حاتم علي "المبدع القلق"… الذي صار ما يريد

حاتم علي "المبدع القلق"… الذي صار ما يريد

حاتم علي "المبدع القلق"… الذي صار ما يريد


26/04/2023

ماهر منصور

الحظ وفرصة العمر يصنعهما صاحبهما، لا يلقاهما مصادفة.. إنه يصنعهما بالاجتهاد وبالحلم، وتلك الثنائية هي مختصر مفيد سيرة حاتم علي، منذ تخرجه من قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في العام 1986، وهي المدخل لفهم كيف استطاع صاحب مسلسل “أحلام كبيرة” أن يصير ما يريد.

في بلادٍ لا تزداد فيها نسب أمية القراءة، وأمية التعليم، ولا يغدو التلفزيون فيها مصدر الثقافة الوحيدة، كان يمكن أن يكون حاتم علي كاتب قصة قصيرة، أو مخرجاً مسرحياً لا يغادر الخشبة… وقد خاض بالفعل غمار تلك التجربتين بالقدر ذاته من الموهبة المتفردة التي عرفناه فيها مخرجاً للدراما التلفزيونية.

إلا أن المسلسل التلفزيوني سرعان ما غدا ديوان العرب في القرن العشرين، بعد أن توهمنا أن الرواية ستخلف الشعر في هذا المكان، فكان ما كان: عزف الناس عن القراءة، وزاد اغترابهم عن المسرح، فاستبدلوه بالتلفزيون المسلي بلا أي تعب، وبطبيعة حال المبدع..

كان لا بد لحاتم بكل ما فيه من شغف وإبداع أن يغادر القص والمسرح ويطوع هواه بهما، بما يوافق سيادة المسلسل التلفزيوني الجماهيرية، واشتراطات مربع الشاشة الصغيرة.

ولكن ما الذي يمكن أن يفعله قاص ومسرحي في ميدان فني؛ هدفه الأول هو الترفيه والتسلية لا المعرفة، ومهما تفرعت حكايته، تبقى معادلته الذهبية هي “تبسيط العمق ما أمكن”؟!

المطلع على أعمال حاتم مخرجاً، يستطيع أن يقدّر كيف كان للرجل مشروعه الفني الخاص، فقدم دراما متميزة عرفت كيف تحقق جماهيريتها من دون التنازل عن اشتراطاتها الفنية، وعن دورها كوسيطٍ ثقافي بالقدر ذاته الذي تكون فيه وسيطاً ترفيهياً.

هذا ما يمكن فهمه بوضوح من خلال شراكات حاتم الإبداعية مع عددٍ من كتّاب السيناريو ممن نجحوا عبر أعمالهم في تكريس ما اصطلح على تسميته بـ”الرواية التلفزيونية”، ومع هؤلاء، خاض حاتم مغامرات إبداعية، محفوفة بمخاطر إنتاجية، بتصوري ما كان لمنتج ليقدم عليها لولا إيمانه بحاتم علي، وشركائه من المبدعين.

لننظر، على سبيل المثال، إلى مشروع حاتم وممدوح عدوان “الزير سالم”، والذي شاكس من خلاله السيرة الشعبية الراسخة في ذاكرة الناس، وخالفها لدرجة أن أثار الجدل حوله، لا في الأوساط الشعبية وحسب، وإنما بين المثقفين أيضاً.

لكن رهان حاتم وممدوح كان الرابح، إذ لم يلبث أن أسَّس المسلسل له مكاناً في ذاكرة الناس، حتى صار مقترحاً جديداً للسيرة ينافس نسختها الشعبية، ويشكِّل مرجعية تقليدية لمقاربة حكاية “حرب البسوس” في الأعمال التالية.

الأمر ذاته يمكن فهمه أيضاً من خلال ثلاثية “الأندلس”، وقبلها مسلسل “صلاح الدين الأيوبي”، وقد غدا هذا الأخير، ومعه الثلاثية “صقر قريش”، و”ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”، نموذجاً للدراما التاريخية الأكثر شعبية بين الناس، رغم لغة حواراتها العصية على الفهم أحياناً، نتيجة إصرار كاتبها الدكتور وليد سيف على أن اللغة جزءٌ من ملامح الفترة الزمنية التي يجب أن يروها بمنتهى الصدق.

وكم سيبدو مفارقاً، لما يعتقده البعض، أن تبدو هذه اللغة على صعوبتها، وبكل ما تنطوي عليه من بلاغة وقوة تعبير وعمق الدلالات، هي واحدة من أسرار العلاقة العميقة بين الناس ودراما حاتم ووليد التاريخية.. وقد زادها سحراً نزوع الدكتور وليد سيف إلى تحليل الحدث التاريخي، وعدم الاكتفاء بإعادة سرد تفاصيله المحفوظة في الكتب.

في الحالتين، أي في مخالفة السيرة المتداولة (الزير سالم)، وتحليل التاريخ الموصوف (ثلاثية الأندلس)، كان لرؤية حاتم علي الفنية، وفهمه المعرفي، وقلقه الإبداعي، الدور الأساسي في حفظ (المختلف) الذي أنجزه عدوان ود.سيف، ونقله إلى المنطقة الأقرب من اهتمام الناس، وإثارة فضولهم، وصولاً إلى تحقيق استجابتهم العاطفية، إذ شكَّلت الصورة، واستثمار إمكانيات النص فيها، لغة التواصل مع الجمهور والتأثير فيهم.. وهنا يكمن بوضوح معنى أن يكون حاتم القاص والمسرحي مخرجاً لمسلسل تلفزيوني.. وإلا فما معنى أن ينجح حاتم علي حيث أخفق الآخرون أو يتجاوز نجاحهم بكثير؟!

هل نحتاج هنا، للتذكير بأن نص مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي أخرجه حاتم في العام (2004) كان قد قدم ذاته في مسلسل أنتج في العام (1998) تحت عنوان “الدرب الطويل”، وأن مسلسل “صلاح الدين الأيوبي” الذي افتتح عهداً جديداً في صناعة الدراما التاريخية، كان تزامن عرضه مع عرض عمل تاريخي للشخصية ذاتها، أي صلاح الدين الأيوبي، في العام (2001)؟!

الدراما كوسيط ثقافي ومعرفي، في تجربة حاتم علي، ربما كانت أكثر وضوحاً في أعماله الاجتماعية.. ويكفي أن نورد أسماء عدد من أعماله مثل: “الفصول الأربعة”، “أحلام كبيرة”، “عصي الدمع”، “الغفران”.. لنفهم طبيعة هذا الدور الذي عادة ما ينهض به المسرح، لا التلفزيون/ المعني بالترفيه أولاً.

وإن كنا لا نخالف من يرى أن المحتوى المكتوب على الورق يشكِّل أساس هذا الدور الثقافي، غير أن لصورة حاتم علي دوراً لا يقل عما يقدِّمه السيناريست في هذا السياق، ولنتذكر هنا كيف كانت كاميرا حاتم علي تغادر في كل المرة المشاهد التمثيلية، ومواقع التصوير لتجول بين الناس في الشوارع، تلتقط وجوههم وممارساتهم الحياتية بكثيرٍ من الوضوح والقصدية، مع الحفاظ على ضجيج الشارع نفسه بكل ما فيه من حياة كخلفية لهذه الوجوه.

حاتم بالتقاطه نبض الشارع الحقيقي في دراماه، كان يريدنا ألا نستسلم لفكرة أننا أمام عملٍ تلفزيوني متخيل، وها هو لا يكف عن اختراق جدار العرض الرابع لتذكيرنا بأن جميع شخصيات المسلسل وأحداثه ليست من وحي الخيال، وإن كانت كذلك، وأن أي تشابه بينها وبين الواقع هو مقصود، وليس من قبيل المصادفة.

في كل مرة كانت الوجوه التي يقدمها حاتم علي، في مشاهد أعماله التلفزيونية، مرآة لتلك الوجوه التي يلتقطها في الشارع لأناسٍ عاديين، وحين يزاوج بين كل هذه الوجوه في الشاشة ذاتها، كان يؤكد أن هذه الشخصيات لم تخلق من العدم، وبالتالي فإن قضاياها ليست مادة للترفيه، وإنما للتأثير والتبشير. أليس هذا هو الدور ذاته الذي يؤديه المسرح، بوصفه وسيطاً ثقافياً؟!

تقاسُم الناسِ الحقيقيين الشاشة ذاتها مع الشخصيات التمثيلية المتخيلة، ليس سوى الدور الصريح الذي تؤدِّيه الرؤية الإخراجية لحاتم علي، ولكن دورها الأعمق والأهم سيظهر من خلال أسلوبه الإخراجي الذي ينتمي إلى مدرسة الفن الشهيرة (الشكل يعبر عن المضمون)، فقد كانت صورة حاتم علي تنطق بمضمون المشهد، لا تستعرض إمكانياتها استناداً إليه، ولا تختبئ في المقابل خلفه.

بالمحصلة كسب حاتم علي رهان العمل في التلفزيون، فترك عبره تأثيره كعاشق للقص والمسرح، وباتت أعماله علامة فارقة في تاريخ الدراما السورية، والعربية، واسمه ضمانة جماهيرية أي عمل يرتبط به. سلّم الجميع بأنه الأستاذ، واطمئنوا إلى العمل معه، وبإدارته، فغادر الجميع قلقه إلا أن حاتماً لم يغادره، فظل مسكوناً بـ”القلق بدافع الإبداع”.

وفي كل مرة كان هذا القلق مفيداً، فقد عرف حاتم (المبدع القلق) كيف يطوِّع خوفه عما يقدمه، وما ينتج عنه، في خدمة رؤية فنية مبتكرة، شكلت واحدة من أكثر التجارب الفنية العربية توازناً، إبداعياً ومعرفياً أيضاً.

ولعلي لا أبالغ بالقول إن القلق الإبداعي والمعرفي، كان كلمة السر في فهم النجاح الجماهيري والنقدي الذي حققته معظم أعمال حاتم علي، ولا أقول كلها، فمن الأعمال التي أنجزها الرجل ما بدا أقل من أن ينسب إليه.. وذلك أمر لا يعيب تجربة الرجل، كونه جزءاً من حال المهنة ومتاعبها، وإن كان قد ضاعف خوفه وقلقه حتى أتعبه هذا القلق، ونال من قلبه أخيراً.

ويا لمفارقة المبدع الذي كانه حاتم علي، وكانه من قبله “المتنبي” الذي قتله شعره، وكانه من قبله “الجاحظ” الذي قتلته كتبه، فها هو القلق الذي تعايش حاتم معه، بوصفه أسلوب حياة من أجل إنجاز عملٍ أفضل، يغافل صاحب “التغريبة الفلسطينية”، ويعترض طريق دقات قلبه، بينما كان يكد في البحث عن الصيغة الأمثل لتقديم عمله الأخير “سفر برلك”.

عن "كيوبوست"

الصفحة الرئيسية