المثقف إذ ينسحب تاركاً الساحة للتفاهة وللتشدّد والإرهاب

المثقف

المثقف إذ ينسحب تاركاً الساحة للتفاهة وللتشدّد والإرهاب


18/04/2019

خرج أغلب المتورطين في الأحداث الإرهابية التي هزت مدينة الدار البيضاء بالمغرب، في 16 أيار (مايو) 2003، وأسفرت عن مقتل 45 شخصاً، من بينهم 11 انتحارياً، من الأحياءِ الهامشية.

اقرأ أيضاً: المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟
كانوا يحضّرون لجلسات دينية تقام بالبيوت أو المساجد، يقول خالد، الذي يعيش في حي سيدي مومن، الذي كان ضمن شباب كثيرين تحلقوا حول الفكرِ المتطرف خلال تلك الفترة. يذكر خالد لـ "حفريات": "كان المتشددون يلاحقوننا بعد الصلاة، ويدعوننا إلى جلسات دينية، ويذهبون أيضاً إلى الأمكنة التي يجتمع فيها المدمنون والمنحرفون في الحيّ، ما أزال أتذكر كيف تحول عدد كبير من شباب الحي من منحرفين إلى متشددين".
 غياب المثقفين أفسح المجال للخطاب المتطرف‎

"كان المتشددون قريبين منا"
لم يكن المتشددون يجدون أيّة صعوبة في التواصل مع الشباب، وتعبئتهم بالأفكار المتطرفة، وبحسب خالد: "لا صوت يعلو آنذاك على صوت الخطاب المتطرف، في حين غاب خطاب العقل".
وجد المتشددون الساحة فارغة، والشباب هشّاً اجتماعياً يعيش في براثن الفقر، ويفتقدون للقدرة على تحليل خطابهم.

يقدم المفكر إدوارد سعيد بعض السّمات الدّالة على المثقف ويرى أنّه هو "الشخص الذي يواجه القوّة بخطاب الحقّ"

"غابت عن الساحة الأصوات المنادية بنقد الخطاب المتطرف، وحتى إن وجدت كانت داخل الأروقة الثقافية، حكراً على نخبة معينة، فالانتقال إلى مركز المدينة الدار البيضاء وحضور لقاء ثقافي كان مكلفاً بالنسبة إلينا، مقارنة بالذهاب إلى المسجد وحضور الجلسات الدينية، كان المتشددون قريبين منا، أما النخب المثقفة فحضور لقاءاتها يتطلب جهداً، وأن يكون الشاب مثقفاً ليفهم خطاباتهم ويستوعبها"، يقول خالد.
فهل ساهم غياب المثقفين عن الساحة في فسح المجال للمتطرفين؟ وهل استغلّ المتطرفون هذه الفجوة بين المثقفين والشارع المغربي؟ ولماذا نجح المتشددون فيما فشل فيه المثقفون؟ وهل عجز المثقف عن إيجاد خطاب لمواجهة الفكر التكفيري الرافض للآخر؟
تحوّلات المجتمع وتأثيرها على المثقف
يقول الكاتب المغربي سعيد ناشيد إنّ "جوهر مشاكل المجتمع المغربي ثقافية، وتتعلق بالتخلف والتأخر، والقيم الأساسية التي تحدد الموقف من المرأة والأقليات وقيمة العمل وثقافة الريع وثقافة التواكل، وضعف القدرة على تفكير، وضعف القدرة على الإبداع، وبالجملة ضعف القدرة على الحياة، من هنا فالإصلاح الثقافي مدخل أساسي للتقدم وللنهضة وللحداثة، وهنا أيضاً يكمن الدور الأساسي للمثقف، لكن عن أيّ مثقف نتكلم؟ وجب التحديد".  

ناشيد: جوهر مشاكل المجتمع المغربي ثقافية، وتتعلق بالتخلف والتأخر
ويضيف ناشد، في تصريح لـ "حفريات" بأنّ "الدور الأساسي للمثقف يكمن في دوره بالمساهمة في التنوير العمومي وتنمية الذكاء؛ لأنّ تنمية الذكاء معطى أساسي للنهوض والتقدم، بيد أنّ الحاصل عندنا هو أنّ المثقف منسحب على وجه العموم من هذه المهام".

ناشيد: غابت عن الساحة الأصوات الناقدة للخطاب المتطرف، وحتى إن وجدت كانت داخل الأروقة الثقافية وحكراً على نخبة معينة

ويرى الباحث المغربي أنّ التحولات التي مسّت المجتمع، وانتقاله إلى مرحلة مختلفة عن السابق، أثرت في المثقف ودوره: "انتقلنا إلى مرحلة لم تعد فيها لآليات التواصل العمودي، التلفاز والإذاعة والصحيفة الورقية، ومنبر خطيب الجمعة، أيّ دور أساسي، يعني أنّ هناك من ينتج الخطاب بشكل مطلق، وهناك من يتلقى الخطاب بشكل مطلق؛ لقد انتقلنا إلى فعالية آليات التواصل الأفقي".
وساهمت منتديات التواصل الاجتماعي في الدخول إلى مرحلة جديدة، يصفها ناشيد بأنها "أثرت في عقول الشباب، وفرضت إنتاج أسلوب جديد، وآليات جديدة في التواصل والتخاطب والتفاعل، وهناك عدة أساليب لم تعد تناسب هذا العقل الذي أنتجته آليات التواصل الاجتماعي".
تفوّق المتطرفين
ويتابع مؤلف "الحداثة والقرآن": "المثقف عموماً لم يكن لديه ما يكفي من المرونة، لينتقل إلى هذه المرحلة، وأيضاً هناك فرق كبير بينه وبين الأجيال الصاعدة".
ودعا سعيد ناشيد المثقف إلى أن يكون في مستوى التحول التاريخي للمفاهيم، وأيضاً إلى "ضرورة تغيير اللغة وتغيير الفعالية والدينامية، وفهم حاجيات الأجيال الحالية التي لديها أساليب خاصة".

اقرأ أيضاً: المثقف والسلطة.. هل ما يزال الرقيب يتحسس مسدسه؟
وهناك في نظر الكاتب المغربي الكثير من النماذج التي تحاول أن تملأ هذا الفراغ، "وهي نماذج مرتبطة بالتفاهة أو بالتطرف بشكل يهدّد الأمن والاستقرار"، مشدداً على ضرورة عودة المثقف لدوره في تنوير العمومي وتثقيف الشعبي، معتبراً أنّ الوظيفة الأصلية للمثقف تكمن في "أن يكون في مستوى رهان المرحلة، وإلا سيبقى المجال فارغاً؛ للتفاهة والتطرف والإرهاب"، على حدّ تعبيره.
دور المثقف، بحسب ناشد، توجيه النقاش العمومي نحو القضايا العمومية، كي لا يبقى المجتمع عرضة للتفاهة، معتبراً أنّ مشاريع التفاهة لا تخدم سوى مشاريع الأصوليات طالما الطبيعة تخشى الفراغ، و"طالما الرهان على التفاهة فإنّ المتطرفين والمتشددين سيتفوقون علينا".
ناشيد يدعو إلى الجدية، "وهنا دور المثقف في توجيه النقاش، بدلاً من تمييعه وتوجيهه لمناقشة أمور غير مهمة، ليست أساسية بالنسبة إلى مجتمعاتنا، وهذا ما تستفيد منه التيارات الأصولية؛ لأنها ستكون الخاسر الأكبر إذا ناقشنا القضايا الحقيقية".
دور المثقف يتجلى في تعاونه مع المجتمع المدني، ليكون في مستوى رهان الإصلاح الثقافي

المجتمع المدني في حاجة إلى المثقف
وأشار كاتب "التداوي بالفلسفة" إلى أنّ "دور المثقف يتجلى في تعاونه مع المجتمع المدني، ليكون في مستوى رهان الإصلاح الثقافي، الذي يتضمن مستويات وجوانب كثيرة، أبرزها: الإصلاح اللغوي والديني والتربوي، وإصلاح العقل هذه كلها مظاهر للإصلاح".
من جانبه، أكّد رشيد محضار، رئيس جمعية "التنمية والمواطنة"، والذي يعمل عن قرب مع شباب الحي الحسني، في ضواحي الدار البيضاء، أنّ "المثقف المغربي منعزل عن المجتمع، ولا ينزل إلى الميدان ليحاور الشباب، كما كان يفعل المفكر المغربي محمد عابد الجابري".

اقرأ أيضاً: المثقفون العراقيون.. قتلة ومقتولون
وأضاف في حديثه لـ "حفريات": "نحن في حاجة التقرب من نبض المجتمع"، فوظيفة المثقف المغربي هي "النزول إلى الشارع، والتواصل مع الناس، والاستماع إليهم"، مضيفاً: "أصبحنا نعاني من أزمة ثقافة، وغياب المثقفين، الذين حلّ محلهم الرقاة الشرعيون والخطباء".
ورغم الصّعوبة التي تعتري تحديد مفهوم المثقف، يقدم المفكر إدوارد سعيد بعض السّمات الدّالة عليه، ويرى أنّه هو "الشخص الذي يواجه القوّة بخطاب الحقّ"، ويصرّ على أنَّ وظيفته هي أن يجبر نفسه، ومريديه، على الحقيقة، وأنّ المثقف "المقاوم"، يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة، بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية، التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة.
"المثقف يمثل المسكوت عنه"
يرى إدوارد سعيد، في كتابه "المثقف والسلطة"؛ أنّ "حقيقة المثقف الأساسية أنَّه فريد يتمتع بموهبة خاصة، يستطيع من خلالها حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر معينة، فلسفة ما، أو موقف ما".
"إنَّ المثقَّف الحقَّ هو ذلك الذي يمثِّل المسكوت عنه، وكلَّ أمر مصيره النسيان، التجاهل والإخفاء، لأنَّ المثقَّف الحقَّ لا يمثل أحداً؛ بل يمثّل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، فهو يمثل نبض الجماهير، وهو الذي لا يقبل أبداً بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة"، كما يذكر إدوارد سعيد في كتابه.
خذلان المثقف للشارع
وفي سياق متصل، يرى عبد الله آل ربح، أستاذ علم الاجتماع الديني بجامعة "جراند فالي ستيت" بالولايات المتحدة؛ أنّ القطيعة بين المثقف والشارع ناجمة عن شعور الشارع بخذلان المثقفين له، وأنّ الوضع ليس خاصاً بالمغرب فقط؛ بل تعيشه أغلب البلدان العربية".
ويعتبر عبد الله آل ربح، في تصريحه لـ "حفريات" أنّ "المثقف يعيش وضعاً صعباً في العالم العربي، وشعور الشارع بالخيبة وخذلان المثقفين له بعد الربيع العربي؛ لأنّ المثقف أصبح مجرد أداة ويتكلم من برج عالٍ".

اقرأ أيضاً: موت المثقف العمومي: هل يمثّل المثقف الناس حقاً؟
ويشعر الشارع العربي بأنّ "المثقف يتحين الفرصة لفعل عكس خطاباته، ويبيع لهم الوهم، وأنه لا يعيش مع الناس، ولا يهتم لهمومهم، والربيع العربي زاد الفجوة بين المثقف والشارع"، كما يقول آل ربح الذي يضيف "المثقف غير متحمس للتغيير، ويدرك أنه لن يستفيد شيئاً؛ لذلك لا يريد أن يخسر مكتسباته، هناك من يفضل الصمت، وينأى بنفسه، وهناك من يختار خدمة أجندة معينة".
ويذكّر أستاذ علم الاجتماع بأنّ "الخطاب المتطرف يستفيد من هذا الفراغ، ويبحث عن مكانه واستقطاب أكبر عدد من الناس، وهو خيار مشروع؛ لأنّه يرغب في استقطاب أكبر عدد من الأفراد بالمجموعة. اللوم اليوم على من فرّط في حقه لصالح هذه الجماعة، كما حدث في مصر خلال فترة وصول الإخوان المسلمين للحكم، واستفادتهم من الفراغ الكائن آنذاك".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية