جوانب خفية من حياة قاسم أمين

جوانب خفية من حياة قاسم أمين

جوانب خفية من حياة قاسم أمين


14/03/2024

إنّ اللذة التي تجعل للحياة قيمة ليست حيازة الذهب، ولا شرف النسب، ولا علو المنصب، ولا شيء من الأشياء التي يجري وراءها الناس عادة، وإنّما هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم.   (قاسم أمين).

يقول هيكل: كلما ذُكر اسم قاسم أمين ذُكر معه تحرير المرأة في مصر، فأول صيحة ارتفعت لهذا التحرير هي صيحة قاسم في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة". وعلى إثر هذه الصيحة قام جدل عظيم في الموضوع ما تزال حواشيه باقية، ولو أنّه بُعث ورأى من آثار دعوته هذا التعليم الإجباري للبنين والبنات، وهذه النهضة النسوية العظيمة في مختلف جوانب الحياة، وهذه الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة، وهذا الإصلاح في التشريع للأحوال الشخصية ما تم منه وما يوشك أن يتم، إذاً لأخذته الدهشة، ثم لانقلبت دهشته اغتباطاً أيّ اغتباط بهذه الآثار، وأسف على ما اضطر إليه في كتبه من محافظة ألزمته إيّاها روح العصر الجامد، ثم لترك ميدان المرأة وتحريرها يسير في طريقه الطبيعي، ولفكّر في ميدان آخر من ميادين الإصلاح الاجتماعي الخطير الذي تحتاج مصر اليوم إليه أشد الحاجة.  

وُلد قاسم أمين في أول كانون الأول (ديسمبر) عام 1863م، لأب تركي عثماني، وأم  مصرية من صعيد مصر، وهو الابن الأكبر لهذه الأسرة، وُلد بالإسكندرية أو ضاحية "طرة" القريبة من القاهرة، ولعلّ سبب الخلاف في مولده أنّ الأم كانت تقيم بالإسكندرية، والأب كان يعمل في "طرة". 

🎞

والده هو: محمد بك أمين، كان والياً تركيّاً على إقليم "كردستان"، وعندما ثارت "كردستان" ضدّ الدولة العثمانية وأعلنت استقلالها وانفصالها، كان "محمد بك أمين" وقتئذٍ في "الآستانة"، فظل بها حتى منحته الدولة، عوضاً عن إمارته، إقطاعات في مصر بإقليم "البحيرة" قرب مدينة "دمنهور"، فقرر الإقامة في مصر، وكان ذلك في بداية حكم الخديوي "إسماعيل".

هيكل: كلما ذُكر اسم قاسم أمين ذُكر معه تحرير المرأة في مصر، فأول صيحة ارتفعت لهذا التحرير هي صيحة قاسم في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"

تزوج "محمد بك أمين" إحدى بنات الأسر المصرية من صعيد مصر، وهي ابنة "أحمد بك خطاب"، شقيق "إبراهيم خطاب باشا".

انتقل قاسم أمين مع أسرته من الإسكندرية إلى حي الارستقراطية القاهرية يومئذٍ، حي الحلمية، بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، والتحق بالمدرسة التجهيزية "الثانوية" وانتسب إلى القسم الفرنسي، وبعد أن أنهى الدراسة بالمرحلة التجهيزية التحق قاسم بمدرسة "الحقوق والإدارة"، وتُعرف الآن بكليّة "الحقوق"، وكان أول المتخرجين فيها عام1881م وهو في الـ (20) من عمره. 

ذلك الوقت صادف وجود المصلح جمال الدين الأفغاني في مصر، فكان قاسم من أولئك الذين اقتربوا منه، وتابعوا فكره ومدرسته التي ازدهرت بمصر في ذلك الوقت.

عمل (أمين) بالمحاماة فترة قصيرة، ثمّ سافر في عام تخرجه نفسه 1881م إلى فرنسا للدراسة، والتحق بجامعة مونبلييه، حيث أنهى دراسته القانونية عام 1885م بتفوق.

🎞

أثناء دراسته في باريس قامت الثورة العرابية، وشارك فيها العديد من تلامذة جمال الدين الأفعاني، وبعد احتلال مصر، ومحاكمة زعماء الثورة ونفيهم من البلاد، استقر الأفغاني بالهند، ومحمد عبده بباريس، وفي ظل هذه الأحداث عادت صلات قاسم أمين بمدرسة الأفغاني، فكان المترجم الخاص للإمام (محمد عبده). وحاول الاقتراب من المجتمع الفرنسي، وإقامة بعض الصلات والعلاقات الوثيقة مع نمط الحياة الفرنسي، غير أنّ طبيعة قاسم الخجولة والانعزالية التي ميزت شخصيته حالت دون تمكنه من هذا المضمار.

وعلى الرغم من قصة "الحب والصداقة" التي قامت بينه وبين الفتاة الفرنسية (سلافا)، التي زاملته بجامعة مونبلييه، ظل هذا الحب "رومانسيّاً"، وكانت أهم آثار هذا الحب  تلك المشاعر النبيلة التي بدأت تتولد في نفس قاسم نحو المرأة، والأحلام الوردية التي بدأت وظلّت تراوده عن قيام المرأة بدور الوحي والحافز المساعد في حياة الرجل، حيث بدأ يحلم بالإنسانة التي تجمع بين جمال الأنثى وعقل الرجل.

بين رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين

سافر قاسم أمين إلى باريس بعد رفاعة الطهطاوي بما يقرب من (55) عاماً، والطهطاوي كان شيخاً أزهرياً وواعظاً بالجيش، وإماماً للبعثة التي ذهبت تتعلم في فرنسا، ومع فارق الزمن والثقافة والبيئة، كان الطهطاوي أكثر تقبلاً وتفهماً لعادات الفرنسيين الاجتماعية وعلاقاتهم الأسرية، وأقلّ محافظة في تقييمه لحفلاتهم واختلاط رجالهم بنسائهم من قاسم أمين. فالطهطاوي ينفي أن يكون سفور المرأة الفرنسية مفضياً بالتبعية والحتم إلى التبذل والخروج على مقتضيات العفاف، فالعفة والشرف والعِرض هي معانٍ سامية يحافظ عليها الفرنسيون، بل يقسمون بالشرف عند الملمات، وإذا عاهدوا، أوفوا بما عاهدوا عليه، ويقول في ذلك: "التربة الجيدة والخسيسة، والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين"، ويقول أيضاً: "تقلّ فيهم دناءة النفس فيما يتعلق بعلاقات الرجال مع النساء".

رفاعة الطهطاوي

أمّا قاسم أمين، فإنّه كان في البداية أكثر تحفظاً في التقييم لهذا الجانب من حياة الفرنسيين، لكنّه ذهب به إلى حدود الرومانسية، يقول قاسم أمين: "يضمّ المجتمع الأوروبي الرجال والنساء دائماً، فيسهل الاتصال بينهم، وتنشأ فيما بينهم علاقات ألفة وصداقة وحب، وهذا الاختلاط بين الجنسين في الاجتماعات يسبغ عليه عذوبة ورقة، فالسحر الذي تشيعه المرأة في كل مكان توجد فيه شيء ممتع ونفاذ كعطر الزهور، وفي مثل هذه الاجتماعات ينعم المرء دائماً بالمرح، وغالباً ما يتودد للغير، ويخرج في النهاية مفعم القلب بالرضا! ويضيف: "أتيح لي تقييم هذا السحر الفريد وكان شأني شأن الآخرين في الإحساس بقدره، وخاصة في وجود امرأة تجمع بين حصافة الفكر إلى جمال الجسد، وقد رمت بي طبيعتي الخجولة بين الاضطراب والحيرة أكثر من مرة، وهذا يعني أنني لم أحقق نجاحاً في هذه المجتمعات. غير أنّ هذا لم يقلل من حبي لهذه اللقاءات الشيقة التي يهتم فيها الجميع بخلق جو البهجة".

العودة إلى مصر

في كانون الأول (ديسمبر) 1885م، صدر قرار تعيينه بالقضاء في النيابة المختلطة، ومع تعيينه بدأ طريقه لتحقيق حلمه، وخاصة فيما يتعلق بإثبات جدارة المصري ونديته للأوروبي في تولي المناصب العامة والنهوض بأعبائها. وفي تمّوز (يوليو) 1889م رُقي إلى منصب رئيس نيابة "بني سويف"، وهناك بدأ يطبق بعض مفاهيمه وآرائه في فلسفة العقاب ودوره في الإصلاح الاجتماعي، حيث وجد الكثيرين من الذين وضعتهم الإدارة الحكومية ظلماً في سجن بني سويف ففكّ قيود أغلبهم.

وفي العام 1891م انتقل رئيساً لنيابة "طنطا"، حيث واجهته هناك حادثة مهمّة، وهي إلقاء القبض على أبرز زعماء الثورة العرابية وأصلب قادتها "عبد الله النديم"، وذلك بعد اختفاء أسطوري استمر ما يقرب من (9) أعوام، وجيء به إلى رئيس النيابة "قاسم أمين"، فأكرم لقاءه، وأعطاه مالاً من عنده، وهيّأ له في محبسه ما قدر عليه، وسعى لدى المسؤولين من أجل العفو عنه، وبعد حملة صحفية واسعة استطاع استصدار عفو عنه مع نفيه إلى الشام، وذلك في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1891.

وفي 26 حزيران (يونيو) 1892م عُيّن قاسم أمين نائب قاضٍ في محكمة الاستئناف، ثم رقّي بعد عامين إلى منصب مستشار، وكان عمره في ذلك الوقت (31) عاماً.

سعى قاسم أمين أثناء عمله في القضاء إلى جعل التقاضي والمحاكمة للأجانب إلى جعل جهة التقاضي هي القضاء المصري والمحاكم الأهلية الوطنية، باستثناء أحوالهم الشخصية؛ لكي تزول الازوداجية القضائية التي فرضتها على مصر امتيازات الأجانب ونفوذ الاستعمار.

النشاط في المجتمع المدني

امتدّ نشاط قاسم أمين، فكتب في صحيفة (المؤيد) عدداً من المقالات دون توقيع، وأصدر كتاب "المصريون" باللغة الفرنسية عام 1984، يردّ به على هجوم الدوق الفرنسي (داركور) على مصر والمصريين، وأصدر "تحرير المرأة" عام 1899، و"المرأة الجديدة" عام 1900.

وشارك في نشاط "الجمعية الخيرية الإسلامية" حيث كانت تنشىء مدارس للفقراء وتنهض بضروب من الخدمة والمساعدات للمحتاجين. وفي 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1906م تولى سكرتارية الاجتماع الذي عقد بمنزل سعد زغلول باشا، والذي أصدر البيان الشهير الذي يطالب المصريين بالإسهام في إنشاء الجامعة الأهلية المصرية.

🎞

وعندما تخلى سعد زغلول عن رئاسة اللجنة لتولي منصب وزارة المعارف، تولى قاسم أمين رئاسة اللجنة، وكانت آخر أعماله العامة ذلك الخطاب الذي ألقاه بالمنوفية، عن الجامعة والتعليم الجامعي المرجو لمصر والمصريين، في 15 نيسان (إبريل) 1908م، وفارق الحياة بعد أسبوع من تاريخ هذا الخطاب، فأثار خبر وفاته في نفوس الناس جميعاً، أصدقائه وخصومه رنة حزن وأسى، واجتمع لتشييعه كل ذوي الرأي في مصر، وكانت جنازته مظهراً صامتاً لإجلال الوطن وتقديره العاملين من رجاله، وغادر هذا العالم تاركاً وراءه ذكراً باقياً هو ذكر الصدق والإخلاص لبلاده، لم يبتغِ عليهما في حياته أجراً من جاه أو نشب، فكان أجره عليهما الخلود بعد موته في ضمير الأجيال المتعاقبة؛ فقد رفع لواء الحرية الصحيحة والعدل في أسمى غايته ومعانيه، وبعث في الروح المصرية حياة جديدة تكفل لها بلوغ ما ترجوه بين جماعة الأمم المتحضرة.

هكذا كان قاسم أمين، وكما يقول (هيكل): كانت روح قاسم روح أديب، كانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التي لا تعرف الطمأنينة، ولا تستريح إلى السكون، وكانت الروح المشوقة التي لا تعرف الانزواء، بل كانت عيونه الواسعة تريد أن ترى جدة الوجود الدائمة تتكرر مناظرها فتطبع على صفحات نفسه وحياً وإلهاماً أكثر ممّا تؤدي إليهما المباحث الجافة منطقاً وجدلاً، وكانت هذه المناظر تذكي شعوره الحساس بجمال الحياة، وتدعوه إلى الحرص على متاعه بها، وعلى دعوته غيره إلى هذا المتاع، وذلك لا يؤتاه إلا رجل فن جميل لا يقف عند التلذذ لنفسه بنعم الحياة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية