هل يبرر الخراب مغادرة الأرض؟

هل يبرر الخراب مغادرة الأرض؟


23/01/2022

إنّ سيناريو فناء الأرض وتداعيات ذلك ألهم ومايزال يُلهم الكثيرَ من المخيّلات الجادّة، وربما يكون فيلم interstellar الذي عُرض العام 2014 أحدَ أهمّ الأفلام التي طرحت هذه الثيمة؛ فكوكب الأرض أخذ يحتضر بفعل الهجمات الغبارية، وآفاتٍ تتكاثر في هواء الأرض الفاسد، جعلت الحياة البشرية تلفظ أنفاسها، مّما دفع وكالة ناسا إلى إرسال مجموعة من رواد الفضاء في رحلة استكشاف إلى مجرّة أخرى، وعبر نفق دودي للعثور على كوكبٍ جديدٍ يكون بديلاً عن الأرض.

الفيلم الذي حصد الكثير من الجوائز، وطرح بالفعل الكثير من التساؤلات الفيزيائية المعقدة حول العالم والزمن والوجود والعدم ونظرية العوالم الموازية، التي يعمل العلماء على فهم معادلاتها وتأثيراتها الشبحيّة، هذه التساؤلات بمجملها حفّزت الأقلام النقدية للكتابة عن أوجه الفيلم المتعددة، لا سيما أنه نال أيضاً جائزة أوسكار عن أفضل فيلم للتأثير البصري، عبر عوالم الفضاء المدهشة التي صوّرها.

   الفيلم طرح تساؤلات فيزيائية معقدة حول العالم والزمن والوجود والعدم ونظرية العوالم الموازية

من اللافت أنّ معظم الحلول التي طرحها الفيلم لمعضلة فناء الأرض تموضعت خارج نطاق غلافنا الجوّي، فهل كان هذا يدلّ على إهمال متعمّد للحلول التي يمكن اتخاذها ما تحت  هذا الغلاف؟ ففي حوار كوبر والد مورفي مع معلمتها حول مشاكلها في المدرسة، تقول المعلّمة رداً على تطلّعات ابنته الفضائية: "الصعود إلى القمر كان حملة إعلامية ذكية جعلت السوفييت ينفقون أموالهم على الصواريخ والآلات عديمة الفائدة، لنتفادى التبذير الذي حدث في القرن العشرين، علينا أن نعلّم أبناءنا عن هذا الكوكب، وليس حكايات عن كيف نغادره"، فيجيبها كوبر: "من الآلات عديمة الفائدة اختُرع جهاز الرنين المغناطيسي، الذي لو كان متوفراً الآن لاستطعنا تشخيص مرض زوجتي باكراً قبل موتها".

 المنطقان اللذان بدأ الفيلم بهما استمرّا في كل حواراته الوجودية، منطقُ من يبحث عن الحلّ على الأرض، ومنطق من يبحث خارجها، ورغم تخاصم المنطقين إلّا أنهما كانا متفقين على أنّ العلم والتقنيّة هما وسيلتا إنقاذ البشرية، ولكن منطقاً يريد استثمارها على الأرض والآخر خارجها، وبمنهجيّة ذكيّة أقصى الفيلم المنطق الأول لصالح الحلّ خارج الكوكب، حتى أنّ طريقة تقديم المشهد توحي إلى دفع المشاهد للتعاطف مع الأب وابنته، مقابل تكوين صورة عن المعلمة بأنها لا تحترم وتقدر ذكاء الطفلة مورفي، ولا تقبل التفكير خارج الصندوق.

 مع أننا في اللحظات الأخيرة من الفيلم عندما تجول الكاميرا في محطة مورفي الجديدة نظنّ أنّ هذه المحطة هي كوكب الأرض وقد تمّ إصلاحه، ولكننا سنرى أنّ إجابة المعلمة التي تدين الإنفاق الذي حدث سابقاً على غزو الفضاء والذي كان يجب استبداله بالإنفاق على الاهتمام بالأرض، بقيت على الهامش ولم تتجاوز هذا المشهد، ورغم ذلك سنلمس أثر المنطق المقموع في كثيرٍ من جمل الفيلم وأحداثه، خاصةً أنه يمكننا أن نستنتج خلال الفيلم، أنّ الكواكب التي عُثر عليها ستكون كلفة البقاء عليها أكبر بكثير من كلفة إصلاح الأرض التي مازالت المحاصيل تغمرها، هذا على الأقل ما صوّره الفيلم، من دون التطرّق إلى درجة العطب الذي أصاب الأرض أو تفاصيله، ليترك مهمة إصلاح الأرض على الهامش أيضاً.

  اللافت أنّ معظم الحلول التي طرحها الفيلم لمعضلة فناء الأرض تموضعت خارج نطاق غلافنا الجوّي

 "اعتدنا أن ننظر إلى السماء ونتساءل عن مكاننا بين النجوم، الآن نحن (في الفضاء) ننظر فقط للأسفل، قلقون حول ذاك المكان الغارق في الأوساخ".. إنه الطموح الذي لا يُلجم جعلنا نختنق على الأرض، بينما أعيننا في السماء، إنه نفس الطموح الذي جعل من الدكتور براند يقول: " علينا أنّ نفكّر لا كأفراد بل كنوع"، لقد خان د.براند الإنسانيّة لينقذ البشرية، عبر مشروعه في استمرار الحياة الإنسانيّة على كوكب جديد، بينما المعلمة أرادت أن نفكر كأفراد للحفاظ على النوع البشري، كأفراد يصنعون خياراتهم ولا تُفرض عليهم، إنها الوحيدة التي أشارت في الفيلم ـــ وإن كانت إشارة مقتضبة ـــــ أنّ كوارث اليوم هي حماقات الأمس.

 إنّ هدف البعثة إذن، لم يكن لإنقاذ ما تبقى من سكان الأرض، عبر غزوٍ جديدٍ للفضاء، وإنما أخذ بويضات بشرية من أجل مشروع جديد للتكاثر في الكوكب الجديد لحفظ النوع البشري واستمراره، الأمر الذي لم يعرف به "كوبر" بطل الفيلم إلّا بعد أن تجاوز حدود مجرتنا، فهدفه كان يتمحور حول عودته إلى كوكب الأرض لينقذ طفليه، لقد وُضع "كوبر" أمام خيارين مأزقيّين، ما بين رؤية أطفاله مرةً أخرى أو مستقبل الجنس البشري، وهذا يعني التخلي عن أسرته أو التخلي عن جنسه. أتخيل لو كنت مكانه كنت سأتذكر إجابة المعلمة، وأسخر من إجابتي الهشة التي لم أكن أرى حينها غير الوجه المشرق للعلم. أن نفكر كأفراد هو أن تتسع إنسانيتنا وفرصها، والتفكير كنوع هو التخلّي عن الفردية التي تحمي إنسانيتنا وتصون بيئتها كاملةً.     

    واقع يعبق بالحروب والكوارث بينما عجلة العلم تدور في الفضاء وتدير ظهرها لصرخات الجائعين

 هذا التقدم الهائل للعلم وتقنياته كان بالإمكان تسخيره لإصلاح الأرض، وكان بإمكان الفيلم أن يتبنى المنطق الأول: منطق المعلمة بأن نعلم أطفالنا أن يهتموا بالأرض بدل التفكير في مغادرتها، ولكن كان هناك إصرارٌ على المضي بعيداً، في نفس المغامرة الفاشلة للحفاظ على النوع وعلى امتيازاته الهرمية، كما هو واقعنا الذي يعبق بالحروب و المجاعات والكوارث والتغيّرات المناخية، بينما عجلة العلم تدور في الفضاء، وتدير ظهرها لصرخات الجائعين وصوت المعلمة الهادئ.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية