عزيمة المراكبية و"حقوق الإنسان"

عزيمة المراكبية و"حقوق الإنسان"


16/03/2021

رستم محمود 

لم تمضِ ساعات قليلة على إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثاني من شهر مارس الجاري ما اسماها "خطة عمل الإنسان"، حتى أصدرت اصدرت منظمة "فريدوم هاوس" تقريرها السنوي المُحكم حول الحريات في العالم، مُصنفة ومُعتبرة تركيا دولة وذات نظام سياسي وقانوني "غير حر"، حيث لم تسجل أدنى المعايير التقليدية التي يجب أن تُحققها أية دولة عادية، لو رغبة بنيل تلك الدرجة.

مستوان متعامدان من الأسباب، يثبتان أن إعلان الرئيس التركي لا يستحوذ على أية مصداقية فيما أعلنه من نوايا.

فجميع الوقائع تقول بأن السبب الوحيد لذلك الإعلان يتعلق بالتحولات الجيوسياسية العالمية التي يتوقعها أردوغان وحكوماته، وما قد تُحدثه من تأثيرات على مستقبلها السياسي. فالإدارة الأميركية الجديدة اعلنت بوضوح عدم قبولها لسلوكيات السلطة التركية، بالذات فيما خصل تجاوزاتها المريعة في ملف حقوق الإنسان، بحق المعارضين السياسيين والحريات المدنية والنساء والأقليات الدينية والقومية في البلاد.

كذلك شكل تعاضد الدول الأوربية في مناهضة سياسات تركيا أداة ضغط أخرى ضد السلطة التركية. توافق ذلك مع حملات الإعلان التي انتشرت في أكثر شوارع مدينة نيويورك ازدحاما وكتب فيها عبارات استهجانية من مثل "أوقفوا أردوغان" و "أوقفوا الجرائم بحق النساء في تركيا" وأخرى كانت تعبيرية تقول: " آلاف امرأة و780 رضيعا هم سجناء سياسيون في تركيا"، تلك الحملة الثقافية الإعلانية، التي من المتوقع أن تنتشر في أكثر من مدينة عالمية، تؤشر إلى مستويات الضغوط التي يُمكن أن تُمارس على السلطة الحاكمة في تركيا، فأصدرت تلك الخطة الخطابية، لتكون بمثابة إعلان مُغلف عن حُسن النوايا.

المستوى الآخر من الأسباب يتعلق بتفاصيل ومجالات تقرير مؤسسة "فريدوم هاوس" الموثوقة، والتي تُثبت في كل تفصيل منها بأن السلطة التركية مدعوة وقادرة على القيام بسلسلة كُبرى من الإجراءات في مختلف مجالات حقوق الإنسان، دون حاجة لإعلان أية خطة أو توجه، وأنها فقط تحتاج إلى امتلاك القليل من الإرادة السياسية في سبيل ذلك.

فمجالات تدهور حقوق الإنسان في تركيا لا تُختصر أو تُحصر في ملف فحسب، بل تكاد أن تكون تفصيلاً من كل أدوات ومجالات تداخل السلطة التركية مع مجتمعاتها الداخلية، وكل ذلك حسب معلومات ووثائق مرصودة ومُتابعة من قِبل المؤسسة العالمية. فتركيا حسبها الخلاصة الكلية تقود حملات مضايقات ضد السياسيين المعارضة، ومعهم أعضاء بارزين من المجتمع المدني ومنتقدي سياسات الحكومية الخارجية، التي يتهمها الناشطون الأتراك بالعدوانية، إلى جانب استهداف متعمد للصحافيين وأعضاء البرلمان والزعماء السياسيين، مثل صلاح الدين ديمرتاش وعثمان كافلا، اللذين تحولا إلى أيقونتين للحرية في ذلك البلد.

بهذا المعنى، فأن الخطة المُعلنة من قِبل الرئيس التركي تشبه مثالاً شهيراً في الثقافة الشعبية المصرية، يُسمى "عزيمة المراكبية". فحينما تلتقي المراكب الصغيرة للصيادين في نهر النيل، يقوم أحدهم بالإلحاح على الآخر لتلبية دعوته بالقفز على إلى مركبه وتناول الغداء، في وقت هو متأكد بأن المدعو لا يستطيع أن يفعل ذلك قطعاً، لأنه لا يستطيع مغادرة مركبته وتركها وحيدة، لذا تكون الدعوة مجرد خاطب هوائي وادعاء للكرم والشهامة، دون أية فاعلية.

سلطة الرئيس أردوغان، التي ستدخل بعد شهور قليلة عقدها الثالث، تشبه ذلك تماماً. هي فاقدة لكل الأهلية الموضوعية القادرة على تنفيذ مثل تلك التعهدات في مجال حقوق الإنسان، لسبب أولي يتعلق بالبنية الأساسي لهذه السلطة، القائمة على مجموعة من الأفعال القائمة على القمع وتحييد المنافسين وتضييق العمل المدني والحريات العامة، هذه القضايا التي فيما لو سارت بحرية وروية، فأنها ستتعاضد وتطيح بسلطة أردوغان، وتوجه كتلة من التُهم والدعاوى إلى فريقه الحاكم منذ عقدين، والذي تسبب بشبكة من الأزمات السياسية والدستورية والاقتصادية في البلاد.

الأمر الآخر يتعلق بما يتخيله أردوغان من ردود فعل مباشرة من قِبل القوى العالمية، بالذات الولايات المُتحدة ودول الاتحاد الأوربي، حيث يعتقد أن مجرد إعلانه سيكون كافياً لتغير رؤية واستراتيجيات هذه الدول تجاه منهجية أردوغان. متناسياً بأنه ثمة شبكة ضخمة من المؤسسات المدنية والحكومية مختصة، تصدر تقاريرها الدورية الدقيقة، وتعتمد على كتيبة من المؤشرات التي تراقب كل مناح الحياة، وتالياً فأن المسألة ليست مجرد نواي ومخادعات إعلامية وسياسية، بل تتعلق بالسياسات التنفيذية الواقعية على الأرض، فوحدها قادرة على تغيير مضامين تقارير ومؤشرات المؤسسات العالمية.

عن "سكاي نيوز" 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية