تمثلات السرديات الكبرى والمضادة في حرب غزة

تمثلات السرديات الكبرى والمضادة في حرب غزة

تمثلات السرديات الكبرى والمضادة في حرب غزة


04/05/2024

يعد مفهوم السرديات مفهوما حديثا نسبيا، طرحه الفرنسي  ليوتار في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» عام 1979، ومع تطور الدراسات النقدية وتحليل الخطاب بمرجعيات العلوم الاجتماعية  أصبحت "السرديات"عنوانا في تحليل الخطابات السياسية والاجتماعية والدينية، لا سيما أن حضورها يزداد قوة وتاثيراً مع وقوع أزمات كبرى. فالسرديات الكبرى "تتمركز حول افتراضات مسبقة،لا تقبل بالتعدد والاختلاف حتى مع تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، وتنكر أية حقيقة خارجها، حتى لو كانت تنتمي  لزمن سابق ولا تسمح بالشك في مصداقيتها وتصر على أنها تحمل في داخلها تصورات شمولية للمجتمع والثقافة والتاريخ والكون، ودائما ما تكون السرديات الكبرى ذات طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد كل أنواع الخطابات الأخرى الممكنة»، ويتقاطع مفهوم السرديات الكبرى مع مفاهيم أخرى كالأنساق التاريخية "أو الفكرية أو الدينية أو الاعتقادية التي تصوغ رؤية شاملة للعالم"، ومفهوم الأرشيف، والسرديات المضادة، وكلها مفاهيم تحيل الحاضر والمستقبل إلى أفكار كبرى قارة غير قابلة للنقد، وتعد أحد ابرز مفاتيح التحليل النقدي للخطاب، الذي أرسى قواعده "فان دايك" وغيره من علماء اللسان، متوخياً، من خلال البنيات اللغوية، فضح المسكوت عنه في هذه الخطابات، وتمثلات السلطة والإديدلوجيا فيها، وكيف يتم بناؤها بالسائد بمضمرات أخرى.

الحرب الجارية بين إسرائيل وحماس، وبمرجعية الخطاب الإسرائيلي" ومعه خطابات غربية بمرجعيات سياسية ودينية ومقولات صراع حضارات" وخطابات حماس والمقاومة الفلسطينية"، ومعها خطابات إسلامية وعربية قومية وأخرى مختلطة تؤيد الممانعة" كشفت عمق هذه السرديات ومدى رسوخها في العقل الجمعي لدى الطرفين، لكنها في الوقت عينه أظهرت سرديات جديدة "مضادة"، تجهد لتهشيم تلك السرديات الغائرة في العقل الجمعي للخطابين، فالسرديات  لدى الجانبين أمام امتحانات وتحديات جديدة وصعبة.

السرديات الكبرى والمضادة في حرب غزة

فمن جانببها أعادت إسرائيل ومؤيدوها في الغرب إنتاج الكثير من السرديات في المستويات العسكرية والفكرية وأسباب الصراع  ومرجعياته، لعل في مقدمتها اجترار أن الحرب مع حماس والمقاومة هي حرب دينية بين الإسلام واليهودية، وإلصاق "الداعشية" بحماس، لحرف الأنظار عن كونها حركة تحرر وطني، كما تبع ذلك إعادة إنتاج العداء للسامية والتذكير بـ "الهلوكوست" ضد اليهود، ورغم ما يتضمنه خطاب حماس من تأكيدات على أن الحرب مع إسرائيل دينية، إلا أن المؤكد أن القضية قضية احتلال واستقلال، والمقاربة الدينية كلها على المحك، فالقرآن الكريم لم يكرم إثنية كما كرم اليهود، وإذا ما فككنا الصراع وفقاً لمقاربة المحرقة اليهودية، فإن ما جرى من تدمير وقتل جماعي للفلسطيين، يؤكد أن القيادة الإسرائيلية هي من يجتر المحرقة من موقع الفاعل لا المفعول به، وربما أظهرت الصورالأولى لطوفان الأقصى بعض السلوكيات التي مارستها المقاومة التي تشابه أساليب داعش، إلا أنه سرعان ما تمت إعادة النظر في تلك الصور ودلالاتها، سردية أخرى تم تحطيمها وهي قناعات إسرائيلية بأن المقاومة مجموعات خارجة على القانون وأن إسرائيل، بما تملكه من تفوق عسكري، ستقضي على هذه المقاومة خلال أيام.

على الجانب الآخر؛ فإن زعم حماس لم تنتج أية سردية جديدة باستثناء إنهاء سردية الجيش الاسرائيلي الأسطوري الذي لا يقه، فيما تمت المبالغة في تصوير صمود حماس بمقارنته مع الجيوش العربية، التي انهزمت غير مرة امام الجيش الإسرائيلي، ذلك ان حروب إسرائيل السابقة مع الجيوش العربية هي حروب جيوش نظامية وليست حروب عصابات، فالحرب من جانب حماس يمكن ان تخوضها مجموعة او عصابة باقل من "30" الف مقاتل، اما سرديات الصمود بالنسبة لحماس فهي موضع اختبار ،فحماس لم تعترف بشهدائها من القادة والعناصر العسكرية، وبقيت إسرائيل مصدر المعلومات الوحيد حول خسارات حماس في صفوف القسام القيادية، سردية أخرى تم كسرها، ويبدو ان قيادة حماس بنت خططها العسكرية على اساسها وهي ان إسرائيل لا تحتمل حربا طويلة، وربما هذه السردية اليوم امام سؤال كبير بعد مضي "7" اشهر على الحرب، فيما سردية جبن وخوف الجندي الإسرائيلي تطرح تساؤلات حول عدد قتلى الجيش الإسرائيلي فكيف يقاتل هؤلاء وما هي عقيدتهم وما هو حجم انتمائهم لدولتهم.

بقيت إسرائيل مصدر المعلومات الوحيد حول خسارات حماس في صفوف القسام القيادية، سردية أخرى تم كسرها

ورغم ان تغييرات يشهدها الراي العالمي تجاه الحرب في غزة، الا ما ينبغي التأكيد عليه أولا: ان هذا التغيير يعبر عن مصداقية غالبية الغربيين حول التزامهم بحقوق الانسان، لا سيما بعد ان أصبحت منظومة الحقوق هذه امام اختبار  مجازر المستشفيات وصور الأطفال والنساء، وثانيا: وخلافا لما يحاول اعلام الممانعة اظهاره، فهذا التضامن مع الشعب الفلسطيني الأعزل، وليس مع حماس ولا المقاومة المسلحة.

ورغم كل ذلك فان السردية الناشئة ، الأكثر أهمية ،على هامش هذه الحرب هي ان اليمين الديني المتطرف مهما كانت مرجعياته " يهودية ام إسلامية ام مسيحية" لا يملك اية حلول الا الحروب والقتل والدماء، وهو ما يطرح تساؤلات لدى الناخب الغربي حول دوافع منحهم الأصوات الانتخابية وايصالهم للسلطة، وضورة اجتثاثهم في المجتمعات التي تعيش نصف او ملامح ديمقراطية، فاليمنيون يتبادلون التبرير بقتل المدنيين، ولن يترددوا في استخدام أسلحة نووية واسلحة دمار شامل ضد بعضهما.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية