تحولات في التديُّن... من الإسلاموية إلى التصوف

تحولات في التديُن... من الإسلاموية إلى التصوف

تحولات في التديُّن... من الإسلاموية إلى التصوف


11/06/2023

هذه المقالة من وحي مقابلات مع بعض الأصدقاء الذين مرّوا بتجربة إسلامية حركية في مرحلة سابقة، لكنّهم انخرطوا في ما يُشبه المراجعات، فقرروا الانفصال عن هذه الجماعة أو تلك، بصرف النظر عن طبيعة هذا الانتماء، بمعنى أنّ الأمر قد يتعلق بتجربة إسلامية دعوية أو سياسية أو غيرها، سواء كانت سلفية أو إخوانية.

ممّا يُميز هذه الفئة أيضاً أنّها تبنّت الخطاب الصوفي أو حتى العمل الصوفي، سواء عبر الانتماء الى إحدى الطرق الصوفية، أو بربط علاقة مع شيخ تربية، كما يُصطلح عليه عند أتباع العمل الصوفي، دون الانضمام بالضرورة إلى طريقة صوفية.

الشاهد هنا أنّ الملاحظات الواردة في المقالة مؤسَّسة على ملاحظات من وحي تحولات جرت على أرض الواقع مع فئة من المتدينين، وليس ملاحظات مؤسَّسة على فرضيات مجردة لا علاقة لها بالواقع المادي.

تحول الأشخاص المنفصلين عن الحركات الإخوانية أو السلفية يفضي إلى ما يشبه تحييد خطاب العنف، أو إبطال مفعوله، كأنّنا إزاء متديّن آخر مغاير للمتديّن نفسه الذي كان في مرحلة سابقة أثناء الانضمام إلى تلك الجماعة الإسلامية المتشددة

ثمّة مجموعة من الملاحظات تكاد تكون خلاصات نعاينها في التحولات التي جرت على خطاب وسلوك هذه الفئة، وتتوقف المقالة عند (3) منها على الأقل.

ـ الأولى أنّ خطاب هؤلاء يصبح أقلّ حدة في التفاعل، مقارنة مع مرحلة الانتماء الإسلاموي، أيّاً كانت طبيعة الموضوع المعني بالنقاش، بما في ذلك القضايا التي تثير خلافات كبيرة من قبيل القضايا السياسية، وإن كانت هناك بقايا من خطاب الحدة، فمجرد ذلك وجود بقايا من تأثير مرحلة النهل من الخطاب الإسلامي الحركي، ومن تبعات هذا التحول أنّ مؤشر العنف اللفظي يتراجع في خطاب المتديّن المعني، مقارنة مع المؤشر نفسه في المرحلة الدينية السابقة.

ـ بالنسبة إلى الملاحظة الثانية، فإنّها تهم على الخصوص الأعضاء الذين كانوا في مرحلة سابقة أعضاء في جماعة إسلامية متشددة في التعامل مع الغير، مجتمعاً كان هذا الآخر أو دولة، نحو تبنّي الخطاب الصوفي أو العمل الصوفي، أو كليهما معاً، وتفيد هذه الملاحظة أنّ التحول يفضي إلى ما يشبه تحييد خطاب العنف سالف الذكر، أو إبطال مفعوله، كأنّنا إزاء متديّن آخر مغاير للمتديّن نفسه الذي كان في مرحلة سابقة أثناء الانضمام إلى تلك الجماعة الإسلامية المتشددة، أي إنّنا إزاء المتديّن نفسه لكنّ خطابه، وبالتالي سلوكه، تغير من مرحلة إلى أخرى، وكان الانتقال هنا من مقام تبنّي خطاب إسلامي متشدد أو متطرف نحو خطاب إسلامي أقرب إلى الاعتدال أو الوسطية التي تميز عامة وخاصة المسلمين، وتفسير هذا التحول بَدَهي، هو أنّ التديّن الصوفي مسالم أساساً، ومن يتبنّى هذا النمط من التدين يصبح بدوره مسالماً شيئاً فشيئاً.

صحيح أنّ هناك استثناءات في مقام السلم هذا الذي يُميز العمل الصوفي، وخاصة أثناء التعامل مع الغزو الأجنبي، من قبيل ما عاينّا في تجارب سابقة مع انخراط العديد من الطرق الصوفية في مواجهة العدوان الخارجي على المجال الجغرافي الذي تقيم فيه، أي العدوان على الدولة، كما هو الحال مع بعض التجارب الاستعمارية التي مرّت بها المنطقة العربية، لكنّ الأمر هنا يتعلق بحالات خاصة تهم بالدرجة الأولى مرحلة الفتن والحروب والصراعات التي تكون فيها الدولة مهددة، لكنّ الأمر مغاير عندما تكون الدولة قائمة والسلم مستتباً، حينها يعود التديّن الصوفي إلى أصله في الممارسة، أي الذكر الفردي وحلقات الذكر الجماعي وجلسات التربية والوعظ، البعيد عن الغلو والتشدد والتطرف.

ـ نأتي إلى الملاحظة الثالثة، ولا تقلّ أهمية، وتهم على الخصوص أتباع التديّن الإخواني الذين يطرقون باب العمل الصوفي، ويأخذون مسافة نظرية وتنظيمية من المشروع الإخواني، حيث نلاحظ تغيراً صريحاً في الموقف من ثنائية النظام السياسي والدولة الوطنية.

تحوّل المتديّن نفسه نحو العمل الصوفي، بعد تطليقه النظري والتنظيمي للتديّن الإخواني، هو سبب مباشر وراء التحوّل الذي يطرأ على مواقفه بخصوص التعامل مع قضايا ومفاهيم النظام السياسي والدولة

ولاء مشايخ الصوفية لقضايا الأمّة منسجم مع الولاء للدولة الوطنية الحديثة، وهذا موقف لا يخرج إجمالاً عن مواقف أغلب فقهاء التراث الإسلامي، وهناك عدة أعمال بحثية اشتغلت على الموضوع، سواء منذ عقود أو منذ أعوام، لعلّ آخرها كتاب للباحث المغربي نبيل فازيو، تحت إشراف المفكر عبد الإله بلقزيز، صدر تحت عنوان "دولة الفقهاء: بحث في الفكر السياسي الإسلامي"، ومن خلاصاته انتصار الفقهاء للحفاظ على الدولة ضد تحديات الداخل والخارج التي تهدد وجودها، وقد ذهبت قراءة للباحث حسن طارق، إلى أنّ الكتاب يُعتبر محاولة ذكية للتحييد الموضوعي لاستراتيجيات الاستعمال الإيديولوجي والاستثمار السياسي التي تحاول استدعاء فقه السياسة الشرعية ومقولاتها، لبناء أفق سياسي، يكثفه شعار "الدولة الإسلامية".

ما هو معلوم مع الخطاب الإخواني حضور هاجس الدولة والسلطة والنظام السياسي، بخلاف الأمر على سبيل المثال مع الحركات الإسلامية الدعوية من قبيل بعض الجماعات السلفية أو جماعات الدعوة والتبليغ، حتى إنّ التديّن الإخواني يُصنف أو يوصف في بعض الدراسات بأنّه "إسلام سياسي"، بصرف النظر عن الخلافات النظرية المصاحبة لاستعمال هذا الاصطلاح، لأنّ بعض الدراسات، من قبيل كتاب المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، جاءت تحت عنوان "دولة الإسلام السياسي: وهم الدولة الإسلامية" (2017)، خصت بالذكر الحركات الإسلامية الجهادية أو القتالية في الكتاب، وليس الحركات والتيارات الإخوانية، لكنّ المؤكد هنا أنّ هاجس العمل السياسي وأسلمة السلطة السياسية، ومعها الدولة، هاجس جلي في خطاب المشاريع الإسلاموية الإخوانية، خاصة مع الأجيال السابقة، بما يقف على سبيل المثال وراء ترويج أدبيات "المرشد" و"البيعة" والولاء للجماعة قبل الولاء للدولة، ومن تابع ما جرى في أحداث كانون الثاني (يناير)، يستحضر بعض تداعيات وتطبيقات تلك الأدبيات.

تحوّل المتديّن نفسه نحو العمل الصوفي، بعد تطليقه النظري والتنظيمي للتديّن الإخواني، هو سبب مباشر وراء التحوّل الذي يطرأ على مواقفه بخصوص التعامل مع قضايا ومفاهيم النظام السياسي والدولة، وإضافة إلى تراجع مؤشرات الحدة في خطابه، نعاين تراجعاً في موقفه الحدي من تلك المفاهيم أيضاً.

ونزعم أنّ ما سبق من ملاحظات يمكن أن يساعد الباحثين في قراءة بعض الأسباب التي تفسر عداء نسبة من الإسلاميين للتصوف، بصرف النظر عن وزن هذه النسبة، سواء تعلق الأمر بعداء مردّه إلى أسباب سياسية صريحة، وبالتالي مردّه إلى أسباب إيديولوجية، أو عداء مردّه إلى أسباب عقدية، فقهية صريحة، وهذا موضوع آخر.

مواضيع ذات صلة:

الكتابة عن التصوف: فوارق الداخل والخارج

نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

هل ينجح التصوف الفردي بديلاً للطرقية؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية