كيف عادت السلطة الفلسفة والفلاسفة في التاريخ الإسلامي؟

كيف عادت السلطة الفلسفة والفلاسفة في التاريخ الإسلامي؟


23/05/2022

دائماً ما ارتبطت الفلسفة بالسلطة طوال تاريخها بطريقة أو بأخرى، وتنوع هذا الارتباط ما بين الجذب والشد، والحماية والاضطهاد، ولم يكن تاريخ الفلسفة في الإسلام استثناءً من ذلك، بل قدم أبرز الأمثلة على هذه العلاقة. وقد أثرت هذه العلاقة بالإيجاب والسلب معاً على أحوال الفلسفة في ديار الإسلام.

إنّ الواقعة التاريخية التي يجب علينا الاعتراف بها هي أنّ ظهور الفلسفة ارتبط في العصر الإسلامي بالسلطة. كانت الفلسفة غريبة عن العالم الإسلامي؛ إذ نشأت في عصر سابق على الإسلام في بلاد اليونان، ومنها انتقلت عن طريق وسطاء سُريان إلى العصر الإسلامي. ودخلت بقرار سلطوي من الخليفة المأمون (توفي 218 هـ)، عندما أمر بترجمة كتب اليونان إلى العربية، ولم يكن من الممكن للفلسفة أن تدخل العالم الإسلامي إلا بهذه الطريقة، نظراً لأنّها لم تنشأ على أرضية الإسلام ولم تكن من العلوم الإسلامية الأصلية مثل؛ علوم اللغة والحديث والتفسير والفقه والأصول.

انتهى حضور الفلسفة بالعالم الإسلامي بتخلّي السّلطة عن حماية الفيلسوف، بل وبالسعي لنفيه وحرق كتبه

فالسلطة هي التي أدخلت الفلسفة في ديار الإسلام، وهي التي وفرت لها الرعاية والحماية، وهي أيضاً التي أنهت وجودها الذي كان غريباً آنذاك وغير مقبول من رجال الدين والعامة على السواء. لقد انتهى حضور الفلسفة في العالم الإسلامي بتخلي السلطة عن حماية الفيلسوف، بل وبالسعي لنفيه وحرق كتبه مثلما حدث مع ابن رشد (520 – 595)، أو قتله مثلما حدث مع السهروردي (توفى 586) الذي قتله صلاح الدين الأيوبي (532 – 589)، بعد وقيعة دبرها رجال الدين السنة؛ إذ ألقوا في روع صلاح الدين أنّ السهروردي يناصر الفكر الشيعي الإسماعيلي، أو ما كان يُعرف بالباطنية، في حين أنّ صلاح الدين كان قد أنهى الخلافة الفاطمية في مصر والشام والقائمة على العقيدة الشيعية الإسماعيلية، وأرجعها للخلافة العباسية ذات التوجه السنّي، مما جعل السهروردي يشكل خطراً على الدولة الأيوبية الناشئة، من وجهة نظر الأيوبيين، في حين أنّه كان بريئاً من أي علاقة مع الفكر الإسماعيلي.

ولم يقتصر دور السلطة على إدخال الفلسفة والأمر بترجمة أعمال الفلاسفة اليونان، بل كان أشخاص من السلطة يطلبون من المشتغلين بالفلسفة تقديم رسائل تعريفية بها، مثلما حدث مع الكندي (185 – 256) الذي كتب أول الأعمال الفلسفية العربية وهو "كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، وهو موجّه كما يتضح من العنوان للخليفة العباسي المعتصم بالله (تولى الخلافة من 218 إلى  227 هـ)، وهو ابن الخليفة المأمون الذي أمر بترجمة كتب الفلسفة.
كما كانت السلطة تأمر بشرح فلسفة اليونان؛ إذ بدأ ابن رشد في شرح مؤلفات أرسطو بتكليف من الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن (توفي 580هـ). كان يوسف قد كلف ابن طفيل بهذه المهمة، وبعد أن اعتذر ابن طفيل لانشغاله وكبر سنّه، رشح له ابن رشد. وعندما التقى ابن رشد بالخليفة الموحدي، سأله الخليفة عن آراء الفلاسفة في السماء أهي حادثة أم قديمة!! وكانت هذه من أشهر الإشكاليات التي تنازع عليها فلاسفة الإسلام من قبل، وسؤال الخليفة يكشف عن معرفته التفصيلية بالفلسفة، لا بالفلسفة الإسلامية وحسب بل وبكتب أرسطو كذلك والتي كانت غامضة في هذه المسألة. فتشكى الخليفة لابن رشد من "قلق عبارة أرسطو أو المترجمين عنه وغموض أغراضه في كتبه"؛ لقد كان خليفة الموحدين على علم تام بهذه الحقيقة، ومن ثم كلف ابن رشد بشرح كتب أرسطو يزيل غموضها ويوضح أغراضها!!!.  

كانت السلطة تكلف الفيلسوف بالرد على المذاهب المضادة مثلما كلف الخليفة العباسي المستظهر بالله الغزالي بالرد على الشيعة الإسماعيلية

كذلك كانت السلطة تكلف الفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة بالرد على المذاهب المضادة، مثلما كلف الخليفة العباسي المستظهر بالله الغزالي (450 – 505) بالرد على الشيعة الإسماعيلية التي كان دعاتها ينطلقون من مصر الفاطمية إلى العراق وإيران ناشرين أفكارهم هناك، فلما استفحل خطرهم على الخلافة العباسية كان الرد عليهم واجباً، فكتب الغزالي كتابه الشهير الذي يرد به على الدعوة الإسماعيلية "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، لمناصرة الخلافة العباسية في حربها الأيديولوجية مع الخلافة الفاطمية الإسماعيلية بمصر.

وكان الخطر مستفحلاً آنذاك؛ لأن الخلافة العباسية كانت مُحاصَرة من الشيعة الإسماعيليين من الشرق (إيران) والغرب (مصر الفاطمية)، حتى بدا وكأن العالم الإسلامي على شفا التحول إلى قبضة الشيعة الإسماعيليين إذا سقطت في يدهم الخلافة العباسية في العراق. وما كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي سوى جزء من هذه المواجهة الأيديولوجية، إذ يوجّه الغزالي هجومه في هذا الكتاب على فلسفة ابن سينا بوجه خاص، وهي التي كانت الدعوة الإسماعيلية توظفها لخدمة أغراضها. والجدير بالملاحظة في سياقنا هذا أنّ والد ابن سينا كان ينتمي للدعوة الإسماعيلية؛ إذ يذكر عنه ابن سينا أنّه "أجاب داعي المصريين"؛ أي استجاب لدعوة الشيعة الإسماعيليين التي كانت موجهة من الفاطميين بمصر ووصل دعاتها إلى بلاد فارس في عصر ابن سينا؛ كما يذكر ابن سينا في سيرته الذاتية أنّه كان يستمع منذ حداثة سنّه لهؤلاء الدعاة في مجالس مع والده. لم يكن ابن سينا إسماعيلياً، ففكره أوسع بكثير من الفكر الإسماعيلي، لكنه كان محاطاً بدعاة الإسماعيلية، وكانوا هم الذين تلقفوا فكره ووظفوه كأساس فلسفي لدعوتهم فيما بعد. وابن سينا كما قلنا هو المستهدف من "تهافت الفلاسفة" للغزالي.

وضع ابن باجة منهجاً يتبعه الفيلسوف المغترب عن مجتمعه ليحافظ به على فكره في ظل سلطة لا تعترف به

والحقيقة التاريخية التي يجب علينا الاعترف بها هي أنّ الفلسفة كانت غريبة عن ديار الإسلام، لما لاقته من اضطهاد رجال الدين والعامة، وكانت السلطة أضعف منهما واستجابت لضغوتهما واضطهدت الفلاسفة، فعاشوا في غُربة وانعزال. وهذا ما يكشف عنه عملان من أهم الأعمال الفلسفية العربية: "تدبير المتوحد" لابن باجة (487 – 533)، و"رسالة حي بن يقظان" لابن طفيل (توفي 581). في "تدبير المتوحد" يضع ابن باجة منهجاً يتبعه الفيلسوف المغترب عن مجتمعه ليحافظ به على فكره وعلى نفسه في ظل سلطة اجتماعية وسياسية لا تعترف به، فيعيش متوحداً منعزلاً عن السياسة والناس، وفي "حي بن يقظان" لابن طفيل، يتوصل حي الذي نشأ وحده في جزيرة منعزلة لحقائق الكون بعقله وحده وتفكيره الذاتي، أما عندما يلتقي بمجتمع (يُفترض أنّه مجتمع مسلم) في جزيرة أخرى، يفضل في تعليمه الفصائل والحكمة العقلية والأخلاقية كما تعلمها بنفسه، ويجد الناس هناك متمسكين بحرفية النصوص وبظاهر الشرع، فيعود مرة أخرى إلى جزيرته متوحداً منعزلاً. ولم يكن ابن رشد ببعيد عن هذه الحالة الانعزالية رغم ما يعرف عنه من اشتغاله بالقضاء والفقه؛ إذ يصف الأندلس في عصره بعبارة شديدة الدلالة؛ إذ يسميها "هذه الجزيرة النائية". لقد كان ابن رشد يشعر في الأندلس بأنه منعزل في "جزيرة نائية"، تماماً مثل حي بن يقظان، ومتوحداً مثل ابن باجة، والسبب هو وقوف السلطة مع العامة وفقهاء العامة ضد الفلسفة. وقد عانى ابن رشد العزلة الحقيقية لا العقلية وحدها عندما تم نفيه إلى أليسانة، وهي مدينة أندلسية صغيرة أغلب سكانها من اليهود. صحيح أنّ الخليفة الموحدي يعقوب بن يوسف المنصور قد عفا عنه بعد ذلك وأكرمه، إلا أنّ العفو نفسه يقف دليلاً على أنّ مصائر الفلاسفة في ديار الإسلام كانت دائماً في يد السلطة، إما بالنفي أو العفو، أو القتل.

لقد انتهى حضور الفلسفة في العالم الإسلامي عندما تخلّت السلطة عن حماية الفيلسوف. والحقيقة أنّ الحالة التي يعيشها العالم الإسلامي حالياً تهدد بتكرار مثل هذا السيناريو البائس؛ فالطرد والنفي والاضطهاد والمحاكمات والتكفير والتحريض على القتل لا يزال ينال من المفكرين. إنّ سلطة قوية في مواجهة من ينصبون أنفسهم رجال دين، سلطة ديموقراطية مدنية قائمة على مبادئ المواطنة وحماية حقوق الإنسان والحريات بكافة أنواعها، ومحايدة تجاه الأديان، هي الوحيدة القادرة على حماية الفيلسوف وعلى إعطاء الفلسفة فرصة ثانية كي تحيا وتتواجد في العالم الإسلامي.

مواضيع ذات صلة:

- ماذا يعني حضور الفلسفة في الفضاء المعرفي السعودي؟
- أصل الفلسفة اليونانية.. ابحث عن حكمة الشـرق
اللغة كترياق: هل يمكن تأسيس فلسفة دين استناداً إلى اللغة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية