بعد أوروبا.. تركيا تُحاول اختراق الجاليات المسلمة في أمريكا اللاتينية

بعد أوروبا.. تركيا تُحاول اختراق الجاليات المسلمة في أمريكا اللاتينية


28/01/2021

تُخطط تركيا لاستغلال ورقة الدين من أجل اختراق الجاليات المسلمة في أميركا اللاتينية، ويأتي ذلك بعد أن انكشفت مخططاتها في القارة الأوروبية على وقع الحملة الفرنسية لمكافحة “التطرف الإسلامي” التي طالت العديد من المساجد والجمعيات وغيرها.

وبعد أن كانت تركز أغلب جهودها على التغلغل أوروبيا من خلال المساهمة في بناء المساجد وغيرها من الأنشطة التي كانت أدوات بيد أنقرة لاختراق القارة العجوز، يبدو أن تركيا تتجه نحو استنساخ التجربة ذاتها مع الأرجنتين من خلال تعليم مبادئ وتعاليم الإسلام.

ومحاولات التوغل التركي في أميركا اللاتينية تحت غطاء ديني ليست وليدة اللحظة، حيث سعت أنقرة منذ سنوات إلى رعاية بعض الأنشطة الإسلامية هناك في مسعى لدغدغة مشاعر المسلمين وكسب المزيد من التعاطف والتأييد لأنشطتها.

وقد دفعت هذه المحاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القول في 15 نوفمبر من العام 2014، إن “المسلمين هم من اكتشفوا قارة أميركا وليس كريستوفر كولومبوس”، وذلك في سياق مساعيه لدغدغة مشاعر المسلمين.

اختراق جديد

في أحدث تحرك مثير لها قامت تركيا بإرسال 7 آلاف كتاب ديني الأسبوع الماضي إلى الأرجنتين في خطوة تكشف، وفقا لمراقبين، عن مواصلة أنقرة مساعيها لاستغلال الدين في كسب تأييد وتعاطف الجاليات المسلمة رغم الانتقادات التي تواجهها بدعم جماعات الإخوان المسلمين وغيرها من التنظيمات التي أدى توغلها في المجتمعات الغربية إلى تزايد التطرف والعمليات الإرهابية.

وقالت رئاسة الشؤون الدينية التركية، الجمعة الماضي، إنها أرسلت “7 آلاف كتاب ديني بينها نسخ قرآن مترجمة إلى الإسبانية إلى المسلمين في الأرجنتين سعيا لدعمهم في تعلم الإسلام من المصادر الصحيحة”.

ونقلت تقارير صحافية تركية أن حفل تسليم هذه الكتب أقيم عقب صلاة الجمعة الماضية بمسجد “الأحمد” بالعاصمة بوينس آيرس، وحضره كل من السفير التركي بالأرجنتين شفيق فورال ألتاي، ورئيس المركز الإسلامي الأرجنتيني أنيبال بشير بكير، وعبر الإنترنت مدير عام العلاقات الخارجية برئاسة الشؤون الدينية أرداي أتلاي.

وجرى تسليم 7 آلاف كتاب بينها نسخ من القرآن وكتب تفسيره باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى كتب لتعلم القرآن الكريم و40 بطاقة حديث نبوي شريف وكتب أخرى مترجمة إلى الإسبانية مقدمة من الشؤون الدينية التركية بالتعاون مع المركز الإسلامي الأرجنتيني.

وأفاد السفير ألتاي في كلمته بأن المعرفة والقراءة التي لا تساهم في نضج الناس وتحسن الحياة هي غير مجدية. وأضاف “من نتائج القراءة إضافة قيمة للحياة، والكتاب هو سندنا القيّم لذلك هناك علاقة مباشرة ومهمة بين القراءة وقيم المسؤولية والأخلاق الحميدة واحترام الحقوق”، موضحا أن “واجبنا العودة إلى جوهرنا والحكمة والتأمل وإيجاد حلول لمشاكل العصر الذي نعيش فيه بالمعرفة”.

ومن جانبه، أشار أتلاي في كلمة عبر الإنترنت إلى أن الشؤون الدينية تحاول التواصل مع المسلمين من جميع أنحاء العالم، مضيفا “آمل أن تساهم الكتب والمصاحف في استفادة إخوتنا ولو قليلا في معرفة العلوم الدينية، وهو ما سيشعرنا بالفخر والاعتزاز”.

وعبر المسؤول التركي عن استعداده للتعاون لإتاحة فرص الدراسات الجامعية للطلاب الأرجنتينيين الراغبين في دراسة العلوم الدينية، مشيرا إلى أن كليات الإلهيات تجاوزت المئة بتركيا. وبدوره أكد بكير أن “قوة المسلمين تعززت بالعلم عبر التاريخ، والمسلم القوي لا يفيد نفسه وأمته فقط، بل البشرية جمعاء”.

وأعرب عن “شكره لتركيا لتقديمها الكتب المترجمة”، مؤكدا أنه سيسعى لتوزيعها بشكل عادل على المسلمين في جميع أنحاء الأرجنتين. وتحاول تركيا إيجاد موطئ قدم لها في أميركا اللاتينية من خلال الجاليات المسلمة، وهي سياسة اعتمدت من قبل الحكومة التركية في أوروبا وفي بعض الدول الآسيوية والأفريقية مستغلة حالة التسامح الديني والانفتاح التي تعرفها هذه المجتمعات.

وتخطط تركيا، وفق مراقبين، لبناء منظومة إسلامية في أميركا اللاتينية انطلاقا من الأرجنتين بحجة الدفاع عن مصالح الجاليات المسلمة وتعليم الإسلام، وهي نفس السياسات المتبعة في دعم تنظيمات الإسلام السياسي في أوروبا خلال السنوات والعقود الماضية.

وقال الباحث التونسي وأستاذ التاريخ عادل اللطيفي إنه “لا يستبعد أن تتوجه سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو جنوب القارة الأميركية، لأن نفس هذه السياسة لاحظناها في القارة الأفريقية أيضًا وغيرها من الدول التي تدخلها تركيا تحت غطاء ديني لتؤسس لحضور اقتصادي قوي من خلال فتح أسواق وبناء تجارة وغيرها من الأنشطة مع هذه الدول”.

وأضاف اللطيفي في اتصال مع “العرب” من باريس، أن “سياسة أردوغان هذه المبنية على الاعتماد على الجاليات المسلمة تستهدف أغراضا عديدة أبرزها الاقتصادية والتوسعية، وهي بمثابة الاستنساخ للحملات اليسوعية التي شهدها العالم في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي هيأت للاستعمار والاستيطان في ما بعد (..) لا أستبعد وصول أردوغان إلى أميركا اللاتينية أيضًا لتوجيه نظر الأتراك إلى الخارج، وهذا ما لاحظناه سواء عن طريق دخول حروب في تلك المناطق أو من خلال دبلوماسية الإسلام التي يقوم بها كي يدخل الأتراك في معمعة أخرى وهي معمعة الأمة الإسلامية خاصة مع تنامي المعارضة لأردوغان”.

 ويرى متابعون أن تركيا لم تضع أميركا اللاتينية اليوم في أجنداتها التوسعية عبر الدين الإسلامي، حيث سبق لها أن أولت هذه القارة أهمية قصوى من خلال احتضان تظاهرات إسلامية سعت من خلالها أنقرة للدخول على خط المنافسة بين السعودية وإيران على زعامة العالم الإسلامي.

وفي العام 2014 على سبيل المثال لا الحصر، احتضنت إسطنبول قمة الزعماء الدينيين الإسلاميين في أميركا اللاتينية بحضور الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء وقتها والمعارض حاليا أحمد داود أوغلو. وحضر تلك القمة ما لا يقل عن 76 رئيس مؤسسة إسلامية، إلى جانب 40 ممثلا عن دول أميركيا اللاتينية التي من بينها البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وغيرها.

 تشدد وتضييقات

أعاد التوجه الجديد الذي تسعى تركيا إلى ترسيخه من خلال اختراق الجاليات المسلمة في أميركا اللاتينية مخاوف المراقبين من أن يؤدي ذلك إلى نشر المزيد من التطرف في صفوف هذه الجالية بسبب دعم أنقرة لجماعات الإخوان المسلمين وما قد ينعكس من ذلك، لاسيما في ظل الحزم الفرنسي في مواجهة ما يسميه الرئيس إيمانويل ماكرون الانفصالية الإسلامية.

والأرجنتين التي تحاول أنقرة التسلل إليها عبر غطاء ديني لتقوية نفوذها فيها، كانت عُرضة في وقت سابق إلى محاولات اختراق من قبل الجماعات الشيعية على غرار ميليشيا حزب الله اللبنانية التي صنفتها بوينس آيرس جماعة إرهابية على خلفية هجومين إرهابيين شهدتهما البلاد، حيث أشارت السلطات هناك بإصبع الاتهام إلى الميليشيا الشيعية الموالية لإيران.

ولا يستبعد مراقبون أن تؤدي المحاولات التركية الجديدة لاختراق الجاليات المسلمة في الأرجنتين إلى تغذية التطرف هناك ما قد يواجه بحزم أرجنتيني وأميركي عموما لتحصين تلك المجتمعات من أي اعتداءات إرهابية.

ويتخوف هؤلاء المراقبون من أن ينعكس ذلك على واقع الجاليات المسلمة التي لا تنخرط في أجندات خفية ما يجعلها تتحمل وزر أعمال جماعات أخرى.

وحذر عادل اللطيفي في تصريحه لـ”العرب”، من أن أي عمليات اختراق تركية ستضع الجاليات المسلمة أمام ضغط كبير، قائلا “المشكلة الأولى في الاختراق الخارجي للجاليات المسلمة سواء في المجتمعات الأميركية أو حتى الأوروبية تكمن في ما سيحدث داخل الأوساط الرسمية (..) ونتذكر مثلا الصراع بين المغرب والجزائر حول السيطرة على إمامة مسجد باريس وهي معركة تاريخية تعكس توتر العلاقات بين البلدين وتداعيات تلك المعركة في ما بعد في فرنسا”.

وأضاف اللطيفي أن “المشكلة تتمثل أيضًا في المحاولات التي تقودها تركيا والجماعات الإخوانية منذ سنوات (..) المشكلة هنا أن هاته المحاولات للتأثير على المسلمين في الدول الأجنبية سواء في أميركا أو أوروبا أو غيرها تخدم مصلحة اليمين المتطرف في أي دولة. ولنا أبرز مثال في فرنسا، حيث حاول هذا الطرف السياسي بخطابه العنصري الإشارة إلى أن المسلمين أجانب عن المجتمع وغيرها من الاتهامات (..) أي أن عمليات الاختراق هذه تخدم الخطاب السياسي اليميني المتطرف بصفة عامة”.

وكانت فرنسا من أكثر الدول التي دفعت ثمن التوغل التركي في مجتمعها، وذلك بعد أن جدت عشرات العمليات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة ما دفع بالقيادة الفرنسية إلى إطلاق حملة كبيرة ضد ما أسمته بـ”الانعزالية الإسلامية”.

واتخذت فرنسا في سياق هذه الحملة قرارات تستهدف تجفيف منابع الفكر المتطرف ومكافحة الانعزالية والانفصالية من خلال مبادئ ارتكزت على منع استجلاب الأئمة خاصة من تركيا والعمل على احترام قيم الجمهورية.

وكان مسؤولو المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية قد توصلوا بعد أسابيع من الخلافات الداخلية إلى الاتفاق على هذه الشرعة بالرغم من سعي تيارات الإسلام السياسي داخل الهيئات الممثلة للمسلمين في فرنسا إلى إعاقة التوافقات ومن ورائها الخطة الفرنسية لمكافحة الانفصالية الإسلامية.

ولا تزال الإجراءات الجديدة تُراوح مكانها على وقع خلافات بين الهيئات الدينية الإسلامية في فرنسا، بينما توجّه أصابع الاتهام إلى أنقرة والجماعات المقربة من الإخوان بعرقلة شرعة المبادئ، وهو ما يوضح حجم التعقيدات التي تضعها الاختراقات التركية للمجتمعات تحت غطاء ديني.

وقال اللطيفي إن “الاختلاف بين المنظمات الإسلامية مثلا في فرنسا حول هذه الإجراءات كانت منتظرة وليست بالجديدة (..) هذه الانقسامات كانت موجودة ودائما ما تحوم حول الصراع على المساجد مثل مسجد باريس الذي يدور حوله صراع بين المسلمين والجماعات القريبة من الإخوان المسلمين”.

واستنتج الباحث التونسي أن “هذا يُنتج خلافات حول توصيف موقع الإسلام من الحياة العامة (..) مثلا الحركات الإسلامية تريد حضورا قويا للهوية الإسلامية وحتى المناسك التعبّدية في الحياة اليومية في حين أن مثلا ما حدث بخصوص مسجد باريس يعكس الرؤية الرسمية للدين الذي لا تتدخل فيه السياسة ولا يفرض شروطا جديدة”.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية