جهيمان العتيبي مُقتحم الحرم المكيّ والمبشّر بالمهدي

جهيمان العتيبي مُقتحم الحرم المكيّ والمبشّر بالمهدي


30/10/2017

ما تزال الحادثة التي قام بها جهيمان العتيبي لدى اقتحامه الحرم المكي في العام 1979 مسربلة بالغموض الكثيف لجهة ملابساتها وتفاصيلها والكيفية التي انتهت بها، فقد تعددت الروايات وتناقضت إلى حد بعيد.

بيْد أن شخصية جهيمان، المُعتّم عليها إعلامياً، ما انفكت تثير الغموض، وينظر إليه من قبل بعضهم على أنه ثائر، وفق ما يرى الشاعر العراقي مظفر النوّاب الذي ذكره في قصيدته "الأساطيل" هاجياً في الوقت نفسه اليسار العربي الذي وصفه بـ"الغبي" لأنه لم يناصر جهيمان، بينما "كان اليمين أشد ذكاء فأشعل أجهزة الروث، بينما اليسار يقلّب في حيرة معجمه، كيف يحتاج دم بهذا الوضوح، إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟".
وُلد جهيمان محمد بن سيف العتيبي عام 1936. وهو من قبيلة عتيبة فخذ الصقور ممن استوطنوا في هجره ساجر التي يقال إنها معقل الإخوان المسلمين.
والده محمد بن سيف كان مرافقاً لـسلطان بن بجاد، وشارك في معركة السبلة ضد الملك عبدالعزيز وجده سيف، ويلقب بسيف الضان أحد فرسان البادية .

ويتردّد في كثير من الروايات أنّ جهيمان تلقى تعليماً جامعياً في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بعد التحاقه بالحرس الوطني السعودي، إلا أنّ أحد أصدقائه "ناصر الحازمي"  يؤكد في كتابه "أيام مع جهيمان: كنتُ مع الجماعة السلفية المحتسبة" الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت، أنّ جهيمان غادر مقاعد الدراسة وهو في الصف الرابع الابتدائي، في حين تذكر روايات أنّه درس الفلسفة الدينية في جامعة مكة المكرمة الإسلامية، وانتقل بعدها إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وفي رواية اقتحام الحرم المكي، وهي رواية ليست قاطعة في حيثياتها، يجري ذكر السياق الذي حدثت فيه، إذ يؤمن المسلمون بقدوم مجدّد للدين كل مائة عام بقول الرسول: "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لأمتي دينها". كما تؤمن بعض الطوائف بقدوم المهدي المنتظر والذي يوصف بأنه من آل بيت الرسول، واسمه "محمد"، واسم أبيه يوافق اسم أبي النبي، ويلوذ المهدي بالمسجد الحرام ليكون المنطلق الأول له من هناك ثم يتوجه للعراق.

يروي بعض شهود العيان أنّ أتباع جهيمان كانوا قنّاصة ماهرين لدرجة إنهم يقنصون العسكر السعوديين من أعلى المنارة

أطراف المعادلة أصبحت كاملة من وجهة نظر جهيمان بمطلع قرن هجريّ جديد، وبصهر يسمّى "محمد بن عبد الله"، لم ينقص المعادلة إلا بيت الله الحرام ليلوذ إليه "المهدي المنتظر"، وهذا ما تمّ بعد صلاة الفجر، في غرّة محرّم من العام 1400 هـ، الموافق 20 نوفمبر(تشرين الثاني) 1979.
وتتابع الرواية: دخل جهيمان وجماعته المسجد الحرام في مكة المكرمة لأداء صلاة الفجر يحملون نعوشاً للصلاة عليها صلاة الجنازة بعد صلاة الفجر، وما أن انفضّت صلاة الفجر، حتى قام جهيمان وصهره أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلن للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من "أعداء الله" واعتصامه بالمسجد الحرام. قدّم جهيمان صهره محمد بن عبد الله القحطاني على أنه المهدي المنتظر، ومجدّد هذا الدين، وذلك في اليوم الأول من بداية القرن الهجري الجديد.
قام جهيمان وأتباعه بمبايعة "المهدي المنتظر" محمد بن عبد الله القحطاني، وطلب من جموع المصلين مبايعته، وأوصد أبواب المسجد الحرام، ووجد المصلّون أنفسهم محاصرين داخل المسجد الحرام.
ويروي بعض شهود العيان أنّ أتباع جهيمان كانوا قنّاصة ماهرين لدرجة إنهم يقنصون العسكر السعوديين من أعلى المنارة، وكانت أحياء مكة ترى الأدخنة من جهة الحرم بكل وضوح نتيجة للمبادلة بالنار داخل الحرم.
ويروي كتاب "الحروب الأفغانية والنزاعات القبلية وفشل القوى العظمى" (The Wars of Afghanistan: Messianic Terrorism. Tribal Conflicts, and The Failures of Great Powers. Peter Tomsen ) لبيتر تومسين وترجمته د. سرى خريس وعبلة عودة واطلعت "حفريات" على جزء منه؛ حيث إنه لم يُنشر، تفاصيل عما حدث في الحرم المكي.
فبعد أن "صعد إمام المسجد الشيخ محمد بن سبيل، آنذاك، ليؤم صلاة الفجر من إحدى المنارات السبع المحيطة بالمسجد حيث كان آلاف الحجاج يلتفون بملابسهم البيضاء، ويتجمعون في باحة المسجد لأداء الصلاة متوجهين نحو الكعبة، وقد أخذ الإمام يصدح بالآذان المعهود "الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله" ليتردّد صدى الكلمات في جنبات المسجد وأطراف المدينة المقدسة. فجأة وقبل انتهاء الآذان، صعد شاب سعودي هائج إلى المنارة وخطف الميكروفون من يد الإمام وأزاحه جانباً، وأخذ يعلن أنّ اسمه جهيمان بن محمد بن سياف العتيبي، وأنه يدعو المسلمين للإطاحة بحكم آل سعود (...) وقد ترددت كلمات جهيمان عبر مكبرات الصوت الضخمة في أنحاء المسجد الكبير، ووصلت إلى أرجاء مكة فسمعها القاصي والداني من الحجاج والمصلين وسكان المدينة، وبالطبع وصلت تلك الكلمات سريعاً إلى آذان العالم".


ويتابع الكتاب "أخذ أتباع جهيمان يطلقون النار من فوق منارات المسجد على وحدات الجيش التي كانت تحاول الدخول، بينما أعاقتها بوابات المسجد الخشبية الصلبة التي أغلقها رجال جهيمان على أنفسهم ومن داخل المسجد من مصلين، واضطر الجيش بذلك للتراجع، فوقع الملك خالد آل سعود في حيرة وحرج كبيرين، وقرر الاستعانة سراً برأي الخبراء الفرنسيين لاستعادة المكان المقدس الذي أقسم على حمايته، وفي تلك اللحظات كان آل سعود يواجهون أكبر محنة في تاريخهم منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة في القرن العشرين".
هذه الرواية التي يذكرها الكتاب، ويبيّن فيها أنّ المحنة انتهت على أيدي قوات فرنسية، تتناقض مع روايات أخرى تشير إلى مشاركة أردنية فعّالة في إنهاء الاقتحام؛ إذ لم تجد الحكومة السعودية من بديل سوى الاستعانة بقوات الصاعقة الأردنية؛ إذ قامت بإنزال مظلي على الحرم، غير أنّ الاقتحام الأرضي تمّ بقوات خاصة سعودية؛ فعملت على تطهير الحرم من المقاتلين، إلا أنهم انسحبوا وتحصّنوا في الطابق السفلي ومعهم زوجاتهم وأطفالهم وعلى رأسهم جهيمان. وبعد ثلاثة أيام من الحصار، ولإنهاء العملية، تم تسريب المياه للطابق السفلي من الحرم وإلقاء صواعق كهربائية؛ لإجبار من ينجون من المتحصنين من الصعق بالكهرباء للاستسلام.
وفي حين تؤكد روايات كثيرة المشاركة الفرنسية في إنهاء الاقتحام، ومن بينها كتاب صدر في الولايات المتحدة بعنوان حصار مكة ( (The Siege of Meccaإلا أنّ ذكر المشاركة الأردنية غير مثبت، مع أنّ بعض المراقبين يذكرون أنّ القائد العسكري تحسين شردم ترأس مجموعة من القوات الخاصة بينهم الضابط أحمد علاء الدين لمساعدة القوات السعودية على إنهاء الاقتحام الذي يقال إنه دام أياماً أو زهاء أسبوع.
هزّت ثورة جهيمان العالم، وهددت كذلك موقف كبار العلماء في المملكة، إذ أخذ صغار الدعاة ينتقدون المفتي عبد العزيز بن باز علناً، وطالت الانتقادات هيئة كبار العلماء في السعودية، وأخذوا يشككون في أداء الهيئة وتحملها لمسؤولياتها حول التأكد من تنفيذ الحكومة للقوانين الشرعية التي تحفظ البلاد من التأثير الغربي، ومع ذلك فقد انحاز المفتي بن باز إلى صف آل سعود بعد ثلاثة أيام من احتلال المسجد الكبير في مكة، إذ أصدر فتوى خاصة تؤكد شرعية حكم آل سعود وتمنح الملك رخصة لاقتحام المسجد والقضاء على جهيمان ومن معه، اعتماداً على آية من سورة البقرة في القرآن: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين".


وقد حثت الفتوى الحكومة، كما يروي كتاب تومسين، على اتخاذ كل الإجراءات اللازمة بما فيها العسكرية، إذا لزم الأمر، لاستعادة المسجد الكبير من أيدي جهيمان وأتباعه. وبالفعل هاجمت القوات السعودية المسلحة المسجد في الرابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) مستخدمة المدرعات من طراز إم 113 أمريكية الصنع، وحاولت فتح ثغرات في جدار المسجد ليتبعها إلى الداخل مئات من الجنود السعوديين الذين اقتحموا حرمة المسجد، غير أنّ رجال جهيمان ردّوا باستعمال أسلحة آلية رشاشة وبنادق وقنابل وحتى الخناجر فأوقعوا إصابات بالغة بقوات الجيش السعودي، ثم انسحبوا بعد ذلك ليتحصّنوا في أنفاق بئر زمزم في الطابق السفلي من المسجد، حيث دارت مناوشات بين جهيمان وصحبه والقوات السعودية مدة أسبوع كامل في أنفاق أثرية معتمة، حيث كان أتباع جهيمان يقتنصون الجنود السعوديين من الزوايا المظلمة وفي الممرات الضيقة، كما لم تفلح القنابل المسيلة للدموع التي وفرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA ) في إخراج المتمردين من مخبئهم، إذ كانوا يغطون وجوههم بخرق مبللة بالماء ويهبطون أعمق فأعمق في دهاليز البئر، أما الغاز فقد كان يصعد إلى الأعلى مع تيار الهواء نحو فتحات البئر.
آنذاك، يتابع تومسين، استغاث الملك فهد بالحكومة الفرنسية، فأرسلت فريقاً متخصصاً من خيرة قواتها الخاصة قاموا بتدريب أفراد القوات السعودية في قاعدة عسكرية قرب مكة على استعمال غاز "سي إس" المسيل للدموع والذي يشل حركة الأفراد الذين يستنشقونه لفترة، وهو ذات الغاز الذي استخدمته القوات الروسية عام 2002 خلال حادث الرهائن الشيشان في موسكو، وبالفعل نجح استخدام هذا الغاز في إضعاف المتمردين، ومن ثم استسلامهم في الرابع من ديسمبر بما فيهم جهيمان ذاته.
وفي بدايات شهر يناير عام 1980 اجتمع مجلس هيئة العلماء، وأصدر فتوى ثانية لدعم الحكومة السعودية في قرارها بإعدام جهيمان، بالإضافة لاثنين وستين من أتباعه، وقد تم إعدامهم في مدن مختلفة في المملكة وعلى الملأ، أما جهيمان فقد أعدم في مكة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية