المثقفون "الزعران" في الأدب العربي

المثقفون "الزعران" في الأدب العربي


26/03/2019

تصاعد اللّغط مؤخّراً، عن اتساع رقعة الفهلوة، في الأوساط الثقافية العربية، إلى حد يغري باستعادة أصول هذه الظاهرة في الموروث العربي. والتي تمثل (مقامات الهمذاني) و(مقامات الحريري) بوجه خاص، المنجم الأوفر لها من جهة، والإطار الأكثر إثارة للتساؤلات والمفارقات من جهة ثانية؛ فقد درج الباحثون التقليديون على القول بأنّ الدافع الرئيس لإنشاء المقامات هو الحرص على حفز الناشئة على إتقان فنون اللغة العربية، مع أنّ المتخصصين في أدب المقامات يدركون أنّها أبعد ما تكون عن ذلك، نظراً لأنّ مطالعتها تتطلّب الاستعانة بالعديد من المعاجم حتى يستوي الفهم الحرفي لها في الحد الأدنى، فما بالك بفهم ما تنطوي عليه من ألاعيب وإجراءات واستعارات وتوريات لغوية قد يستغلق بعضها على الراسخين في العالم.

أصبح النثر ديوان الثقافة العربية في أواخر القرن 4 الهجري ربما لأن المتنبي رفع سقفاً للشعر لم يتم تجاوزه

لكن المفارقة الأكثر استرعاء لانتباه الباحث الرصين، تتمثل في اشتمال المقامات على الإطار الشكلاني الأرفع في الأدب العربي من حيث التصنع والتنميق، والمضمون السلوكي الأوضع في هذا الأدب من حيث الحرص على تصوير استراتيجيات النصب والاحتيال، لدى طائفة من المثقفين الأفّاقين الجوّالين الذين لا يتورعون عن ابتزاز المأكل والمشرب والملبس وصرّة المال من الناس، بفصاحتهم وسرعة بديهتهم وخفة ظلّهم ومعارفهم الواسعة.
والغريب في أمر هؤلاء المثقفين "الزعران" الذين اصطلح على تسميتهم بـ(المُكْدين) أو (الساسانيين) أن يستأثروا بعناية كاتبين رفيعي المستوى مثل؛ الهمذاني والحريري. لكن الأغرب أن يستأثروا بإعجاب الوزراء والأمراء والملوك والخلفاء، إلى درجة أنّ وزيراً ومفكراً وناقداً وأديباً مثل (الصاحب بن عبّاد)، قد كاد يخرج عن طوره وهو يستمع إلى القصيدة الساسانية التي أنشأها (أبو دُلُف الخزرجي)، لتصوير أحوال وأساليب ومصطلحات المثقفين الزعران في القرن الرابع الهجري، فأجزل مكافأته عليها. علمًا بأنّ الخزرجي هذا كان من أبرز المثقفين الصعاليك، وقد خلّده صديقه الهمذاني في مقاماته باسم مستعار هو (أبو الفتح الإسكندري)!

اقرأ أيضاً: صلابة الحداثيين العرب ورخاوة من بعدهم
وإذا كانت هذه المفارقة الثقافية المشرقية جديرة بأن تستدعي إلى أذهاننا نظيرتها المغربية، وأعني بها (الموشّحات الأندلسية) التي استأثرت أيضاً بإعجاب وتكتّم الطبقة الأرستقراطية رغم أصولها وأساليبها الشعبية، فإنّ التساؤل مجدّداً عن الوظيفة التي أدتها هذه المقامات شكلاً ومضموناً، سيظل الأجدر بالإجابة دون ريب، وخاصة بعد أن أبرزنا في صدر هذه المقالة، تهافت القول بأنّها قد أنشئت أصلاً لغايات تعليمية بحتة خاصة بالناشئة وصغار المتعلمين.
سأغامر بالقول - في ضوء اطلاعي على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القرنين الرابع والخامس الهجريين- بأنّ هذه المقامات قد اضطلعت شكلاً ومضموناً، بتأدية ثلاث وظائف أساسية وهي:
أولاً: التماهي من حيث الأسلوب مع متطلّبات ومواصفات الطبقة الأرستقراطية التي وصلت حد الإشباع التام على صعيد الشكليات، فترسّخ التصنع والتحذلق والتنميق والتبهرج، حتى صار الشكل مقدّماً على المضمون، بل حتى صار الشكل هو المضمون ذاته. وقد تكررت مثائل هذا التماهي في المَلَكِيات الأوروبية التي بلغت الدرجة نفسها من الإشباع، وبوجه خاص الملكيات الإسبانية والفرنسية الإنجليزية.

ارتبط النثر ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسة السياسية نظراً لحاجة هذه المؤسسة إلى من يعبّر عن مضمونها الشكلاني المعقّد

ثانياً: التسرية والترفيه عن نفوس أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين بلغوا من الاستحواذ والثراء والإمتاع الغرائزي حدًّا تجاوز المعتاد من الإشباع المطلوب، فراحوا يتردّون في حالات من الفراغ القاتل والضجر الوجودي، فجاءَت هذه المقامات التي تمور بتصوير مغامرات هؤلاء المثقفين "الزعران"، في العديد من المدن والبلدان، فضلاً عما تشتمل عليه من تفاصيل الحياة الشعبية واليومية، لتمدّهم بقسط من الإثارة التي تخلو منها أنماط حياتهم الرتيبة المملة المتشابهة، وعلى نحو يذكِّر بالوظيفة التي اضطلع بها المسرح الأوروبي في عصر النهضة.
ثالثاً: أشبعت شخصيتا (أبو الفتح الاسكندري) و(أبو زيد السروجي) في الوقت نفسه، حاجة أبناء الطبقة الأوسع، وأعني بها الطبقة الشعبية، إلى أبطال ومغامرين ينتمون لهم، ويمثلون توقهم إلى (الانتقام المعنوي) من هذه الأقلية الأرستقراطية التي تتحكم بمصائرهم وأرزاقهم. ولم يدّخر أبناء هذه الطبقة الشعبية وسعاً للتعبير عن إعجابهم بصفات هذين الأفّاقين المحتالين. فكأننا أمام نسختين محدّثتين لعروة بن الورد والشنفرى في العصر الجاهلي، أو أمام نسختين مبكّرتين لروبن هود وأرسين لوبين في العصر الحديث.

اقرأ أيضاً: الأدب العربي المغدور
وإذا صح ما زعمناه آنفاً - وهو لا ينفي على أي حال إمكانية التنبه لإمكانية توظيف المقامات لغايات تعليمية، فإنّ من الضرورة بمكان التذكير بحقيقة أنّ النثر وليس الشعر قد أصبح ديوان الثقافة العربية بدءاً من أواخر القرن الرابع الهجري – ربما لأن المتنبي قد رفع سقفاً للشعر لم يتم تجاوزه- وأنّ النثر قد ارتبط ارتباطًا وثيقاً بالمؤسسة السياسية، نظراً لحاجة هذه المؤسسة إلى من يعبّر عن مضمونها الشكلاني المعقّد، وأن نموذج البطل الملحمي الذي طالما اضطلع الشعر بإبرازه وأسطرته، قد أخلى مكانه للبطل الهامشي الواقعي الذي راح النثر يستفيض في ترسيخه وترويجه. ولست بحاجة بعد هذا كلِّه للتذكير أيضاً بأنّ الزمن العربي الراهن يكاد يشهد الظروف ذاتها شكلاً ومضمونًا؛ فالشعر في حالة احتضار إلى درجة أنّ كثيراً من الشعراء قد آثروا الانتقال إلى الرواية التي تكاد تتمحور حول المثقفين الأوغاد أو المناضلين الأوغاد أو العشاق الأوغاد!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية