الجذور الليبرالية للأصلانية: تاريخ من كره الأجانب

الجذور الليبرالية للأصلانية: تاريخ من كره الأجانب

الجذور الليبرالية للأصلانية: تاريخ من كره الأجانب


23/05/2019

ترجمة: كريم محمد


منذ انتخاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تكهّن المعلقون السياسيون بشأن الجذور الفكرية والتاريخية لـ "اليمين المتطرف"، وهي الحركة المرتبطة، بصورة فضفاضة، بالقوميين والأصلانيين والشعبويين اليمينيين البيض، الذين أعادوا السياسة العنصرية والشعور المناهض للهجرة إلى الرأي العام، إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل منذ الستينيات، كما ظهرت أيضاً حركات سياسية مماثلة، شعبوية وقومية ومعارضة للهجرة، في أوروبا، بما في ذلك الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب الحرية في هولندا، والحزب الألماني المسمى "البديل من أجل ألمانيا".

تشير الدلائل إلى أنّ الغالبية العظمى من المهاجرين من البلدان الإسلامية يندمجون بشكل جيد في الولايات المتحدة

حاول المحررون في الولايات المتحدة الذين يسعون للكشف عن جذور اليمين المتطرف أن يربطوا الشخصيات السياسية الشعبوية، مثل: ترامب، والمستشار السياسي المخلوع مؤخراً في البيت الأبيض، ستيف بانون (الذي وصف إمبراطوريته الإعلامية بـ"ريتبارت" باعتبارها "منصة لليمين المتطرف)، بمفكرين يمينيين متطرفين، مثل: الفاشي الإيطالي جوليوس إيفولا، والوحدوي الفرنسي تشارلز موراس.

فمثلاً؛ يصوّر الصحفي جوشوا جرين، في كتابه الجديد "ستيف بانون"، باعتباره متأثراً برؤية رينيه غينون، الصوفي الباطني والمحافظ التقليدوي.

 ستيف بانون

تتناسب هذه الصلات مع سردية معينة حول اليمين القومي الصاعد، وهي السردية التي تفترض أنّ ترامب، وأولئك الذين يحبونه، ليسوا فقط سلطويين بعمق؛ بل أيضاً خارجين من تقليد فكري دخيل على الغرب الليبرالي، غير أنّ هذه السردية مخطئة؛ حيث إنّ ترامب وآخرين، محاولين حماية الديمقراطية الليبرالية ضدّ التهديد المظنون من القيم والعادات الأجنبية، لا يستمدون من إيفولا، وإنما من سلالة فكر ليبرالي، ومن الأصلانية الليبرالية، والتي ترجع أصولها إلى جون ستيوارت ميل، وألكسيس دي توكفيل، ومن القادة السياسيين الأمريكيين الأوائل، مثل: ألكسندر هاميلتون، وجورج واشنطن.

اقرأ أيضاً: ربيع دمشق: ليبرالية داخل سياج السلطة

ورغم السلوكات الغريبة العنيفة للتفوقيين البيض في شارلوتسفيل، فإنّ القلق الشعبوي الأوسع نطاقاً بشأن الهجرة لا يمثل سبكاً مفاجئاً للعناصر الفاشية في الفكر السياسي المعاصر. بالأحرى؛ هو استمرار لتقليد أصلاني ليبرالي كان قائماً لعدة قرون، ويناجي أعمق مخاوفنا بشأن هشاشة الديمقراطية الليبرالية.

الاستثناء من أجل الديمقراطية

عام 2006؛ نشر الفيلسوف البريطاني آدم تيبل (Adam Tebble) ورقة نبوئية، بعنوان "الاستبعاد من أجل الديمقراطية"، يصف فيها الانبثاق البطيء لما رأى أنّه نسل جديد لليبرالية، وقد استندت ملاحظات تيبل إلى تزايد شعبية الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا بين الدوائر التي لا ترتبط عادة باليمين، بمن في ذلك .. والشباب، وبعض الأقليات الدينية، مثل: الهندوس والسيخيين واليهود الأرثوذكس.

والحال؛ أنه بسبب هذه التناقضات السوسيولوجية الواضحة، اعتقد تبيل بظهور حركة سياسية جديدة أطلق عليها اسم "الليبرالية الهووية"، وهي الحركة التي سعت إلى استخدام سياسات اليمين (الاستيعاب، والحدود القوية، ومعارضة التعددية الثقافية، والعداء للإسلام) للدفاع عن الهوية الليبرالية للأمة ضدّ الأجانب الذين يفترض أنهم لا يتقاسمون قيم الأمة.

 الفيلسوف البريطاني آدم تيبل

وفي أوروبا؛ ابتكرت هذه المقاربة على يد من بيم فورتوين، وهو سوسيولوجي مثلي وصل إلى مكانة بارزة، بعد أحداث 11 سبتمبر، من خلال مناصرته لمنصة شعبوية لتقييد الهجرة، والليبرالية الاجتماعية، ..، وبالنسبة إلى تيبل؛ كان الهدف من الليبرالية الهووية بسيطاً لكنه متناقض: "الاستبعاد من أجل الديمقراطية".

انفجر الشكّ العام في الهجرة بعد قضية شيز وهي نزاع دبلوماسي بين الولايات المتحدة وفرنسا بين 1797-1798

لكن، رغم أنّ الليبرالية الهووية قد تبدو جديدة، إلا أنّ الليبرالية، في الحقيقة، رعت دائماً نزعتين متميزتين من الفكر؛ النزعة الأولى هي الدولانية الليبرالية الأكثر طوبوية، وهي النزعة التي نعرفها ونألفها، أي تلك الفكرة القائلة إنّ جميع الأمم في كلّ مكان لديها إمكانية الديمقراطية في أعماقها، وإن هذه الإمكانية ينبغي أن تصقلها السلطات الليبرالية القائمة، وقد دوفع عن هذه المدرسة من قبل الاقتصادي الفرنسي، فريدريك باستيات، الذي بشّر بالأصول الطبيعية والإلهية للحرية الاقتصادية والاجتماعية، رغم جذورها، يمكن الحجاج بأنها موجودة في مقترح الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، في أواخر القرن الثامن عشر لاتحاد الأمم الليبرالية والمحبة للسلام.

وأضحت الدولانية الليبرالية، خلال القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حجر الزاوية الفلسفي للسياسة الخارجية الأنجلو-أمريكية، وذلك أول الأمر برعاية رئيس الوزراء البريطاني، لورد بالمرستون، ثم على يد الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، وفي الآونة الأخيرة؛ وصلت الدولانية الليبرالية ذروة التأثير، في ظلّ التبشيرية الديمقراطية للرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، اللذين سعيا إلى فرض الحرية بالقوة على الأنظمة السلطوية في أفغانستان والعراق.

اقرأ أيضاً: الليبرالية القلقة: الوفد والقومية والاستقلال

ومع ذلك، كانت هناك دائماً نزعة ثانية أكثر تشاؤمية وشكوكية لليبرالية، وهي نزعة تنظر إلى الحرية الاجتماعية والاقتصادية، لا كعقيدة عالمية أو كانعكاس للطبيعة البشرية؛ بل كإنجاز هشّ لمجتمعات بعينها في زمان ومكان بعينهما، والحال؛ أنّ الأصلانية الليبرالية تنبثق من هذا التقليد.

 الاقتصادي الفرنسي، فريدريك باستيات

خصال القلب

إنّ المفكرين الرئيسين المرتبطين بالأصلانية الليبرالية، هما: العالم السياسي الفرنسي أليكسيس دي توكفيل، والفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مل، وأثر كل منهما في أجيال من القادة الأمريكيين.

دعم توكيفيل ومل الدستورانية الليبرالية، والملكية الخاصة والاستقلالية الفردية، بينما ناصرا الولايات المتحدة كنموذج للمبادئ المستنيرة والتقدمية، لكنّ المثال الأمريكي، بالنسبة إليهما، لم يكن قابلاً للتصدير؛ بل كان قيماً تحديداً؛ لأنه مغاير لـ"طغيان" الدول الأوتوقراطية الأخرى.

اقرأ أيضاً: الإسلامية والليبرالية.. هل تمثلان نتاج الصراع على أسس النهضة؟

ويعتقد توكفيل، الذي عاش في الفترة من 1805 إلى 1859، أن عصره كان يتميز أساساً بصراع أيديولوجي بين الحرية والأوتوقراطية. فكتب على غلاف كتابه الديمقراطية في أمريكا (1835) يقول: "يبدو أن العناية الإلهية، بعد تعقب المسارات المختلفة التي يمكن أن تتبعها الأمم وتحدد النهاية النهائية لمسارها، تترك للأفراد مهمة التباطؤ أو التعجيل بهذه المسيرة الإنسانية [نحو الديمقراطية] التي لا يمكنهم تحويلها ولا إيقافها". وعلى الرغم من أن انتصار الديمقراطية على الأوتوقراطية كان حتمياً، إلا أنه كان مناسباً فقط، كما يعتقد توكفيل، في أمم قد عبدت فيها بعض المعايير الثقافية الطريق إلى الحرية.

اقرأ أيضاً: مارثا نوسباوم: الليبرالية تحتاج إلى الحب

ومن الحاسم في هذا الرأي؛ أهمية ما أسماه توكفيل "خصال القلب"، أو ما يشير إليه علماء السياسة اليوم باعتباره مؤسسات ثقافية؛ حيث يحاجج توكفيل بأنّ نجاح الديمقراطية الأمريكية قد أنجز من خلال القواعد والمؤسسات التي جلبها المستوطنون الأمريكيون معهم من إنكلترا، وشمل ذلك: حرية التعبير، وتنوع الآراء المثقفة، ووجود مجتمع مدني قوي ("الجمعيات العمومية")، والأهم من ذلك كله؛ يتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة، وهو نتاج للجذور البيوريتانية لأمريكا، "فالدين في أمريكا هو مجال متميز، السيادة للكاهن، ولكنه خارجه يحذر أن يكون كذلك، إنّ الكاهن ضمن حدوده هو سيد العقل؛ أما فيما وراءه، فإنه يترك الإنسان لحر نفسه"، وقد تلقت نظريات توكفيل الدعم من العلماء الحديثين (مثل مايكل مان، ودوغلاس نورث)، الذين حاججوا بالمثل؛ بأنّ المؤسسات الثقافية، بما فيها مجتمع مدني كبير ومفتوح، كانت هي الشروط المسبقة اللازمة لبزوغ الديمقراطية الليبرالية.

 

 

وبعد زيارته للولايات المتحدة؛ سافر توكفيل إلى المستعمرة الفرنسية في الجزائر، لدراسة ما يراه قلب العالم الأرستقراطي القديم، ودرس لعدة أعوام القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وأبدى الاحترام للبعد الروحي في الإسلام، لكنه -مثل الأصلانيين الليبراليين اليوم- خشي من أنّ العادات الاجتماعية في العالم الإسلامي لا تتفق مع الديمقراطية، وكان قلقه الأساسي هو إلى أيّ حد يخترق الدين، في الإسلام، الحياة السياسية، وهو الاختراق الذي رأى أنّه يتناقض مع الفصل الأمريكي بين الكنيسة والدولة.

استندت ملاحظات تيبل إلى تزايد شعبية الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا بين الدوائر التي لا ترتبط عادة باليمين

وحاجج بأنّ المسيحية البروتستانتية تفتقر إلى هذا البعد السياسي؛ إذ "الأناجيل"، كما حاجج توكفيل في كتابه (الديمقراطية في أمريكا)، "تتعامل فقط مع العلاقات العامة بين الإنسان والله وبين الإنسان والإنسان، ولا تقوم بشيء أبعد من ذلك، ولا تلزم الناس على الاعتقاد بأي شيء، هذا الأمر وحده كفيل بأن يثبت أنّ الإسلام لن يكون قادراً على إحكام سلطته لفترة طويلة في عصر التنوير والديمقراطية، في حين أن المسيحية مقدر لها أن تسود في أزمنة كهذه، كما في كل العصور الأخرى".

اعتنق معاصر توكفيل ومحبّه، جون ستيورات مل، آراء مماثلة الملاءمة المحدودة لليبرالية؛ فكما كتب في كتابه الأكثر شهرة في الحرية (1859)، قائلاً: إنّ "الحرية، كمبدأ، ليس لديها أي تطبيق على أيّة حالة من الأمور السالفة إلى الوقت الذي أصبح فيه الجنس البشري قادراً على التحسن من خلال مناقشة حرة ومتساوية"؛ فمن منظور مل، وحدها "أسرة الأمم الأوروبية، لا سيما الولايات المتحدة، قد وصلت إلى هذا المستوى من التطور والتقدم".

لكن، في حين أنّ توكفيل آمن بأنّ الديمقراطية كان من المقرر أن تفوز في معركة الأفكار، أشار مل إلى أنها منبوذة، وتهاجم الهجوم من كافة الأطراف، وأعرب عن قلقه من كون القواعد الليبرالية هشّة، ويمكن أن تزعزَع بيسر على يد العادات السلطوية التي يعتقد أنها ما تزال هي الحاكمة في معظم أنحاء العالم؛ "فالجزء الأكبر من العالم، إذا تكلمنا بدقة، لا تاريخ له [أي تقدم]، لأنّ استبدادية العادة والعرف مكتملة، ذلك هو الحال في الشرق بأكمله"، وحذّر مل الأمريكيين من أن يحموا حرياتهم بحذر، وزعم أنّ الطغيان، أو "المثال  الصيني لجعل كافة البشر متشابهين"، قد بدأ بالفعل يتسرب إلى الغرب.

اقرأ أيضاً: مسلمو بريطانيا الشباب أكثر ليبرالية لكنهم ليسوا أقل تديناً

إنّ تمييزات توكفيل ومل بين الغرب، الذي تناسبه الديمقراطية، والشرق الأوتوقراطي، ينبغي نبذها اليوم باعتبارها نتاجاً لرؤية استشراقية للعالم في القرن التاسع عشر، مثلاّ؛ لم يلتق توكفيل بمسلم شيعي واحد خلال سفره، وليس لديه سوى فهم سطحي للتقاليد والتشاريع الإسلامية، أما رؤية مل لـ"الشرق"، بوصفه فضاءً شاسعاً غير متمايز لا تاريخ له، فهي مستنكَرة منذ أمد.

بيد أنّ هؤلاء المفكرين لم يكونوا مخطئين في وجهة نظرهم الأكثر براعة؛ بأنّ الديمقراطية الليبرالية هي إنجاز مشروط ونادر تاريخياً، وقد أكد العمل الذي قام به علماء سياسيون معاصرون، بمن فيهم الحائز مؤخراً على جائزة "نوبل"، إلينور أوستروم، هذا الحدس عن طريق إظهار التنوع الهائل للمؤسسات السياسية تاريخياً، وفي كافة أرجاء العالم على حدّ سواء، وهو التنوع الذي يلقي ظلالاً من الشكّ على الزعم الليبرالي الدولاني بأنّ الجميع ليبرالي (أو يريد أن يكون ليبرالياً).

جعل أمريكا عظيمة

أعطى توكفيل ومل ثقلاً فكرياً للموقف الأصلاني الليبرالي، وتراوحت وجهات نظرهما بشأن الهجرة بين الشكوكية في حالة مل، إلى المعارضة الصريحة في حالة توكفيل، غير أنّ المخاوف من أنّ الهجرة واسعة النطاق يمكن أن تزعزع استقرار الولايات المتحدة تعود إلى الأيام الأولى للجمهورية؛ ففي الواقع، كان العديد من الآباء المؤسسين من المشككين في الهجرة، وهم الذين ظنوا أنّ الليبرالية كانت إرثاً بريطانياً فريداً، يمكن أن يقوضه المهاجرون الفرنسيون والألمان والأيرلنديون، ذوو الآراء السياسية الراديكالية أو الولاءات الأجنبية.

اقرأ أيضاً: الليبرالية إذ تنتج من نجاحها فشلها الخاص

وقد أسس ألكسندر هاملتون، أول وزير أمريكي لخزانة الدولة، حزبه الفدرالي، عام 1789، وفي الوقت نفسه بدأت الثورة الفرنسية تنتشر في أوروبا، ورغم أنّ توكفيل ومل سيصوران الثورة في وقت لاحق على أنها انتصار للمثل الليبرالية، إلا أنّ هاميلتون كان متشككاً فيها، فيبدو أنّ الإطاحة بالملكية الفرنسية تهدد بحكم الغوغاء، ومعها سرقة الممتلكات الخاصة على نطاق واسع، ويخشى الفدراليون، مثل هاملتون، الذين يمثلون مصالح الممولين الأثرياء وملاك الأراضي، من أنّ المهاجرين الفرنسيين (وغيرهم من المهاجرين الأوروبيين)، قد تشربوا قيم الثورة وسيرسلونها، من ثم، إلى الولايات المتحدة.

 ألكسندر هاملتون

هيمن الفيدراليون على السياسة الأمريكية في وقت مبكر؛ حيث كان معظم الآباء المؤسسين أعضاء أو متعاطفين، وكان جيمس ماديسون، الذي أصبح رئيساً في 1809، من المؤيدين في وقت مبكر؛ ففي نقاش حول المواطنة في مجلس النواب، عام 1790، حاجج بأنّ الهجرة ينبغي ألا تكون غاية في حدّ ذاتها؛ بل يجب أن تساعد على تقوية الأمة، وكتب "لا شكّ في أنه من المرغوب فيه جداً أن نضع أكبر قدر ممكن من الإغراءات للجزء الأكبر من البشرية للقدوم والاستقرار بيننا، وأن يلقوا بثرواتهم في قرعة مشتركة معنا"، "ولكن، لماذا هذا مرغوب فيه؟ ليس فقط لتكثير قائمة الشعب، لا يا سيدي، إنما هو زيادة ثروة المجتمع وقوته".

لم يكن المفكرون مخطئين في وجهة نظرهم الأكثر براعة بأنّ الديمقراطية الليبرالية هي إنجاز مشروط ونادر تاريخياً

في نهاية المطاف؛ قطع ماديسون مع هاميلتون، مشكلاً الحزب الديمقراطي الجمهوري مع، توماس جيفرسون، عام 1791، وأصبح الحزب الجديد صوت المزارعين الفقراء والعمال، وكذلك المهاجرين المجنسين مؤخراً، لكن، كان لجيفرسون يانز تأثير قليل في البداية. ورغم أنّ واشنطن كان غير حزبي رسمياً، إلا أنّه لم يخف تعاطفه الشخصي مع الفيدراليين، وشاركهم في التشكيك العام في الهجرة، وفي عام 1794؛ وبعد الاضطرابات السياسية الأوروبية، كتب ممثلو جامعة جنيف إلى نائب الرئيس جون آدامز، طالبين منه الإذن بنقل أكاديميتهم إلى الولايات المتحدة، تشاور آدامز مع واشنطن، الذي رفض بشدة.

"رأيي فيما يخصّ الهجرة؛ هو أنه باستثناء الميكانيكي المفيد، أو المهنيين، فليست هناك حاجة إلى التشجيع مزيداً [على الهجرة -م]"، خشي واشنطن من أنّ الهجرة واسعة النطاق لمجموعة متجانسة من الأجانب خلال فترة قصيرة قد تحث المهاجرين على الاحتفاظ بأنفسهم ومقاومة مساعي الاستيعاب والدمج.

وكتب واشنطن: "في حين أنّ سياسة أو ميزة كون المهاجرين واقعين في جسد الأمة، يمكن أن تكون موضع تساؤل كبير؛ لأنهم، عن طريق قيامهم بذلك، يحتفظون باللغة والمبادئ والعادات (الخيرة والسيئة) التي جلبوها معهم؛ ولما كانوا، هم أو نسلهم، عن طريق التمازج مع شعبنا، يتم استيعابهم في عاداتنا وأساليبنا وقوانيننا: فسرعان ما سيصبحون شعباً واحداً بكلمة واحدة".

اقرأ أيضاً: الإنسان العربي بين الدين والليبرالية

انفجر الشكّ العام في الهجرة بعد قضية شيز، وهي نزاع دبلوماسي بين الولايات المتحدة وفرنسا، بين 1797-1798، والذي أدى تقريباً إلى الحرب؛ ففي عام 1798، أثناء موجة من المشاعر المعادية للفرنسيين، أدخل الكونغرس، ذو الأغلبية الفدرالية، في القانون قوانين الغرباء والفتنة(Alien and Sedition Acts) ؛ التي صدرت وقت الانتظار لتجنيس المهاجرين الجدد الذين تتراوح أعمارهم من 5 إلى 14 عاماً، مانحاً الرئيس السلطة التنفيذية للقبض على، وترحيل، غير المواطنين المشبوهين، وحظر نشر الأدب المعادي لأمريكا، وقد استخدمت هذه القوانين لإدانة العديد من محرري الصحف (وعدد قليل من السياسيين المعارضين) على جريمة الكتابة "الكاذبة، والفاضحة والخبيثة" ضدّ الحكومة الأمريكية، وحاجج جيفرسون يانز؛ بأنّ السلطات التنفيذية الجديدة غير دستورية، وبعد أن خمد التهديد القصير للحرب، وقف الأمريكيون مع جيفرسون بانتخابه رئيساً في عام 1800.

اعتقد تبيل بظهور حركة سياسية جديدة وهي الحركة التي سعت إلى استخدام سياسات اليمين للدفاع عن الهوية الليبرالية للأمة

وبعد أن بدأ جيفرسون يانز بإلغاء قوانين الغرباء والفتنة، غضب هاميلتون، وكتب سلسلة من المجادلات لـصحيفة (New-York Evening Post)، دحض كلّ جزء من المنبر السياسي لجيفرسون. وعام 1802؛ تناول تحديداً موضوع "العواقب التي يجب أن تنتج عن قبول الأجانب غير المشروط جداً"، ورغم أنّ الحرب لم تكن وشيكة حينها، إلا أنّ هاميلتون كان راسخاً في اعتقاده بأنّ الولايات المتحدة تعرضت للتهديد من قبل المستوطنين مؤخراً، ذوي الولاءات الأجنبية.

وشعرت الولايات المتحدة بالفعل بشرور إدماج عدد كبير من الأجانب في لحمتها الوطنية؛ فذلك يؤدي بشكل كبير إلى تقسيم الجماعة وتشتيت قنصلياتنا، من خلال الترويج في مختلف الطبقات لنزوعات مختلفة لصالح دول أجنبية معينة، وكراهيات ضدّ الآخرين. وكثيراً ما كان ذلك من المرجح له أن يضر بمصالح بلدنا لصالح دولة أخرى.

بالنسبة إلى هاميلتون، كان سؤال الهجرة وجودياً، فـكتب: "إنّ الاعتراف بالغرباء بصورة عرضية من شأنه أن يكون أقلّ من الاعتراف بالحصان الإغريقي في قلعة حريتنا وسيادتنا"؛ فمن وجهة نظره: إنّ "سلامة الجمهورية تعتمد أساساً على طاقة مشاعر وطنية مشتركة، وعلى توحيد المبادئ والعادات، وعلى إعفاء المواطنين من التحيز الأجنبي والتحامل، وعلى حبّ هذا البلد الذي سيبقى دائماً على اتصال وثيق بالمولد والتعليم والأسرة".

اقرأ أيضاً: الليبرالية المحافظة، خياراً للعالم العربي

في الواقع؛ ذهب هاميلتون إلى أبعد من غيره في الحجاج بأنّ مجرد الشكّ العام في ولاء المهاجرين كان كافياً لتبرير الحدود المغلقة، وكان هذا، فعلاً، مبرراً بأثر رجعي لقوانين الغرباء والفتنة. فكما قال: "في أوقات الخطر العام الكبير، إن هناك دائماً العديد من الرجال الذين قد تكون هناك أسباب وجيهة لعدم الثقة فيهم، وحدها الشكوك هي من تضعف قوة الأمة، ولكن قد يتم استعمال قوتها فعلياً في مساعدة الغازي"، أما في سياق القرن الحادي والعشرين، مثلاً؛ فلن يهتم هاميلتون فيما إذا كان المهاجرون من البلدان الإسلامية يشكلون تهديداً مشروعاً أم لا، أو ما إذا كانت البارونيا ببساطة نتاج تأجيج الخوف، بالأحرى؛ إن وجود شكوكية عامة، مع ما يترتب عليها من آثار سلبية على الطاقة والروح المعنوية الوطنية، سيكون مبرراً كافياً للمصالح الوطنية أن تطردها، فمن وجهة نظر هاميلتون؛ إنّ قيمة الديمقراطية غالية جداً، ورأى أنّ سعر الديمقراطية مرتفع جداً.

جيمس ماديسون

الجميع في الأسرة الليبرالية

ونظراً إلى غلبة التفكير الدولاني الليبرالي في الغرب الحديث؛ فإنه من اليسير أن ننبذ أولئك الذين يرفضون مبادءها الكونية، باعتبارهم معارضين لليبرالية نفسها، وحتى في رغبتهم لحماية الـ"نحن" الليبرالية، من الـ"هم" اللاليبرالية والأجنبية، فإنّ ترامب وغيره من الليبراليين الهوويين الحديثين، لا يختلف عن هاميلتون وماديسون وغيرهم من الأصلانيين الليبراليين في الماضي، وإنّ آراءهم لها سابقة فكرية في عمل توكفيل ومل، علاوة على ذلك؛ هم محقون في اعتقادهم بأنّ الديمقراطية الليبرالية هشّة ومشروطة، وهو الموقف الذي برره علماء السياسة المعاصرون، حتى مع فشل الموقف الدولاني الليبرالي الأكثر طوباوية، وحيثما يضطربون، حيثما اضطربت الأصلانية الليبرالية تاريخياً، فإنما يكون ذلك اعتقادهم بأنّ المهاجرين ذوي النظم القيمية المختلفة يشكلون تهديداً لهذا النظام الاجتماعي الهشّ.

حاجج جيمس ماديسون بأنّ الهجرة ينبغي ألا تكون غاية في حدّ ذاتها بل يجب أن تساعد على تقوية الأمة

في الحقيقة؛ لطالما أثبتت مجموعات المهاجرين، المشتبه فيها دائماً، أنها وطنية بشراسة لوطنها المتبنى جديداً؛ فسرعان ما أفسح الخوف من المستوطنين الفرنسيين، بوصفهم عملاء ثوريين المجال للحقيقة التجريبية لولائهم، وأعرب الأمريكيون عن عدم اتفاقهم مع الأصلانية من خلال الانتصار الساحق لجيفرسون، وما إن انتشر على نحو واسع، حتى اختفى الخوف من عمود الخامس البابوي، كما اندمج والمهاجرون الكاثوليك الألمانيون والإيرلنديون  على مدى بضعة أجيال، وفي النهاية؛ اندمجوا في أعلى المستويات في المجتمع الأمريكي، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مجموعات أخرى، بما في ذلك الصينيون والأوروبيون الشرقيون.

واليوم؛ تشير الدلائل إلى أنّ الغالبية العظمى من المهاجرين من البلدان الإسلامية يندمجون بشكل جيد في الولايات المتحدة.

أما أولئك الذين ينظرون إلى القومية الشعبوية الصاعدة، باعتبارها نمواً للأفكار اللاليبرالية، إنما تقوم بترديد سردية مألوفة عن السياسة اليمينية، بيد أنّ الأصلانية الليبرالية لها تاريخ طويل ومؤثر في الولايات المتحدة، فضلاً عن الأسرة الليبرالية الأوسع نطاقاً في الدول، إنّ فهم هذا التقليد هو الخطوة الأولى لمعالجة شياطينه المتجددين بالحوار والبراهين.


المصدر: جوزيف أندرو كوسك



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية