المقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل: روعة الصوت التي لا تُحتمل

المقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل: روعة الصوت التي لا تُحتمل


03/02/2021

يقول من شهدوا طفولة مصطفى محمد المرسي إسماعيل، صبيحة يوم 17 حزيران (يونيو) 1905، إنّه كان طفلاً بالغ الحيوية، كثير اللعب، وكان طفلاً عنيداً، يميل إلى اعتزال الناس والانفراد بنفسه في ظلّ شجرة، فإذا خلا له المكان رفع صوته الطفولي الجميل بتلاوة القرآن الكريم، فسرعان ما يجتذب الناس ويجتمعون حوله. كان ذلك الزمان الأول في قريته ميت غزال (مركز السنطة – محافظة الغربية).

اقرأ أيضاً: مشايخ في سماء الطرب والموسيقى
عدّه المتخصصون في علوم القرآن ثاني اثنين في دولة قرّاء القرآن الكريم، بعد الشيخ محمد رفعت، الذي يعدّ أوّل من قدّمه للقرّاء، على غير عادة أهل ذلك الزمان من حفظة القرآن الكريم وقرّائه.

كتاب "الشيخ مصطفى إسماعيل – حياته في ظل القرآن"؛ للكاتب الصحفي، كمال النجمي

حياته في ظلّ القرآن الكريم

في كتابه "الشيخ مصطفى إسماعيل – حياته في ظل القرآن"؛ رصد الكاتب الصحفي، كمال النجمي، رئيس تحرير مجلة "الهلال"، في الستينيات من القرن الماضي، تفاصيل حياة الشيخ القارئ مصطفى إسماعيل، ورأى أنّه سيّد أهل زمانه من قرّاء القرآن الكريم. يقول النجمي عن طفولته: "كان والده حريصاً على إبعاده عن فلاحة الأرض لما يتوسمه فيه من نجابة وتميّز عن أقرانه، فألحقه وهو في السادسة من عمره بكتّابٍ في القرية، يملكه ويديره الشيخ عبد الرحمن أبو العينين، ولم يمضِ الطفل في هذا الكتّاب إلا عامين، تعلّم فيهما القراءة والكتابة وحفظ ربع القرآن الكريم، ثم التحق بكتّاب الشيخ عبد الله شحاتة، وفيه أتمّ حفظ القرآن الكريم، وأجاد الخط، وأتقن القراءة والكتابة".

عدّه الكاتب كمال النجمي سيّد أهل زمانه من قرّاء القرآن وكانت الإذاعة هي طريق الشيخ مصطفى إلى الجماهير

انتقل الطفل مصطفى إسماعيل إلى دراسة التجويد، وتعلّم القراءات على يد الشيخ إدريس فاخر، وكان هذا الشيخ موضع احترام أهل القرية، ولم يكن صاحب كُتَّاب، ولكنه كان مفتشاً على الكتاتيب، ولما سمع صوت مصطفى إسماعيل، قال: هذا موهوب يستحق الرعاية، وقرّر فعلاً أن يبذل في تعليمه عناية مضاعفة، وقد أورد النجمي تلك القصة في كتابه.
وعن موهبته كتب النجمي: "موهبته، التي ظهرت مبكراً، في كتاتيب القرية، وعلى أيدي المعلمين الحاذقين، تفجرت كالينبوع المتدفق أثناء دراسته بالمعهد، فكان أحد أساتذته، واسمه الشيخ مصطفى المروج، إذا سمعه يتلو القرآن الكريم يقول له: "يا بني... إنّ العلم هو القرآن، وأنت صوتك جميل، فاجعله وقفاً على القرآن"، وكان الشيخ المروج كثيراً ما يغلق باب "الفصل" في نهاية الدرس، ويقول له: "اقرأ يا مصطفى"، وكان يشجعه على الخروج إلى الحفلات والمناسبات ليقرأ فيها".

كانت الإذاعة هي طريق الشيخ مصطفى إسماعيل إلى جماهير مصر والبلاد العربية

الشيخ مصطفى والإذاعة
كانت الإذاعة هي طريق الشيخ مصطفى إسماعيل إلى جماهير مصر والبلاد العربية، ولها عليه فضل لا يمكن جحوده، ولولاها لما أتيح للجماهير الواسعة أن تسمع صوت الشيخ مصطفى وتعرف أداءه.
يقول النجمي في كتابه: "ومع ذلك، كان للشيخ مع الإذاعة مشكلة تكاد تكون مستعصية على الحلّ، حتى اضطر إلى مقاطعتها، ما خلا حفلات شهر رمضان المذاعة من القصر الملكي".

اقرأ أيضاً: رضا عبدالسلام: رحلتي إلى إذاعة القرآن الكريم بدأت بتحايلي على الإعاقة
حاولت الإذاعة أن تقنع الشيخ مصطفى إسماعيل بقراءة نصف ساعة كلّ أسبوع، كما يصنع غيره من كبار القرّاء، فكان يعتذر ويقول: "لقد تعودت أن أقرأ ساعات طوالاً، فكيف أحصر قراءتي في نصف ساعة".
ونال الشيخ مصطفى إسماعيل أوسمة كثيرة من الدول العربية والإسلامية، وبعد قيام ثورة يوليو 1952؛ استمر الشيخ مصطفى على رأس القرّاء في كلّ الاحتفالات والمناسبات، ومنح، عام 1965، أول وسام يناله قارئ للقرآن الكريم في "عيد العلم"، وتسلّم معه الأوسمة في ذلك العام: طه حسين، وفكري أباظة، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب.
الحديث العلمي عن الرجل يحتاج إلى قارئ ومستمع يمتلك قدراً من الوعي الفني والموسيقي

الوعي الموسيقي للشيخ مصطفى
الكاتب الصحفي والباحث هيثم أبو زيد، قال في تصريح لــ "حفريات" عن الشيخ مصطفى إسماعيل: "ربما يجد من يكتب أو يتكلم عن مصطفى إسماعيل قدراً من الصعوبة، فالحديث العلمي عن الرجل يحتاج إلى قارئ ومستمع يمتلك قدراً من الوعي الفني والموسيقي، يملك الشيخ مصطفى إسماعيل صوتاً يتجاوز أوكتافين؛ حيث يتخطى 16 درجة موسيقية، تقع بين طبقتي دو راست، وجواب جواب الدو، أو ما يعرف بجواب الكردان، وقد يتجاوزها أحياناً بنصف درجة أو درجة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ هذه القياسات الصوتية مأخوذة من تسجيلاته في عقود الخمسينيات والستينيات، وأنّ بعض معاصريه من أهل التخصص أكدوا أنّ صوته في الثلاثينيات والأربعينيات كان أقوى مما كان عليه بعد ذلك، أو بتعبير المؤرخ والناقد الموسيقي الكبير الراحل، كمال النجمي: "لم يكن ممكناً وصف قوة صوته وجماله".

مُنح الشيخ مصطفى أول وسام يناله قارئ للقرآن الكريم في "عيد العلم" برفقة طه حسين وأم كلثوم

يضيف أبو زيد: "وربما كانت طبيعة صوت الشيخ لا تقل أهمية عن مساحته الكبيرة، فصوت الرجل شديد الثراء، غني بالعُرب الطبيعية، سريع الذبذبات بمستوى مذهل، يتسم بثبات في درجاته المختلفة، ربما لم يعهد في صوت رجل آخر، فالدفق الصوتي عنده لا يهتز ولا ينقص، حتى وهو يؤدي تلاوته من أصعب المناطق، وكلها سمات مكّنت حنجرة الرجل من النهوض بأفكاره النغمية والتعبيرية، بمستوى بلغ حدّ الكمال الفني".
ويشير أبو زيد إلى أنّ؛ "صحيح أنّ قرّاء كثيرين أصبحوا يقلدون مصطفى إسماعيل، أو يفيدون من جمله النغمية، مع تفاوت بينهم في مدى قربهم أو ابتعادهم من الأصل، ومن هؤلاء القرّاء نذكر: حمدي الزامل، وعبد العزيز حربي، ومحمد عبد العزيز حصان، وراغب مصطفى غلوش، وفتحي المليجي، ومحمد بدر حسين، ومحمد السيد ضيف، وأحمد نعينع، وغيرهم، لكنّ التقليد هو آخر ما يخطر ببالنا عند الحديث عن أثر الشيخ مصطفى في قرّاء مصر، كما أنّ التقليد يقصر هذا الأثر على من جاؤوا بعده، بينما البحث العميق فيما أضافه الرجل لعالم التلاوة يثبت أثره حتى في زملائه ومعاصريه من أعلام القرّاء، بل وفي بعض من سابقيه".

اقرأ أيضاً: الموسيقى الإسلامية الحديثة: فن أم تنافس لاستقطاب المتابعين؟
ويرى أبو زيد؛ أنّ أهم ما يمكن أن نتوقف معه من أثر مصطفى إسماعيل في القراءة والقراء "الترتيب النغمي"، موضحاً: "فشيوخ الفنّ قبل مصطفى كانوا يسوقون المقامات الموسيقية بطريقة تتسم بالعشوائية، ولا تعرف ترتيباً متبعاً، صحيح أنهم التزموا دائماً الاستهلال من مقام البياتي، إلا أنّهم لم يمتلكوا خطة أو منهجاً لتوالي المقامات بعد الاستهلال، فلما جاء الشيخ مصطفى ألزم نفسه ترتيباً محدداً، لخّصه الباحث في التراث، عبد الرحمن الطويل، بأنه؛ "التزام شبه ثابت يستهل بالبياتي، ويوالي على الترتيب بمقامات (الصبا-الحجاز-النهاوند-الرست-السيكاه-الجهاركاه) أو (الحجاز-السيكاه-الرست) إن أسقط النهاوند".
لقد صار هذا الترتيب النغمي يشكّل الهندسة العامة لتلاوة أغلب القرّاء بعد ظهور الشيخ مصطفى إسماعيل، وظلت مخالفته محدودة، ربما بالقدر نفسه الذي كان يخالف فيه مصطفى خطته.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية