اختلف مع صدام وهو في عليائه: علي الحلي ينطفىء كما شعلة البعث

اختلف مع صدام وهو في عليائه: علي الحلي ينطفىء كما شعلة البعث


18/01/2018

بعد أن كسر ظهر البلاد في العام 1991، كان خياري الشخصي في البحث عن ملاذات إنسانية بعيداً عن الوسط الثقافي العراقي الموبوء بعسس السلطة العراقية وأجهزتها، فكانت محبة الموسيقى فسحة مشتركة مع شخصيات من تكوين روحي وفكري تقيم للنغم الرفيع مكانة مستحقة من التذوق الممزوج بالمعرفة العالية لكل عمل موسيقي أصيل، وهكذا كانت الطريق سالكة إلى علي الحلي، الشاعر والدبلوماسي والمترجم، الذي رحل قبل ثلاثة أيام في دارته بالأعظمية في بغداد. وكانت جمعتني معه جلسات التذوق العالي لعيون النغم العالمي بكل ألوانها، حد إنني استغربت سعة الاطلاع عند الرجل فهي قادته إلى الاستماع بل التذوق حتى لأسماء كانت حينها جديدة على مشهد غناء البوب والروك فضلا عن الجاز.

الحلي: عمق الخراب وسعته الذي أحدثه النظام الديكتاتوري لصدام حسين سيمتد لأجيال وليس من السهولة تجاوزه

ومن تلك الجلسات التي مهدت لها صداقة عمادها مراجعاتي الموسيقية والثقافية بعامة لجديد النتاج النغمي العالمي والتي كان يتابعها عبر ما أنشر في صحف ومجلات خلال ثمانينيات القرن الماضي، لكن المهم في تلك الجلسات الغنية هي أحاديثه عن اللجوء إلى المعرفة الأدبية العالمية عبر الترجمة للهروب من الصورة النمطية له كشاعر وبحسب الملامح التي كانت المؤسسة الثقافية تريدها له كـ"شاعر البعث"، فهو ترجم "سمها.. تجربة" رواية - سيرة ذاتية لكالدويل 1987، "دراسات نقدية معاصرة" 1987، "جيمس جويس" 1985، "من الأدب السوفياتي الحديث" 1987 وغيرها من الأعمال.
وعن تلك المرحلة يقول" انصرفت إلى الترجمة.. للتغطية على صمتي أو هروبي عن نشر الشعر، كما أخذت في كتابة بعض المقالات المقصودة، وفيها أغمز من الشعر وسوء حاله وانحداره في أكثر بقاع العالم، كما رحت أترجم اية مقالة تؤيد وجهة نظري وكانت متاحة".

1علي الحلي مستشاراً في السفارة العراقية في القاهرة مع زوجته أوائل عام 1968

إلى جانب هذا كان ينشر بعض القصائد التي تكشف قلقاً انسانياً شخصياً عظيماً أو تلك التي كانت تعني تهديداً جدياً للبلاد وأهلها فيقول "مرت سنوات انقطعت فيها عن نشر الشعر. في الوقت الذي كانت كل ضفادع الشعر وجحافل النظّامين، تضخ نقيقها في كل زاوية آسنة ومستنقع في قصور الطاغية ومؤتمرات أعياد ميلاده الوثنية. لكن ما إن احتلت القوات الإيرانية مملحة (الفاو) وهي قطعة من أرض وطني، وظلت تراوح في احتلالها، عند ذلك تدفق في داخلي نازع الكرامة والحس الوطني العارم الممتزج بالقومي. وكانت نقطة البداية في الكتابة عن الحرب".(1)
لكن صاحب "شعلة البعث صباحي" التي كتبه ستينيات القرن الماضي وصارت ما يشبه النشيد الوطني بحسب لحن قوي وضعه اللبناني إلياس رحباني، عاد إلى "انكفائه" الشعري، وقلقه "ما هو أصعب من الموت أن يجعل الإنسان ينتظر أو يتوقع الموت في أية لحظة. في حادث سيارة، أو عيار ناري، أو قطرات سم". وكان عليّه أن يتلو وصيته كلما خرج من البيت، وكأنه ذاهب إلى الموت وليس إلى المقهى!

غربته عن "البعث"
تلك المخاوف كانت قد بدأت في "مجابهتي الأولى مع حزب البعث (حزبه السابق) وكانت مع بداية الحرب العراقية ـ الإيرانية القذرة عندما طلبوا مني قصيدة مدح للجلاد (صدام حسين)، فتركت وصيتي وحددت مكان إقامة الفاتحة". وهي تتأسس على افتراقه الكلي عن فكر الحزب، منذ عام 1979، وبصورة أدق منذ إعدام ما يصفها الحلي "الطليعة القيادية الشريفة، المخلصة، النقية (مجموعة عبد الخالق السامرائي ورفاقه)، وانزلاق الحزب إلى هاوية الديكتاتورية والفاشية ومعاداة الشعب".
وعندما قدم الشاعر الحلي طلباً باحالته إلى التقاعد من الحزب لأسباب طبية مقنعة، وجهت له بعض القيادات سؤالا محددا عن السبب المباشر في ترك الحزب"أجبت بصورة مختصرة ومحددة، وبجرأة أيضاً حسدت نفسي عليها في ذلك الجو الرهيب، فقلت أيها الرفاق: إنني أشعر صادقاً.. بأني أصبحت غريباً عنكم، وأنتم غرباء عني. أقصد إني غريب عن الحزب.. والحزب غريب عني. وغربتي من داخل نفسي"(2).
الحلي في آواخر سبعينيات القرن الماضي

القصائد المحرمة
وبعد غزو الكويت وبدء "عاصفة الصحراء" التي أطلق عليها النظام العراقي "أم المعارك"، و"هي من أكثر هزائم التاريخ المنكرة، فانني لم أنشر حرفاً واحداً يشير الى ذلك العار الصدامي. وبدأت لحظتها وفي بداية عقد التسعينات، وخلال وجود قوات الغزو العراقي في الكويت.. كتابة القصائد المحرمة، وأخذت بالاحتفاظ بها في مكان أمين، وبعد أن كتبتها بنسختين وقد تجاوزت الثلاثين قصيدة. بدأت تظهر بعد سقوط النظام الفاشي تباعاً، وكان لها صدى قوي لدى الناس بما يشبه الفجاءات بعد الصمت الطويل".

عندما قدم الحلي طلباً باحالته إلى التقاعد من حزب البعث قال للرفاق: أشعر أنني أصبحت غريباً عنكم

وعن الثقافة العراقية خلال سلطة النظام العراقي السابق يقول "الحركة الثقافية الحرة مسخت تماماً منذ عام 1979 تحديداً، ومروراً بأعوام الحرب العراقية ـ الإيرانية الثمانية، وبعد غزو الكويت ودوام احتلالها حوالي سبعة أشهر وانتهاء بسقوط الحكم الفاشي التسلطي، وظلت الثقافة المأجورة في خدمة النظام وتوجهاته، غير إن الشعر المتسول قد لعب دوراً مخزياً، تستحي منه أيام خلافة الجواري والغلمان والخصيان في العهدين الأموي والعباسي. وصار يجمعهم (الشعراء) حول بركة بأحد قصوره الفخمة، تشبها بالمتوكل العباسي! لكنما أفجع ما كان يثير الأعصاب، ويبعث على الشفقة والرثاء أن ينحدر وبشكل من الإسفاف المبتذل النقد إلى مائدة التلوث والنفاق والتدليس.. ويتخلى عن المسؤولية التاريخية التي يستلزمها شرف مهنته، أو أن يتحول بعض كتاب القصة والرواية إلى مرتزقة ينظرون الروايات الثلاث التي نسبت إلى الجلاد "زبيبة والملك" و"القلعة الحصينة" و"رجال ومدينة". وكأنهم أمام روايات دستويفسكي وتولستوي وفوكنر!"(3)
موسيقى الصمت
زرت الشاعر علي الحلي مرة أخرى بعد عودتي إلى بغداد، وشاركته شعوراً من "التفاؤل الحذر"، فهو كان يعتقد  محقاً أنّ عمق الخراب وسعته الذي أحدثه النظام الديكتاتوري سيمتد لأجيال وليس من السهولة تجاوزه، وزادت مؤشرات التدهور السياسي والأمني ما بعد 2003 من شعوره باليأس من نهاية قريبة لعذاب البلاد وشعبها وظل يرى ان مآل الثقافة الرصينة في العراق مرتبطاً  ببعدها عن مؤسسات الإعلام الرسمي والحزبي أو الديني الطائفي.
ومن هذا الأفق الذي كان يحدد لخروج الثقافة العراقية من أزمتها "سيكون الموقف من الشعر بشكل عام.. سوف يفك الارتباط أكثر وأكثر مع طقوسه الجاهلية، وممارساته الصنمية، وحتى أشكاله وأنماطه ورؤاه كذلك. وبتقديري، سوف تظهر حضارة شعرية جديدة مغايرة لما تعارفنا عليه، ولا بد أن تندثر حالات تسكع الشاعر المستجدي على موائد الملوك والخلفاء والطغاة، لأن مثل هذه الدعارة الشعرية لن تكون ذات صلة مقدسة، أو علاقة مثالية بتاريخ المستقبل وشرفه".
وانطلاقاً من رؤيته هذه للشعر كان ديوان "موسيقى الصمت" تعبيراً عن سنوات العزلة الذاتية، والإمساك عن النشر والحصار النفسي المميت" خلال الفترة من 1990-2003. أما في حقول الأدب والفكر والترجمة، فقد أنجز كتابا حمل عنوان "ابن خلدون.. في مرايا النقد المعاصر" وهو دراسات من النقد المقارن، و"الزهر المترهل.. في الثابت والمتحول،، ويمثل دراسة نقدية لأفكار علي أحمد سعيد (أدونيس)، والثالث "الشعر الحر.. بين النظرية والتطبيق"، وفي مضامينه رؤى جديدة لمفهوم الشعر الحر.

هوامش:
1 و2 و3 من حوار مهم مع الحلي أجراه الكاتب والصحافي نصير النهر ونشر في "الشرق الأوسط" 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003.

الصفحة الرئيسية