وقفة مع المفكر العربي الدكتور محمد عثمان الخشت

وقفة مع المفكر العربي الدكتور محمد عثمان الخشت

وقفة مع المفكر العربي الدكتور محمد عثمان الخشت


24/01/2024

في الوقت الذي ذهب فيه كل فريق مذهبه في التعاطي مع الدين نشأة وفلسفة وغائيّة يقدم الدكتور محمد عثمان الخشت مقاربة فلسفية حول مفهوم فلسفة الدين بأنّه "التفسير العقلاني لتكوين وبنية الدين عبر الفحص الحر للأديان، والكشف عن طبيعة الدين من حيث هو منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة، ومن حيث هو نمط للتفكير في قضايا الوجود وتحديد طبيعة العلاقة بين كل مستوى من مستويات الوجود والبحث في الطبيعة الكليّة للقيم والنظم والممارسات الدينية".

والدكتور الخشت يقرر أنّه يمكن دراسة الدين بمناهج علميّة متعددة، وفقاً لرؤية كل علم من العلوم للدين؛ مناهج علم النفس، مناهج علم الاجتماع، وتاريخ الأديان... إلخ، مشيراً إلى إسهامات الفلاسفة المعاصرين في هذا المضمار، مثل فرويد في كتابيه: "القلق في الحضارة" و"مستقبل وهم"، وأيضاً إريك فروم في كتابه "الدين والتحليل النفسي".

هذه رؤية فلسفيّة من وجهة نظره كفيلسوف ومفكر، قد تتعارض ـ بطبيعة الحال ـ مع رؤى رجال الدين التقليديين الذين يرون في الدين قيمة مطلقة، بعيداً عن "المعيرة" و "القياس" ومناهج العلوم... وتتقاطع جزئياً أيضاً مع ما ذهب إليه (كانط) في رؤيته "الدين العقلي الأخلاقي المحض" حيث أخضع تعاليم الدين للعقل، "الدين في حدود العقل وحده"؛ مفرقاً بين نوعين من الإيمان: الإيمان الأخلاقي الفلسفي، والإيمان الديني، فالأوّل ـ كما يرى ـ قائم على العقل العملي، والثاني مؤسس على الوحي الإلهي. الفلسفة تتعارض مع الدين أساساً، ولكي نجمع بين الدين والفلسفة يجب أن نعدل إلى صياغة معادلة تأويلية عقلانية محضة. يوحد الخشت المفهومين معاً، كمنظومة واحدة، ربما تأثر هنا بالرشدية التي تقرر واحدية الشريعة والحكمة "الفلسفة". وهي الرؤية المتقدمة التي جلبت الخصوم على ابن رشد آنذاك، وحتماً ستجلب الخصوم من رجال الدين التقليديين على المفكر الخشت. الأمر طبيعي أساساً في سياق الجدلية التاريخية بين الفلاسفة والمفكرين من جهة، ورجال الدين التقليديين من جهة أخرى.


بصفته مفكراً وفيلسوفاً يدعو الدكتور الخشت إلى تأسيس خطاب ديني جديد، متوائم وفلسفة العصر، ومع المتغيرات الجديدة

الدين عامل من عوامل القوة والدفع الحضاري وفقاً للخشت، فقط يتوقف الأمر على توظيف القيمة الإيجابية في الدين واستغلالها، بعد إعادة بناء التصورات الدينية السليمة، وإذن فرؤى "كانط" هنا لا تصمد إذا قيست إلى الدين الإسلامي، رؤاه تلك "مفصلة على النص الإنجيلي خاصة، والكتاب المقدس عامة". كما هو الشأن لدى هيجل الذي فند رؤاه تجاه الدين الإسلامي، متهماً إيّاه بعدم التضلع في فلسفة الإسلام وتعاليمه؛ بل يتهمه بالانحياز المبدئي والافتقار ـ في أغلب الأحيان ـ للموضوعية العلمية، مستقياً أفكاره عن الإسلام من خلال الصور السائدة عنه في الغرب.

الخشت... نحو تأسيس خطاب ديني جديد

بصفته مفكراً وفيلسوفاً يدعو الدكتور الخشت إلى تأسيس خطاب ديني جديد، متوائم وفلسفة العصر، ومع المتغيرات الجديدة، خروجاً من حالة الركود الفكري التي نقبع فيها منذ عقود طويلة؛ أي إلى لوثرية إسلامية شاملة في مختلف مناحي الحياة، بعيداً عن "ترقيعات" رجال الدين التقليديين الذين يقتصرون في دعاواهم على تجديد الخطاب التقليدي السائد؛ لأنّ هذه العملية لا تعدو أن تكون مجرد مجاراة ولحوقاً بالمتغيرات، وهي عملية لا تصنع وعياً ولا تضيف معرفة، ما دامت تجري خلف المتغيرات، لا تصنع المتغيرات. إنّه يدعو إلى أن يكون الخطاب الإسلامي نفسه فاعلاً قائداً مؤثراً بصورة مباشرة، لا مجرد تفاعل مع الآخر، ولحوقاً بظله. وهي الدعوة التي أطلقها مفكرون كبار منذ عقود، كالمفكر الفيلسوف مالك بن نبي، وكالفقيه المستنير الشيخ محمد الغزالي وغيرهما.

في الواقع يكاد يكون صوت الدكتور الخشت اليوم هو الصوت الأندى على الساحة العربية والإسلامية؛ داعياً إلى تعزيز قيم العقل، وناقداً الجمود والتقليد الذي مثل ويمثل سرطاناً عقلياً للأمّة. داعياً إلى روح الدين، لا القشور الخارجية التي يتشبث بها بعض المتفقهين "النصوصيين"، فيسيئون إلى الدين وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً؛ مؤسساً لمدرسة فكرية فلسفية جديدة في صناعة الوعي القائم على أسس علمية منهجية محكمة، بعيداً عن العواطف التي تستبد بكثير من رجال الدين، وخاصة المشاهير منهم الذين يطربهم تصفيق العوام من الناس، لا لمنطقهم العقلاني المنهجي، وإنّما لخطاباتهم العاطفية التي لا تبني وعياً ولا تصنع معرفة. وهي ظاهرة تاريخية نلمحها ـ بوضوح ـ عبر تاريخ الوعظ الديني الذي اتخذ شكل الحرفة والمهنة في كثير من المحاطّ التاريخية، وما يزال.

التحية والتقدير للجهود الفكرية الكبيرة التي قدمها، ويقدمها المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عثمان الخشت من وقت طويل، وهي جهود مثمرة وخلاقة، لم يقتصر صداها على مصر فقط؛ بل على المنطقة العربية قاطبة.

مواضيع ذات صلة:

صعود التطرف الديني وانحسار الفلسفة

اللغة كترياق: هل يمكن تأسيس فلسفة دين استناداً إلى اللغة؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية