وحده هو من يخوِّل استمرارهم في الحكم أو لا، والخلاصة أنّه لا يمكن شفاء الشعوب العربية من مطلب "الحكم الإسلامي" ما لم تتجرع مرارته، أو تأكيد هذا المطلب إن ذاقت حلاوته، صحيح أنّ مآلات أغلب الثورات العربية يؤشر إلى ردود عكسية تتجه إلى مزيد من النكوص التاريخي، لكن التقدم مرهون بقدرة المجتمعات العربية على الانتقال إلى بناء أنظمة حكم ديمقراطية وإشاعة ثقافة عقلانية وتخليص الفرد من قهر السلطة السياسية والدينية وسطوتهما وتحريره بمزيد من الخلق والإبداع.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية