ساطع الحصري: فيلسوف القومية العربية

ساطع الحصري: فيلسوف القومية العربية


17/01/2018

ظهر اسم ساطع الحصري في خضم التفاعلات السياسية والأيديولوجية التي كانت تعج بها الساحة العربية خلال النصف الأول من القرن الماضي، ليتخذ لنفسه مساراً فكريا خاصاً يقوم على بعث المشاعر القومية والتنظير الأيديولوجي لفكرتها، فكانت معظم مؤلفاته مشدودة إلى الهم الوحدوي حتى عرف بفيلسوف القومية العربية.
وقد تحدث بنفسه عن كتاباته، حول القومية، بالقول إنها تنقسم إلى نوعين: نوع يعرض ويشرح "مسائل القومية ونظرياتها عرضاً مباشراً"، ونوع يبحث "المسائل المذكورة، عن طريق انتقاد الآراء الخاطئة التي تنشر في هذا المضمار".  وأدرج في النوع الأول كتابيه "محاضرات في نشوء الفكرة القومية" و"ماهي القومية؟" في حين جعل من النوع الثاني كتابيه "العروبة بين دعاتها ومعارضيها" و"آراء وأحاديث في القومية العربية".

العظماء في بعض الأمور قد يتساوون مع سواد الناس في كثير من الأمور وقد ينزلقون إلى أخطاء فادحة

اسمه الكامل ساطع بن محمد هلال الحصري، ولد بصنعاء، عام 1879، وتوفي ببغداد، عام 1968، وبين التاريخين، كرّس حياته في الكتابة والتأليف التي بدأها بتركيا، حيث درس بمعاهدها وتسلق في مراتب إداراتها وشغل عدداً من المهام الرسمية، وفي سنة 1919 انتقل إلى الاستقرار بسوريا وبنى علاقات قوية مع نخبتها الثقافية والسياسية، حيث تولى مسؤولية وزارة التعليم، كما انتقل إلى العراق وشغل مهام تربوية وتعليمية من أهمها منصب مساعد لوزير المعارف.
القومية العلمانية
كانت السياسة التربوية التي انشغل بها الحصري في حياته مطية لنشر معتقداته الفكرية، وفي هذا السياق ترى الباحثة الروسية "تاتيانا تيخونوفا" في كتابها "ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي" أنّ مغزى سياسته التربوية، التي تأثر فيها بكبار المفكرين الغربيين من أمثال لوتورنو، سبنسر، كونت، رينان وغيرهم قد ارتكزت على "مجابهة الأهداف التقليدية للتعليم العثماني (تربية مشاعر الولاء للسلطة وترسيخ كليشيه ثقافي معين)"، وذلك من خلال تطوير خصال التلميذ الشخصية، وتنمية قدرته على التفكير الذاتي المستقل، وتقوية روح المبادرة عنده. و"على هذا الطريق تبرز –في رأيه- أهمية دراسة العلوم الطبيعية والدقيقة، وفسح المجال لمبادرة التلاميذ، والتربية من خلال العمل والرياضة البدنية"، فالحصري يصدر في اختياراته البيداغوجية عن قناعات مخالفة لما كان يكرسه حينها نمط التعليم السائد والمرتكز خصوصاً على الثقافة الدينية.

الأطروحة القومية في فكر الحصري تتأسس على البعد اللغوي أساساً واستبعاد العامل الديني

فالأطروحة القومية في فكر الحصري تتأسس على البعد اللغوي أساساً واستبعاد العامل الديني، بعكس الخيار الذي تبلور لدى رواد السلفية من دعاة "الجامعة الإسلامية"، مما تسبّب له في موجة من النقد والنكير من التيار الإسلامي وعلماء الشريعة. لذلك، اعتبرته الكاتبة الروسية "تاتيانا تيخونوفا" في كتابها السابق الذكر بأنه "صاحب أول نظرية علمانية متكاملة في القومية العربية"، وأنه "المنور والعالم العربي الفذ" الذي أرسى "التيار العلماني في الفكر القومي العربي".
فالحصري يؤكد على أولوية البعد الوطني والقومي على حساب البعد الديني في نسج الروابط بين أبناء البلد الواحد، وهو ما توقف عنده أثناء حديثه عن مصر وضرورة تقدم الرابطة الوطنية والقومية فيها "على الرابطة الدينية في الشؤون السياسية". وبالتالي، لم يعد أي داع لاعتبار الاختلافات العرقية أيضا، فالمصريون يستمدون عروبتهم من اللغة التي بها يتحدثون ويتفاهمون، وبالتالي "لا مبرر للتساؤل فيما إذا كانوا  "عرباً جنساً ودماً"، لأن من الحقائق الثابتة علمياً أنه لا يوجد على الأرض "أمة" ينحدر جميع أفرادها من أصل واحد، ويتحدون بالدم".
المفكر العربي ساطع الحصري

العروبة والواقع العربي
ارتبط اسمه بالعروبة والقومية، حيث يعدّ من أوائل وكبار المثقفين العرب إبداعاً وتنظيراً في مشروعها، وراهن على "إيقاظ الشعور بالقومية العربية، وبث الإيمان بوحدة هذه الأمة" لتحقيق الهدف الوحدوي فعندما "يستيقظ هذا الشعور تمام اليقظة، وعندما ينتشر هذا الإيمان ويرسخ في النفوس تمام الرسوخ" حينها سوف "تتوضح السبل، وتتمهد الطرق، أمام الوحدة العربية... وتزول العقبات وتنهار العوائق التي تعترضها... بكل سهولة".
وعمل الحصري، في سياق التأسيس النظري لمشروعه، على تصحيح عدد من المفاهيم المفتاحية، من ذلك تعريفه للبلاد العربية، أو بلاد العرب بأنها "ليست الجزيرة العربية وحدها، كما يزعم البعض، ولكنها جميع البلاد التي يتكلم أهاليها باللغة العربية"، فهي تشمل تلك المساحة الممتدة "من جبال زاغروس في الشرق، إلى المحيط الاطلسي في الغرب، ومن شواطئ البحر الأبيض وهضاب الأناضول في الشمال، إلى المحيط الهندي ومنابع النيل والصحراء الكبرى في الجنوب"، كما عرّف الإنسان العربي بأنه "كل من ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم باللغة العربية" بغض النظر عن اسم الدولة التي يحمل جنسيتها  و"مهما كانت الديانة التي يدين بها، والمذهب الذي ينتمي إليه، ومهما كان أصله ونسبه، وتاريخ حياة أسرته".

المشروع الوحدوي العربي اقترن في تصور الحصري بمواجهة مشروع الهيمنة الإمبريالية الغربية

إن المشروع الوحدوي العربي اقترن في تصور الحصري بمواجهة مشروع الهيمنة الإمبريالية الغربية، ومن تم معارضته للنماذج "الدولتية" القائمة في العالم العربي غداة مرحلة الاستقلال، فهو يعتبر الدول القطرية وليدة المؤامرات الغربية وتجسيداً لمقتضيات اتفاقية سايكس بيكو؛ فالحدود الفاصلة بين الدول العربية "لم تتقرر وفق مصالح البلاد وسكانها، وإنما تقررت بعد المساومات والمناورات الطويلة التي جرت بين الدول المستعمرة، ضماناً لمصالحها"، كما اعتبر اختلاف النظم الإدارية والتشريعية والاقتصادية والسياسية بين الدول القائمة في الرقعة العربية من "مواريث عهود الاحتلال"، وبالتالي تحولت إلى أدوات التحكم الإمبريالي.
وتماشياً مع هذا الطرح دعا إلى استبعاد عبارة "الشرق الأوسط" من تداول المثقفين العرب مقابل عبارة "العالم العربي"، لأن فكرة الشرق الأوسط من إنتاج سياسة الدول الإمبريالية، ولأنها "تترك قسماً مهماً من البلاد العربية خارج نطاقها" وتربط في المقابل "قسماً آخر من البلاد العربية ببلاد غير عربية بتاتاً". ولذلك يجب علينا أن نستبعد فكرة "الشرق الأوسط" من تفكيرنا اليومي، ونمسك بفكرة "العالم العربي"، لأنها أقدر على ترجمة واقعنا وطموحاتنا.
رفض المنطق الرياضي
عبر الحصري عن رفضه لموقف سعد زغلول من الوحدة العربية، الذي نقله عنه عبد الرحمن عزام، وسخريته من فكرتها لكونها لن تكون إلا تجميعا للأصفار، بتساؤله "إذا جمعت صفراً إلى صفر، فصفر، ماذا تكون النتيجة؟"؛ فالحصري ينقض هذه المقولة التي استمرت "تتردد على الألسن والأقلام"، ويمج المنطق الرياضي في تناول القضايا المصيرية للأمة العربية.
وهو على الرغم من تقديره لشخص سعد زغلول والاعتراف له "بالسلطة المعنوية"، فهو يؤكد على أن العظماء من أضرابه "إذا أظهروا عبقرية خارقة في بعض الأمور، قد يتساوون مع سواد الناس في كثير من الأمور، حتى أنهم قد ينزلقون إلى أخطاء فادحة أيضاً في بعض الأحيان". فسعد زغلول، يقول الحصري، "كان على خطأ عظيم عندما اعتبر الشعوب العربية كلها أصفاراً في أصفار"، إذ كان يمكنه أن يقول: "لنا من مشاكلنا الخاصة ما يستنفد كل قوانا، فلا يسوغ لنا أن نفكر الآن في قضايا سائر الشعوب العربية"، وهو في تأكيده على رفض كلمة زغلول يردف أن خطأها ازداد شدة عن لحظة الإفصاح عنها، وصارت أكثر بعداً عن الحقيقة في زمننا، لأن أحوال البلاد العربية تغيرت كثيراً.

حاول الحصري جاهدا تعزيز طرحه باستحضار التجربة الوحدوية الناجحة للولايات الألمانية والإيطالية

كما أضاف في توضيح رده على موقف زغلول أن "الاجتماع لا يشبه الجمع، وإن كان يشاركه في الاشتقاق اللغوي"، لأن الاجتماع، بالمعنى العلمي للكلمة، لا يعني فقط الانضمام المجرد، بل يتضمن "تفاعلا" بين الافراد، وهو ما يولد قوى جديدة وصفات جديدة. وبالتالي، فإن تشبيه الأمور الاجتماعية بعمليات الجمع والضرب الحسابية يصبح نوعا من الهرطقة العلمية. فالحياة الاجتماعية –يؤكد الحصري- لا تعني "جمع فرد إلى فرد"، بل تعني حصول "تفاعل بين مجموعة من الأفراد، تفاعل حيوي خلاق، يؤدي إلى تكوين "كائن اجتماعي" وإلى توليد قوى جديدة تختلف عما كان للأفراد من قوى على الانفراد".
وحاول الحصري جاهدا تعزيز طرحه باستحضار التجربة الوحدوية الناجحة للولايات الألمانية والإيطالية، لينتهي بتخطيء من يتعامل مع قضايا الوحدة العربية بأعمال حسابية؛ فالاتحاد، بحسبه، يولد القوة لكن ليس فقط عن طريق جمع القوى، بل أيضا بواسطة "ايجاد حياة جديدة وأوضاع جديدة تولد قوى جديدة، تفوق مجموع القوى المتفرقة بآلاف الدرجات".

الصفحة الرئيسية