ماذا يحدث في الدّراما المصريّة؟

ماذا يحدث في الدّراما المصريّة؟

ماذا يحدث في الدّراما المصريّة؟


13/02/2023

عمرو فاروق

يشهد الشارع المصري حالياً حالة من التفاعل الإيجابي مع القوالب الدرامية الفنية، في ضوء تناولها وتركيزها على الإشكاليات والقضايا الاجتماعية التي تمس جوانب من حياتهم اليومية، بعيداً من نماذج الإسفاف والابتذال التي روّجت لصورة مغلوطة عن الموروث الثقافي والنسق الشعبي.

ثمة تحولات في الدراما المصرية على مدار السنوات الخمس الأخيرة، في ظل انتقالها من دائرة الأعمال الفنية الهابطة التي تروّج للمفاهيم والانحرافات الشاذة، والتشويه المتعمد لفئات المجتمع وطبقاته، إلى سلاح قوي في إعادة توجيه الوعي الجمعي وضبط سلوكه العام.

يضع القائمون على الدراما المصرية حالياً في أجندتهم كيفية توظيف الفن في بناء المجتمع والحفاظ على هويته الفكرية والثقافية والتاريخية، وتقويم انحرافاته، بعدما تُركت الساحة خالية لسنوات طويلة أمام القطاع الخاص، وتوسعهم في إنتاج مضامين فنية وخيالية لا تقترب من الحقيقة ولا تشبه الواقع، وتخالف العادات والتقاليد والأعراف السائدة.

يمثل الفن في مخيلة الكثير من النقاد مرآة للواقع، لكنه يمثل كذلك منبراً تنويرياً في تشكيل الوعي المجتمعي وبناء اتجاهاته السلوكية السلبية والإيجابية، ومن ثم تلعب الدراما الفنية دوراً فاعلاً في خلق المحاكاة والتقليد الأعمى لدى قطاعات عريضة من الشباب التي تعتبر ما تشاهده على الشاسة الصغيرة تجسيداً لما يدور في قاع المجتمع، وجزءاً حقيقياً من التاريخ الإنساني المعاصر.

تعمد قصر إشكاليات الدراما الفنية المصرية وعقدها على المخدرات وزنا المحارم، والفساد الإداري والسياسي، والانحرافات الأخلاقية، والترويج للعنف و"البلطجة"، وثقافة "التكاتك"، تحول إلى منهج متبع لشركات الإنتاج الخاصة التي سعت إلى خلق حالة تسويقية تستهدف المكاسب المالية من دون مراعاة الأعراف والقيم المجتمعية والحفاظ عليها.

لا شك في أن الجهود التي تبذلها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية (أكبر كيان إنتاجي وإعلامي في القاهرة، ومملوكة للدولة المصرية)، خلال المرحلة الأخيرة، تمثل محاولة لضبط إيقاع الإنتاج الفني والدرامي وعودة دوره الريادي، من خلال إنتاج عشرات المسلسلات القائمة على المعاجلة الفنية للمشكلات الاجتماعية المتجذرة في العمق الشعبي، وتبنيها كذلك الحلول المعتدلة، وتأكيدها ثقافة التراحم والتواصل الأسري، والتفاهم والتفاعل الإنساني بين الدوائر المجتمعية، من دون الإخلال بالحبكة الدرامية، أو سقوطها في فخ التلقين والتنميط الخطابي الموجه.

إعادة الفنون الدرامية إلى مسارها الطبيعي ومساهمتها في بناء الجبهة الداخلية وتوحيدها، لم تكن المحطة الأخيرة في جعبة القائمين على "الشركة المتحدة" وشركائها من القطاع الخاص، بل توسعت في محاولة إبراز العبق التاريخي للدولة المصرية، وإبراز معالمها الآثارية والسياحية والفنية والثقافية، كنهج أساسي في مخاطبة الذاكرة البصرية، وخلق روح الانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة بعد سنوات طويلة من التغريب والتخريب المتعمد.

مسلسلات مثل "وبينا ميعاد"، و"إيجار قديم"، و"راجعين يا هوى"، و"أعمل إيه"، و"جروب العيلة"، و"في كل أسبوع حكاية"، و"أبو العروسة"، و"جروب الماميز"، و"العيلة دي"، و"جزيرة غمام"، و"إلا أنا"، و"ملف سري"، و"جروب الدفعة" و"قمر هادي"، وغيرها، لم تكن سوى مشاريع فنية تناقش قضايا اجتماعية في ضوء مساحة من التوعية المستنيرة البعيدة من الابتذال.

لم يغفل القائمون على الإنتاج الفني في القاهرة توظيف الخطاب الدرامي في معالجة المفاهيم الوطنية، عبر مسلسلات مثل "الاختيار"، بأجزائه الثلاثة، و"هجمة مرتدة"، و"العائدون"، و"القاهرة كابول"، التي وثّقت جهود الدولة في مواجهة الجماعات الإرهابية، وحاولت تفكيك التوجه الفكري والأيديولوجي لتيارات الإسلام السياسي والحركات الأصولية، في مقابل ترسيخ مفردات الدولة الوطنية.

ربما أكثر ما يلحظه الشارع المصري حالياً أن الدراما تحولت إلى رسالة وعي وتثقيف وتنوير للأجيال الجديدة، وذلك من خلال عرض مقاطع تحمل إبداعات تراثية لمشاهير الفن والثقافة والمعرفة والدراما والإعلام والسينما والغناء المصري، وتقديمها وجبة دسمة في فواصل المسلسلات، على مدار ساعات اليوم، بهدف تعزيز الهوية الفكرية والثقافية للدولة المصرية وتكريسها.

الثورة الإبداعية التي يقودها القائمون على الشركة المتحدة، وعلى رأسهم الكاتب والإعلامي يسري الفخراني، مثلت صمام أمان في مواجهة "موجات التغريب" التي شهدها الشارع المصري، لا سيما منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، وانحراف الإنتاج الدرامي عن مساره ودوره وواجبه في حماية المجتمع، وتحوله إلى سوق كبيرة لغسيل الأموال المشبوهة، والأموال الخارجية الموجهة لتنفيذ سيناريوات "الغزو الثقافي الفكري".

رغم التكلفة المالية الرهيبة للأعمال الفنية، لم يضع صانعو المحتوى الدرامي خلال السنوات الأخيرة المكسب المادي هدفاً أساسياً في رسالتهم الإعلامية والدرامية الموجهة للداخل المصري والعربي، بقدر ما يرغبون في استعادة الدور الفاعل للقوة الناعمة للدولة المصرية، من خلال إنتاج مضامين تخاطب العقل والمنطق، وترتقي بالدوافع السلوكية، بعد انحدارها ووقوعها في مستنقع خطاب فني درامي يروّج للعنف والقتل على مدار سنوات طويلة.

تحمل معظم الأعمال الدرامية للشركة المتحدة، على هامشها، قالباً آخر يتضمن توثيقاً لمشاهد خارجية، التُقطت بطائرات "الدرون"، في محاولة لصناعة ذاكرة بصرية للمعالم التاريخية والأثرية للدولة المصرية، فضلاً عن توثيق معالم القاهرة الحديثة، وتوسعاتها الأفقية ومدنها الجديدة، ومشاريعها القومية.

على خطى التطور الدرامي، صعد إلى المشهد عدد من الكتّاب والمؤلفين والمخرجين المشاركين في تلك الملحمة الوطنية على المستوى الفني والاجتماعي، أبرزهم: عبد الرحيم كمال، وباهر دويدار، وهاني سرحان، وهاني كمال، ودعاء عبد الوهاب، وباسم شرف، ومحمد الحناوي، وعمرو الدالي، وبيتر ميمي، وأحمد علاء الديب، وأحمد نادر جلال، وكمال منصور، ومنال الصيفي، وحسام علي، ومحمد سلامة وغيرهم.

ما زال الشارع المصري ينتظر من القائمين على الإنتاج الفني والإعلامي في القاهرة، تقديم المزيد من الأعمال الدرامية التي تلامس حياتهم وقضاياهم، وتقتحم بيوتهم دون قلق أو خوف مما تطرحه على أسرهم وأبنائهم، وتعيد إلى مخيلتهم جماليات روح الانتماء التي اختفت واندثرت معالمها.

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية