هل نحن قادرون على إيجاد تعريف عام للسعادة؟

هل نحن قادرون على إيجاد تعريف عام للسعادة؟

هل نحن قادرون على إيجاد تعريف عام للسعادة؟


18/04/2024

هلا كريّم

أن تكتب مقالاً عن السعادة في بلد حصد لتوه المركز ما قبل الأخير في مؤشر السعادة العالمي، فإن الأمر يبدو كنكتة غريبة قد تشبه البرامج الساخرة في بلد لا يبخل بتقديم مادة دسمة من الفواجع المحلية والإقليمية عبر مواقف مضحكة وفقاً لقاعدة "شر البلية ما يضحك".

وبالطبع فإن هذا الضحك لا يمت إلى السعادة بصلة، بل هو كوميديا سوداء قد تنفس عن بعض المكنونات. فالسعادة لا ترتبط بملامح الضحك، وليس كل مبتسم سعيداً. فما هي السعادة إذاً؟ وكيف تقاس؟ ولماذا تتدحرج معظم الدول العربية إلى أسفل سلمها؟

الشعر والفلسفة والاستهلاك

"يسعدني أن أفعل كذا، يسعدني أن أقدم فلاناً، يسعدني أن أعلن لكم عن كذا". تبدو كلمة السعادة في مناسبات عدة نابعة من ظروف وإنجازات. فكثيراً ما استخدمت هذه العبارة كيفما اتفق. وقد يصلح أن نقول إنها مثل رديفها "الحب" وقعا في شرك العبارات المستهلكة لدرجة أفقدتهما معناهما.

لكن، هل يمكن أن ندعي مهما بحثنا أننا قادرون على إيجاد تعريف عام للسعادة؟

السعادة، الكنز المفقود الذي تتوق نفوسنا لبلوغه. هل هي الرحلة أم نقطة الوصول - الهدف؟ هل تأتي من داخل عقل الإنسان أم تنتظر العابرين في حياته؟ ماذا تقول الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والعلوم في السعادة؟

ذكرت مفردة "السعادة" بالحروف المسمارية في ملحمة غلغامش كأقدم تعبير في التاريخ عنها، وتناولها فلاسفة اليونان، واعتبرها أرسطو الهدف النهائي للإنسان، وتتحقق من خلال تحقيق الفضيلة والتوازن في الحياة فتأتي السعادة نتيجة الأفعال الصالحة والتفكير الحكيم. وهو ينسجم هنا مع أفكار أستاذه أفلاطون الذي اعتبر أن الإنسان السعيد هو الشريف والصالح والعادل.

أما سقراط فاعتبر أن الجهد الإنساني يمكنه الوصول إلى السعادة، وأن مفتاحها هو تحويل الانتباه عن الجسد نحو الروح من خلال مواءمة الرغبات وتهدئة العقل وتفضيل الحياة الأخلاقية. ولقد ربطت الفلسفة اليونانية القديمة غالباً السعادة بالفضيلة والعدالة. كما ارتبط مفهوم السعادة عند الفيلسوف اليوناني أبيقور بالصحة الجسدية والنفسية، واعتبر أن الهدف من الحياة هو السعادة، والسعادة هي التحرر من الألم والمرض والاستمتاع بالحياة.

في القرن الـ19 رأى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن السعادة هي التصالح مع الشقاء والقدرة على النسيان. أما عالم النفس النمسوي سيغموند فرويد فربط السعادة بإشباع الرغبات الجنسية والنفسية. واعتبر أن السعادة هي قدرة الإنسان على الحب والعمل واللعب.

وكان لألبرت أينشتاين فلسفته الخاصة أيضاً، إذ اعتبر أن الحياة الهادئة والمتواضعة تجلب السعادة أكثر من السعي لتحقيق النجاح جنباً إلى جنب مع القلق المستمر.

وكان للشعر والأدب بلا شك نصيب الأسد في تركيب وترميم وصقل كلمة "سعادة" وإعطائها أبعاداً لا تحصى، لكن معظمها ذهب إلى كونها من المستحيلات، أو أنها حلم لا يبلغه أحد. فكانت بالنسبة إلى جبران خليل جبران "شبحاً"، ولنازك الملائكة "لغز الدهور"، ولأبي القاسم الشابي "حلماً نائياً"، ولدى رابعة العدوية تترجم السعادة برضا المحبوب (الله). وأضفى نجيب محفوظ عليها الحب، معتبراً أن أقصى درجات السعادة أن نجد من يحبنا فعلاً على ما نحن عليه.

آراء الناس حولها

يختلف مفهوم السعادة من شخص لآخر، فمن الناس من يجدها في الصحة الجيدة أو لمة العائلة أو الصداقة أو الحب أو الزواج أو العطاء، ومنهم من يجدها في المال والترف أو الإنجاز والنجاح. ومنهم من يعتبرها حالاً ذهنية صرفة، وآخرون يربطونها بالوضع الاجتماعي، أو الرضا والقناعة، أو الإيمان والاطمئنان. فهي تختلف بين المجتمعات والجماعات والأفراد بحسب ثقافتهم وخلفياتهم وأهدافهم ودوافعهم التي توصلهم إلى مناهل السعادة، من جودة الحياة ومنسوب الرضا وتحقيق الأهداف.

وفي مناقشة مع عدد من الأشخاص حول مفهوم السعادة، قالت جمانة إن التكيف مع الظروف المحيطة يحقق السعادة للإنسان. واعتبرت ريان أن السعادة تكمن في إيجاد هدف وتطوير الذات وعيش اللحظة من دون التفكير بالماضي والقناعة والعطاء، إضافة إلى المال والبنون. ووجد علي أن السعادة الحقيقية تأتي من الطمأنينة والتسليم، وقياسها هو سر الحفاظ على الطفل في داخلنا.

وقالت بتول إن السعادة حال وليست مشاعر موقتة، هي الرضا. واعتبر جو أن السعادة "سيستم" حياة يبرمج من الداخل ولا علاقة لها بالغنى والفقر. أما وائل فقال إن السعادة ظرف زمان، وتتجلى عندما يكون الإنسان مرتاحاً، ولكل سعادته بحسب حاجته، فالمريض سعادته في الشفاء، والفقير في المال، وهكذا. وقالت تهاني إن السعادة أن يكون من نحبهم بخير، والعطاء، وهي قرار داخلي. واعتبرت آلاء أن السعادة قناعة وقرار شخصي وتحكم بالعقل الباطني على رغم أي ظروف، وهي تنبع من الداخل، أما ما يأتي من الخارج فهو سعادة موقتة محكومة بظروف متغيرة. وقال حسن إن السعادة تقاس بجودة الصحة واجتماع العائلة والأمان والراحة المادية. واعتبرت مايا - ريتا أن سعادتها ظهرت عندما توقفت عن الاعتماد على الناس في إسعادها، ووجدت ضالتها في التأمل وتقدير الذات والامتنان، في حين وجد إيلي سعادته في عزف الموسيقى والطبيعة والصحبة الجميلة.

يوم السعادة العالمي

كثيراً ما تردد أمامنا المثل الشعبي "الجنة بلا ناس لا تداس"، ما يجعلنا بنظرة "فلاش باك" نستنبط الحكمة التي تحلى بها أسلافنا. وفي حين يذهب كثير من الآراء إلى جعل الذات منبع السعادة، عبر إعداد العقل ومواءمته لجعل السعادة قراراً نابعاً من مجموعة قناعات أو إعدادات، قد يكون تقليل التوقعات أحد عناصرها، إلا أن دراسة بدأت عام 1938 واستمرت أكثر 85 عاماً في كلية الطب بجامعة "هارفرد"، وما زالت مستمرة، قد تقلب هذه المعادلة، إذ توصل فيها الدارسون عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة – وكان من بينهم الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي - إلى أن العلاقات الاجتماعية الجيدة هي ما يجعل الإنسان أكثر سعادة وأفضل صحة، وليس المال أو الشهرة. وينصح المشرف على الدراسة الآن روبرت والدينغر بالتواصل مع أفراد الأسرة حتى أولئك الذين انقطعت بهم العلاقة، وتمضية الوقت مع الناس بدل الإنترنت والتلفزيون، وتنشيط الصداقات القديمة ومشاركة بعض النشاطات مع الأصدقاء.

فهل تكون السعادة على صورة أشخاص فعلاً، أم حرية، أم مجرد عيش اللحظة من دون الالتفاف إلى الماضي ولا التوجس والخوف من المستقبل؟ وكيف تقاس السعادة؟ ولماذا أصبح لها يوم عالمي ووزرات؟

أسست دولة الإمارات العربية المتحدة أول وزارة للسعادة في العالم عام 2016، فيما تعمل دول أخرى على تشكيل وزارات أو هياكل حكومية تهتم بمستوى سعادة مواطنيها، مثل نيوزيلندا التي أسست "اللجنة الرئيسة للسعادة والاستثمار الإيجابي" عام 2018 لقياس وتعزيز مستوى سعادة المواطنين ورفاهيتهم.

على رغم قدم فلسفة السعادة وقياسها فإن الـ12 من يوليو (تموز) من عام 2012 شهد تكريس يوم عالمي لها في الـ20 من مارس (آذار)، إذ أقرته الجمعية العامة بموجب قرار تحت رقم 281/66، اعترافاً منها بأهمية السعادة والرفاه بوصفهما قيمتين عالميتين يتطلع إليهما البشر في كل أنحاء العالم، بحسب تعبير موقع الأمم المتحدة. كما قامت "اليونيسكو" بمشروع المدارس السعيدة ببانكوك عام 2014 من أجل نهج بديل لتحسين خبرات التعلم بتصدير السعادة المدرسية. وتستفيد مبادرة المدارس السعيدة، كما يذكر موقع "اليونيسكو"، من قاعدة متنامية من الأدلة العلمية التي تربط السعادة بالتعلم الأفضل والتدريس والرفاهية ومرونة النظام بصورة عامة. ولذلك، بدلاً من النظر إلى التميز الأكاديمي والسعادة كأولويات متنافسة، فإنه يعزز السعادة كأداة رئيسة لتحسين تجارب التعلم ونتائجه.

مؤشر السعادة والبؤس

بحسب مؤشر السعادة العالمي لعام 2024، فقد تربعت فنلندا للمرة السابعة على عرش أسعد دولة في العالم. ومثلها دول الشمال الأوروبي القارسة تواصل تسلقها أعلى مراتب السعادة، إذ تحتل الدنمارك وأيسلندا والسويد أعلى نسبة. وهي دول ذات كثافة سكانية منخفضة. ويظهر التقرير تحولاً لافتاً، إذ لم تعد البلدان الأكثر سعادة تضم في مراتبها الأولى واحدة من الدول الأكثر اكتظاظاً بالسكان.

في العالم العربي تربعت الكويت على رأس القائمة عربياً والـ13 عالمياً، تلتها عربياً الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وتمسك لبنان بالمرتبة الأخيرة عربياً وما قبل الأخيرة عالمياً، إذ احتلتها أفغانستان.

وعلى رغم أن العلاقات الاجتماعية قد تكون أغنى بكثير في الدول المتسلسلة في قاع اللائحة، فإن السعادة هربت من النافذة بعدما دخل الوضع الاقتصادي المزري أبواب هذه الدول، وتمسك بمفاصل الحكومات التي أردت مواطنيها بؤساً ما بعده بؤس.

والتقرير السنوي الصادر عن الأمم المتحدة لمؤشر السعادة يبحث مستويات السعادة في 143 دولة حول العالم. ويعد مفهوم السعادة مرتبطاً بـ"مدى رضا الشخص عن حياته". ويعتمد على ستة معايير مختلفة لقياس السعادة، منها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط عمره، وحرية اتخاذ القرارات، إضافة إلى جودة الخدمات الصحية والتعليمية، وانعدام الفساد، وانتشار العدل.

في المقابل أطل "مؤشر هانكي للبؤس العالمي" برأسه ليؤكد رواية مؤشر السعادة. والقائمة هنا تضم 157 دولة، وحصد لبنان المرتبة الأولى عربياً والثالثة عالمياً بعد الأرجنتين وفنزويلا، بينما حلت الدول الخليجية في أسفل لائحة البؤس. أما الدول الأقل بؤساً فكانت تايلاند واليابان وسويسرا وقطر ومالطا.

يعمل هذا المؤشر الذي وضعه المتخصص في الشأن الاقتصادي التطبيقي في جامعة "جونز هوبكنز" الأميركية ستيف هانكي، في التصنيف على معدلات البطالة والتضخم ومعدل الإقراض والتغير في نصيب الفرد من الناتج المحلي.

في النهاية تبقى السعادة تلك الأيقونة المعلقة في وجدان كل إنسان، نقضي عمرنا في البحث عنها، وقد تكون في أيدينا. نبحث عنها في الحب، في الإنجاب، في الراحة، في الناس، وفي المواقف والأحداث، لكنها عبثاً تدلنا إلى منبعها من ذاتنا.

والآن، هل وجدت السعادة؟ أم لا تزال تبحث عنها؟

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية