مأزق الخطاب الديني: مقدمات ضمور العقل والعجز عن بناء الدولة

مأزق الخطاب الديني: مقدمات ضمور العقل والعجز عن بناء الدولة


07/02/2018

إصلاح الخطاب الديني تتصدى له الفلسفة في أنبل مفاهيمها وأعمقها منذ قدماء الإغريق إلى عصرنا الراهن، ذلك أن دور الفلسفة هو تنمية قدرتنا على التفكير التي تتم من خلال ثلاث استراتيجيات أساسية وهي: تدبير الانفعالات؛ تمثّل المفاهيم ومساءلة القيم. حينها تتحسن قدرات الإنسان على تدبر الحياة عن طريق النظر إليها من زاوية غير ثنائية “الحلال والحرام” كما هو سائد لدى منظري الجماعات الإسلامية.

ما هي الانفعالات التي ينمّيها الخطاب الديني السائد عندنا؟ سنحاول أن نبسطها على النحو التالي، مع واجب التذكير بأننا لسنا متمسكين بهكذا ترتيب، طالما يحتاج التدقيق إلى دراسات ميدانية:

دوام الشعور بالخوف: خوف المؤمنين من غضب الله، وعذاب القبر، وعقاب ولي الأمر؛ خوف الناس من القصاص، والابن من الأب، والصغير من الكبير، والأنثى من الذكر، والكافر من المؤمن؛ وخوف المرء من السؤال والإبداع وكل ما هو جديد.

دوام الشعور بالذنب: بحيث تتم شيطنة الذات التي تبقى في كل أحوالها مذنبة في حق الله، والدين، والوالدين، ومن ثمة تكثر أدعية تأثيم النفس على منوال، اللهم نعوذ بك من شرور أنفسنا.

دوام الشعور بالغيرة: بحيث يتم تأجيج غريزة الغيرة، مع التذكير الممل بأحاديث على منوال اقتلوا من لا غيرة له.

دوام الشعور بالكراهية: وهو الشعور الذي تكرّسه عقيدة الولاء والبراء. بحيث يتوجّب على المسلم عدم موالاة غير المسلم، بل عليه أن يتبرأ منه ولو عن طريق القلب إن لم يستطع أن يجاهر بلسانه، أو كان عاجزا عن التبرؤ بالفعل.

الاستعداد الدائم للشعور بالغضب: بحيث يتصوّر المسلم أن الغضب لله، أو للدين، فرض عين على كل مسلم ومسلمة.

بل الطامة الكبرى أن الخطاب الديني يعتبر تلك الانفعالات السلبية، والتي هي بمثابة غرائز الانحطاط (الخوف، الذنب، الغيرة، الكراهية، الغضب) كما لو كانت مُثلاً أخلاقية يجب أن يتحلى بها الإنسان المسلم الذي يريد أن يتصف بكمال الخُلُق، مما يعني أننا أمام عملية قلب مروّعة ومدمرة للمفاهيم وللقيم.

ليست المفاهيم مجرّد أدوات ووسائل للتواصل والتعبير عن الأفكار التي تخالج الذهن، وإنما هي قوالب لإنتاج الأفكار، ومن ثمة تحديد نمط التفكير. هنا بالذات تكمن وظيفة الفلسفة وفق جيل دولوز: إنتاج المفاهيم. لكن، يجب توضيح أن المفاهيم المجرّدة ليست من باب الترف الفكري، أو من الأمور الزائدة عن الحاجة، أو المتعالية عن الواقع، ليست مُثلاً بالمعنى المتعالي، لكنها وسائل ضرورية لإدراك العالم وصناعة الحضارة والتمدن.

لدينا أمثلة: بخلاف المصلحة الخاصة فإن المصلحة العامة مفهوم مجرد، يُدرك بالعقل المجرد، هذا مؤكد. لكن يظل وجود ذلك المفهوم المجرد في العقل النظري حاسما لأجل توجيه السلوك المدني وبناء المواطنة الفعالة. كذلك القول عن مفهوم الدولة مثلا والذي هو مفهوم مجرد يستدعي قدرا من القدرة على التجريد النظري من طرف المواطنين، لكن وجوده في العقل كمفهوم مجرد هو الذي يجعل منه إطارا مشتركا للحياة المدنية المؤسساتية والفعالة.

يجب أن نضيف بأن المفاهيم تتطور، وبتطورها يتطور العقل النظري، وتتطور قدرة الإنسان على التفكير، ومن ثمة قدرته على تدبير الحياة المدنية في إطار المؤسسات. في المقابل فإن اعتماد الخطاب الديني على مفاهيم جامدة مجمدة، وتحيل في الغالب إلى زمن القبيلة (الجماعة، الفرقة، العورة، غض الطرف، إلخ)، ثم عصر التوسعات الإمبراطورية (الفتوحات، دار الحرب ودار الإسلام، أهل الذمة، الجزية، إلخ)، إنما يقود إلى ضمور العقل النظري، ومن ثمة تجميد ملكة التفكير، وفي الأخير تدهور القدرة على بناء دولة المؤسسات الحديثة.

وبشيء من الاختزال، يمكننا القول إن تاريخ الفلسفة يتضمن ثلاث قيم أساسية: القيم المنطقية، القيم الجمالية، والقيم الأخلاقية.

تقوم القيم المنطقية على ثنائية الصحة والخطأ (بلغة المناطقة العرب: الصدق والكذب)؛ وتقوم القيم الجمالية على ثنائية الجمال والقبح؛ وأما القيم الأخلاقية فإنها تقوم على ثنائية الخير والشر. القضية الأساسية في تاريخ الفلسفة أن مصدر الحكم القيمي يبقى هو العقل نفسه، سواء تعلق الأمر بالقيم المنطقية أو الجمالية أو الأخلاقية. والنتيجة من ثمة أن الحكم القيمي يتطور بتطور العقل الإنساني. وهذا هو المقصود بتاريخية القيم.

في الخطاب الديني السائد عندنا فإن مصدر الحكم المنطقي هو النص الديني، لذلك ليس مصادفة أن ترتبط كلمة “الصحيح” بنصوص الحديث. كما أن الحقل الجمالي متروك للأدب والتصوف. أما الحقل الأخلاقي والذي هو أكثر ما يزعم الخطاب الديني عندنا اكتسابه وإكسابه للناس، فالأمر لا يخلو من ادعاء يحتاج إلى شيء من التوضيح.

كما سبق الذكر، فإن العقل في تاريخ الفلسفة هو مصدر الحكم الأخلاقي. غير أن الحكم الأخلاقي هو ثمرة السؤال الكانطي الذي يطرحه الإنسان العاقل على نفسه في كل مرّة، ويجيب عنه انطلاقا مما يمليه عليه ضميره الحر والمستقل: ما الذي يجب عليّ أن افعله؟

حين يكون العقل الأخلاقي هو مصدر الحكم الأخلاقي فمعناه أن الحكم الأخلاقي سيخضع لقانون التطور تبعاً لتطور العقل الأخلاقي. ويتطور العقل الأخلاقي بفعل المساءلة الدائمة للأخلاق الموروثة. عموما، من خصائص العقل الأخلاقي حين نستعمله أن يتطور مع تطور الحضارة الإنسانية، وذلك بفضل الدور التهذيبي للفنون، والرياضة، واللغة، وآليات التواصل الحديثة. بل ليس من المبالغة في شيء افتراض أن التطور الأكثر أهمية للحداثة جاء في مستوى البُعد الأخلاقي.

لا مجال للشك في أن العقل الأخلاقي هو الجانب الأكثر تطورا في الحضارة المعاصرة. وهذا هو المكسب الذي يكافح الكثير من الفلاسفة المعاصرين لأجل المحافظة عليه (هابرماس مثلا). في كل الأحوال، لدينا الكثير من الأمثلة المبسّطة والتي تبيّن الحد الذي بلغه تطور العقل الأخلاقي المعاصر مقارنة مع العقل الأخلاقي القديم. وعلى سبيل المثال: في العالم القديم كانت مشاركة الأطفال في الحروب عملا بطوليا، وكان اغتصاب النساء حقا من حقوق المنتصرين، وأما اليوم فيُعتبر كل ذلك ضمن جرائم الحرب.

في العالم القديم كان اغتصاب الزوج لزوجته مسألة مقبولة، بل يندرج أحياناً ضمن حقوق الزوج، لا سيما في “ليلة الدخلة”، أما اليوم فهو جريمة تعاقب عليها كل القوانين الحديثة. في العالم القديم كان العنف الأبوي ضدّ الأطفال مستساغا، بل يندرج أحياناً ضمن واجبات الأبوة، لكنه صار اليوم عنفاً لا تتسامح معه القوانين الحديثة. في العالم القديم كان تزويج الفتاة المغتصبة من مغتصبها يُعدّ إنصافا للضحية، لكنه يُنظر إليه اليوم كاعتداء إضافي على الضحية وتواطؤ مع الجاني. إلخ.

طبيعي أن تنتهي استقالة العقل عن مجال التشريع الأخلاقي، وتعويضه بسرديات العالم القديم وقصص الأوّلين، إلى تخلّف مريع في الحس الأخلاقي. بقي أن نشير إلى أنه تخلّف مدمر للحضارة والإنسان كما بات واضحاً.

ما الذي تقدّمه الفلسفة لإصلاح الخطاب الديني؟ تمنح الفلسفة للخطاب الديني فرصة أن يعيد صياغة نفسه حتى يتحرّر من الانفعالات السلبية والغرائز المدمرة؛ وحتى يتخلص من مفاهيم العالم القديم (عالم الغزوات العشائرية، والتوسعات الإمبراطورية)؛ وحتى ينفض عنه قيم القدامة قيم الاستبداد، والهيمنة الذكورية، وتسلط الجماعة).

ليست وظيفة الفيلسوف أن ينحاز إلى صف الأخيار ضدّ الأشرار وحسب، لكنه حين يفعل ذلك فإنه يكشف أيضاً عن بذور الشر في خطاب الخير.

وليست وظيفة الفيلسوف أن ينحاز إلى صف الثوّار ضد الطغاة وحسب، لكنه حين يفعل ذلك فإنه يكشف أيضاً عن بذور الطغيان في خطاب الثورة. ليست وظيفة الفيلسوف أن يدافع عن الأقليات ضد الأكثرية وحسب، لكنه حين يفعل ذلك فإنه يكشف أيضا عن بذور الشمولية في خطاب الأقليات. ليست وظيفة الفيلسوف أن ينحاز إلى الضحية ضد الجلاد وحسب، لكنه حين يفعل ذلك فإنه يكشف أيضا عن بذور ميلاد جلاد جديد في خطاب الضحية. وهذا ـ كل هذا- على أمل أن نغادر الحلقة المُفرغة التي تجعل الكثير من آمالنا آمالا مغدورة.

سعيد ناشيد-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية